ميشيل فوكو في كتابه (الجنون في العصر الكلاسيكي), يتطرق إلى حالة الجنون الذي انتاب أوربا بشكل عام, وفرنسا بشكل خاص في العصر الكلاسيكي, مركزاً على جائحة مرض الجذام كمرض بيولوجي, وما فرضه هذا المرض من جنون أو خلل في بنية الاستقرار الاجتماعي عند مصابيه أولاً, ثم عند حالات معالجته من قبل الدولة والكنيسة ثانياً. حيث بين في عمله الفكري هذا, كيف عاشت فرنسا مثلاً جنون هذا المرض الوبائي الجرثومي في تلك الفترة, وكيف راحت السلطات الحاكمة تعالج هذا المرض عن طريق عزل المصابين به أو طردهم خارج المدينة, والأهم كيف راح الأدباء يجسدون هذا (الجنون المرضي البيولوجي) الذي شكل كما قلنا هاجساً جنونياً عند الجميع آنذاك بشكل عام, وعند الأدباء بشكل خاص, إذ بدأت تظهر أعمال أدبية تحت مسميات مرتبطة بهذا الجنون مثل, (سفينة المجانين ) و (سفينة الحمقى) و (مشفى المجانين).. وغير ذلك من تسميات.
نقول: إذا كانت هذه هي حالة الجنون التي عاشتها فرنسا في العصر الكلاسيكي كما صورها “ميشيل فوكو”, فتعالوا نتابع ما حققته الثورة الصناعيّة في أوربا من جنون لشعوبها.
إن من يتابع قيام الثورة الصناعيّة وما حققته من نتائج علميّة ساهمت في القضاء على الكثير من الأمراض الجسديّة ومنها الجذام من جهة, يجد أن هذه الثورة من جهة ثانية أخذت تفرض أشكالاً أخرى من الجنون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, بحيث راحت مع هذه الأشكال من الجنون تظهر أعمال أدبية وفنية وأخلاقية وفلسفية, تضمنت متونها كل هذه الأشكال المرضية الجسديّة منها والنفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والعقليّة.
إن من يتابع حالات الجنون وأشكاله في أوربا التي ارتبطت مع السياق التاريخي لتطور هذه الثورة الصناعيّة, يجد أن الجنون الذي أصاب المالك والمنتج والمستهلك في تلك الثورة, كان نتاج آليّة عمل هذه الثورة الصناعيّة والمشرفين على قيادتها اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً, حيث نقلت الثورة معظم بنى المجتمع إلى مرحلة تتناسب في طبيعتها مع التطور العلمي/ التكنولوجي وغيره من العلوم. وبالتالي فإن ما حققته هذه الثورة الصناعية في مراحلها التاريخية السابقة واللاحقة من جنون, أصبح أشد قساوةً وانتشاراً بفعل استغلال الإنسان واستلابه وتشييئه وتغريبه وتحويله إلى ترس في آلة هذه الثورة ومفرزاتها, وخاصة مع التاريخ المعاصر لهذه الثورة الصناعية وما رافقه من تطور علمي هائل راح يتحكم في كل مفاصل حياة الإنسان الماديّة والروحيّة, الأمر الذي ساهم في ظهور أمراض (جنون ما بعد الحداثة), ممثلة بسيادة القطب الواحد والقوى الاجتماعيّة الحاملة لمشروع هذا القطب, وهي الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة وشركاتها المتعددة الجنسيات, ومن تلتقي مصالحه مع مصالح هذه الطبقة على مستوى عالمنا العربي من ساسة ورجال أعمال. فمع هذا التطور العلمي غير المنضبط أخلاقياً, والذي أصبح الربح والربح فقط هو الموجه لحركته وفعاليته, دخل العالم كله في جنون جديد أصبحت معالم الموت والعبث والغرائزية واللامعقول, هي الأكثر حضوراً في بنية الدولة والمجتمع بشكل عام, وحياة الفرد الذي تذرر بدوره وفقد تماسكه البنيوي عقلاً وفكرا وجسدا وطموحا بشكل خاص, حيث تحول إلى ذرة ليس له طعم أو لون أو قيمة, إلا لون وطعم وقيمة ما يحدده له قادة المشروع الرأسمالي الاحتكاري ونظام القطب الواحد السيئ الصيت, عبر إعلامه وتربيته وثقافته وصناعته.
جنون وطننا العربي:
إذا ما أخذنا أيضاً بجنون فوكو وسفن مجانينه, وسفن جنون الثورة الصناعيّة بكل تجلياتها الأخلاقيّة والنفسيّة والعقليّة والجسديّة والعرائزيّة, وحاولنا أن نبحث عن تاريخ جنوننا نحن بكل أشكاله ودلالاته, لوجدنا أن لجنونا شكلاً أخر أكثر عمقا وتعدداً في أشكاله ودلالاته. فجنونا منذ مئات السنين مركب في بنيته وتجلياته ودلالاته… فهو جنون استعمار واستغلال وفقر وجوع ومرض بيولوجي وقيمي, وهو جنون نفسي وعقلي وفكري وسياسي ذي نزعة سلطانيّة مملوكيّة استبداديّة شموليّة حاكمة بأمر الله, وهو جنون تخلف اقتصادي واجتماعي وثقافي. عشناه تاريخياً ولم نزل, حتى تحول إلى حالة من (الطوفان الجنوني), الذي أصبحت معظم سفنه سفن مجانين, تختلف في حمولاتها عن معظم أشكال ودلالات حمولات سفن جنون تاريخنا السابق عليه. فمنذ أن حملت سفينة نوح على متنها كل صاح من الناحية العقليّة ويمثل قيم الفضيلة, جاءت معظم حمولة سغننا اللاحقة مليئةً بالمجانين, وها هي اليوم مع ما سمي بثورات الخريف العربي راحت تلقي من على متنها ما تبقى من الصالحين, ليبقى فيها من تضخمت عنده شهوة الغريزة والرذيلة بكل دلالاتها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة… إنها سفن (مجانين) القتل على الهويّة الدينيّة والطائفيّة والحزبيّة والعرقيّة.. جنون الخيانة والتآمر مع الخارج على الوطن… جنون المتاجرة بالوطنيّة والقوميّة والدين.. جنون المتاجرة بالأخلاق والفضيلة.. جنون المتاجرة بالعرض والمخدرات ورغيف الخبز… جنون الهروب من الوطن والبحث عن عالم آخر مشبع بطعم الغربة الروحيّة والجسديّة, والملفع برداء الذل وفقدان الهويّة والكرامة.. جنون التفاوت الطبقي بكل مرارته .. إناس تعيش في القصور الفارهة, وطعام كلابها أو قططها يكفي العديد من الأسر المعدمة التي فقدت منازلها ومعيليها, وراحت تبحث في حاويات القمامة عن لقمة عيشها الذليل.
هذا هو جنون عالمنا العربي اليوم.!!. فأي سفينة أو أساطيل سفن قادرة على حمل هذا الجنون,؟. وأي رجال من البشر هؤلاء الذين يقودونها؟. وأي مشاف قادرة على استيعاب المصابين بهذا الجنون الذي لم يوجد لا عند قوم نوح ولا عند قوم صالح ولا عند قوم لوط, أو عند أي شعب من شعوب الأمم لا ماضياً ولا حاضراً.
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سوريا.