مد يده إلى رفوف مكتبة العائلة الكبيرة، فأخذ كتابا غريب العنوان. اللوحة الفنية على غلافه الخارجي تثير الاندهاش، وتنفتح عليها الأنظار بسرعة، محملقة في خباياها المقلقة. توحي بمعان تستفز الفضول، وتستنفر التفكير، وتغرق عيني مصادفها في سهاد وذهول عميقين. في أعلى الصورة، كتبت عبارة “قصة حقيقية”، ليتوسطها عنوان عريض بخصائص تخرج القارئ عن وضعه النفسي العادي، ليجد نفسه متلاطما بعنف مع الجزع والغم. بكلمات عربية بارزة الإيحاء، زخرف العنوان بالحرف الكوفي وأدواته، وانتصب هكذا في مساحة بارزة: “أغوياء السياسة ومصائر الأبرياء”. أرز أصابعه بشدة التوتر، لتتصارع نبضات تخميناته وفرضياته حول المضمون والمآل. لم يكن في البداية مرتاحا ومستعدا لقراءته خوفا من الصدمة. عذل نفسه عذلا أولعه وأضنى قلبه وأوجعه، فأسر لهواجسه المزدحمة : “هذا كتاب حياتك يا فرح“. قرأ بتمعن صفحته الأخيرة، بمثابة تقديم وملخص، فانقبضت نفسيته. استحضر جرأته الصادقة في السياسة والعمل الإداري. تقوت عزيمته جراء ما استوحاه من عباراتها من معان وعبر.
تأبط الكتاب، وزود حقيبته الظهرية بقنينة ماء وبعض الفواكه. أخذ دراجته الهوائية التي تبعده دوما لساعات في اليوم عن ضجيج المدينة، وانطلق إلى الغابة المجاورة. وصل إلى مكانه المعتاد، جلس فوق صخرته المألوفة، وغاص في قراءة الأسطر بتأن وتمعن. هو كتاب حكاية واقعية لشابين مولوعين بالسياسة. افترقت بهما سبل منطق التفكير والسلوك والمواقف. لحمة الشعب، بالنسبة للسيدة ميرا سديم، سواء كانت متعفنة أو رجعية أو قابلة للتغيير من عدمه، لا تبرر أي موقف سياسي يعاديها أو يستغلها، بل تستحق التقدير والاحترام والنضال من أجل ديمومة ربطها بالثقافة الديمقراطية والسلطة، بينما يرى فيها السيد إبريز ليا فضاء للتأمل والفحص والبحث عن مكامن الضعف من أجل تكييف المواقف الميسرة لتموقع الذات وضمان رفاهيتها، مع إبراز قابلية الفاعل الصريحة لدعم الأمير والدفاع عن استمرارية النظام. كلاهما موظفان في المرفق العمومي في وزارة التنمية وحفظ الأمن الداخلي والخارجي لبلدهما.
ابتدأ الكتاب بسرد أحداث التنشئة في مرحلتي الطفولة والشباب. ميرا وإبريز، كلاهما كباقي أغلب أبناء جلدتهم من أبناء الشعب، ترعرعا بين عشائر الفقر والتهميش، باحثين عن اكتساب المهارة والخبرة لإيجاد مبررات مقنعة للحياة لا للموت، ومضاعفين الجهود، بسعة نظر وحس مرهف، لقصل براثن الحزن في نفسيتهما، وتطويعه بالبحث الدائم عن منافذ لمعانقة دوائر الرحابة والفأل والعالم الأوسع. لعبا سويا، وتحملا ويلات الوضع المزري الغارقين فيه منذ المهد. لقد احترقت أرجلهما بشدة حرارة الصيف داخل البوت البلاستيكي، ونزلت على رؤوسهما وعلى أيديهما المقلوبين (الجهة المقابلة لكفيهما) عصا الأساتذة المخنوقين بالروائح الكريهة المنبعثة منها. تبرع الأساتذة وتم اقتناء عدد من الصندل البلاستيكي، وتم تخصيص واحدة لكل تلميذ فقير. قبل بداية الدروس، أصبح الصديقان ملزمان بالخروج من الفصل والتوجه إلى المرحاض لغسل أرجلهما بالماء والصابون، والعودة إلى طاولتيهما. يلتقيان كل يوم في ساحة المدرسة والحي القصديري الذي يقطنونه. في صبيحة أيام معدودات من سنوات تعليمهما الابتدائي، كانا يصطفان متكئين على حائط منزل مقابل للشمس في حيهما، أو ينتظرا توقيد أميهما المجمر بالخشب أو الفحم أيام شهور فصل الشتاء القارس، لتجفيف سرواليهما المعتادين قبل الذهاب إلى المدرسة. إنهما سروالان قاوما حر الشمس وقسوة البرد ومغامرات اللعب ومخاطرها، ليستسلما لإبرتي أميهما المضطرتين لترقيعهما من جهتي المؤخرة والركبتين.
في سنوات الكتاب، كان التجانس في العيش والملبس سائدا بين المتعلمين. لكن، في سنوات الدراسة الابتدائية، خيم على حديث الصديقين، رغم صغر سنهما، سؤال ظهور التباين في هيئات وسلوك التلاميذ. لقد استغرب كل من ميرا وإبريز من سرعة التحولات في جودة معيش عدد من أسر رفاقهم ورفيقاتهم. فبعدما ساد التجانس بينهم لسنوات، اشتد اللاتجانس في الإعدادي والثانوي، واشتد التباين في تحليل الظاهرة بين الصديقين. لقد أصبحا عرضة للاستهزاء والإهانة والسخرية من منظرهما داخل المؤسسات التعليمية وخارجها. تجلدت ميرا وقاومت بالصبر والحكمة والعمل المتواصل، بينما استسلم إبريز للقلق ومعاتبته لوالديه، بدون أن تؤثر أوضاعه الجديدة على مجهوداته الدراسية.
بعد تفوقهما اللافت وحصولهما على شهادة الباكالوريا بميزة ممتاز، وهما في الحرم الجامعي في وقفة احتجاجية يرددان شعارا نضاليا : “الله يبليك بحب الشعب حتى تلبس الدربالة، دربالة المناضل ميلبسها من والى”، التفتت ميرا إلى صديقها، بحماس شديد وهي تردد العبارة، فاكتشفت صمته وعدم مبالاته بالمدلول، فاكتنفها الشك والريبة في المعتقدات الفكرية والإيديولوجية لرفيقها. حصلا على شهادة الدكتوراه في تاريخ علم الأديان، والتحقا بالخدمة المدنية، ليتم إدماجهما بسرعة في وزارة التنمية وحفظ الأمن الداخلي والخارجي لبلدهما.
وهما متنافران في المواقف والسلوك، وبعدما قل الحديث بينهما، طوق كل منهما، بعد سنوات عجاف من العمل، بمجريات أحداث الماضي والمسؤولية التاريخية. وهما متقابلان على طاولة مقهى فارهة، عصفت رياح المصارحة. ابتدأ إبريز بكلامه الهادئ : “صديقتي ميرا، ألم تلاحظي الالتصاق الشديد للنخب بالكراسي والمواقع منذ شبابها إلى أن بلغوا في الكبر عتيا”. صمتت ميرا هنيهة وسألته :”ماذا تقصد؟”. أجاب بأريحية كعادته: “لقد تحولوا بين عشية وضحاها، بعدما كانت أسرهم متجانسة في العيش مع أسرنا، إلى طبقة حاكمة سياسيا واقتصاديا، تملكوا السلطة والثروة المادية والطبيعية”. صمتت مرة أخرى لثوان، لتسأله: “كيف وصلوا لهذا الوضع ومعيار جهودنا في اكتساب العلم والمعرفة تفوقهم بكثير؟”. عقب إبريز محرجا : “إنها ثمرات الانزلاق إلى الميكيافيلية الانتهازية والتظاهر بالدفاع عن الأمير واستقرار نظامه”. ابتسمت وتملكت قهقهتها حاسمة النقاش : “التاريخ لا يرحم، الهشاشة والإقصاء قنبلة موقوتة، وربط شرط الإثراء لدعم الأمير مرحلة انتقالية فرضها تفشي الميول إلى الانتهازية في صفوف النخبة على حساب الوطن. ما وقع تاريخيا في العديد من البلدان والحضارات أبرز حقيقة مفهوم الإمارة وقيادة التحولات. الوطن احتضننا من هوامش الفقر المدقع، والحصائل التنموية لبلادنا وانتقالاتها السياسية السلسة تشكل اليوم ثروة تاريخية سجلت في سيرات القيادات والزعامات الوطنية والتاريخية الصادقة، التي توارتجثامينهم بين طيات تراب ثرى المقابر جنبا إلى جنب بأوامر من الأمراء”. طأطأ ليا رأسه برهة، رفعه هذه المرة بنظرات يتطاير منها غضب بنفحات مضمرة بعدم الرضا عن النفس، ليواجهها بعبارات خارجة عن إطار مقومات فن الحياة كما تشبعا بها سويا : “فعلا، قد تعاتبينني عن استجابتي للتغرير، وعن تيسير عملية اندماجي في منظومة المسؤولين غير الرسمية وغير المعلنة، لكن لم يكن ذلك مجانيا وبدون مردودية. أنا أتواصل بكثافة مع المسؤولين لفحص الإشكالات والقضايا والمصالح، وأتفاوض بآليات مضبوطة على المردودية المادية. لم أعد أخاف التورط في المطالبة بالمقابل واقتسام الأرباح من الصفقات العمومية مع المقاولات والشركات ما دمت شفافا في توزيعها مع مناصب المسؤولية الفوقية. ثروتي ازدادت بسرعة، وأتوفر اليوم على الإمكانيات الكافية للتمتع بالحياة وتمكين أبنائي وبناتي من متابعة الدراسة في أرقى الجامعات الدولية، وممارسة السياسة بشراء الذمم”. اشمأزت من الحوار، لترد عليه ببرودة وبصوت خافت هذه المرة: ” ما مصير الخطابات في شأن الديمقراطية والمساواة وتساوي الفرص؟ وأي مرجع يبرر ما تقوم به؟ وماذا لو افتضح أمرك في قضية شائكة؟ وما ردود فعل مناصب المسؤولية الفوقية في هذه الحالة؟ هل ستتم حمايتك أم تقديمك كبش فداء؟ ماذا لو اكتشفوا عدم شفافيتك في اقتسام الغنائم؟”. ظهرت عليه علامة الضجر والاضطراب قائلا : ” بكل صراحة، مواقفك منذ أن عرفتك مبدئية، لكن موقعي الإداري وأريحية تحركاتي بحذر، ووثيرة تزايد ثروتي، مقارنة مع يقظتك وأرقك الدائمين، وخوفك من المكائد والدسائس، شكلت لي محفزات للحسم في سلوكي ومواقفي. ولو لم تكوني صديقة دربي التعليمي المهني لما أضعت وقت الحديث معك … وسأكون معك صريحا لكونك بمثابة أخت لي، احذري محيطك داخل العمل وخارجه. إن التجنيد في الاستخبار غير الرسمي أصبح أمرا سهلا. الأسبقية تعطى لأبناء المحسوبين عن العسكر المدنيين، بعد التأكد من وفائهم. لقد اخترت سبيل الشرف الشاق، وهذا يتطلب ذكاء مفرطا وحذرا شديدا ومستمرا. أما في حالة تورطي في إحدى القضايا، فثروتي المتراكمة خارج البنوك ستجعلني أتحمل سنوات سجني القليلة بأريحية. أنت تعرفين الهالة التي يتمتع بها السجين الغني في معتقلات بلادنا”. لم تتأخر في الجواب منبهة : ” إن يقظة الشرفاء نضال من أجل الأمير. المبتز الطامح في السطو على مصلحة غير مشروعة، لن يمكنه إياها إلا فاعل إداري من نفس الطينة. كما أن نصب الفخاخ للشرفاء لن يجرؤ على فعله إلا رواد الفساد وتدبير توزيع الغنائم. لقد تجاوزت العقد في العمل الإداري، بتمعن حذر في كل صغيرة وكبيرة، لكني لم ألامس أي محاولة لتوريطي، وأحيانا تأتيني إشارات محذرة بالأخطار. ينتابني شعور وكأن الأمير يرى في التوازنات استقرارا بمعطيات الظرفية، مقتنعا أن لكل زمن رجاله. فامتلاك المعنى الحقيقي للوجود الإنساني لا تضاهيه أي قيمة حتى لو كانت ثروة مالية ضخمة “. وأضافت بمحيى منفتح هذه المرة: “أنت العارف أخي العزيز أن المسافة الشاسعة ما بين المثل الاجتماعية والأفكار الكلية المجردة في ثقافتنا الشعبية والواقع بممارساته اليومية تحولت إلى مستنقع للغرق يتوسع مداه بفعل تزايد عدد الطامعين في استغلاله والركوب على معاناة الغارقين. رسالة أمثالنا في الحياة، أنا وأنت، هو تجفيف المستنقع الكابس على الأنفاس. وهذا لن يصبح في المتناول إلا بترسيخ ثقافة الربط بين الأشياء والعناصر الواقعية، وتحقيق مصالحة تامة بين ما هو واقعي وما هو عقلي. لقد أكد التاريخ أن النيوليبرالية بعالمها الجديد لم تكرس فكرة نهاية التاريخ، معاكسة بذلك مثالية كارل ماركس الذي ربط بين سلطة البروليتاريا وتحقيق مجتمعات خالية من الاستغلال والطبقية. وعوض الانسياق للتغرير اللاإنساني، واجبنا، الذي يجب أن يثقل كاهلنا صباحا ومساء، يجب أن ينحصر في الكدح لتطويع ثقافة مجتمعنا، وليس الطبيعة وقوانينها، بجعل الإنسان، بنشاطه وممارساته وبحثه عما هو صائب وجديد، الفاعل الرئيس بعقلية منفتحة على احتمالات عدة في مجريات تاريخ أمتنا”.
تم تعيين ميرا، بعدما راكمت التجربة والخبرة طوال اثنى عشر سنة، في منصب يحتاج إلى الجدية والمسؤولية. كما اقترحتها منظمات المجتمع المدني سفيرة أممية للنوايا الحسنة، وعينها الأمير مستشارة في مجال ارتباط حقوق الإنسان والديمقراطية بالتنمية. حاضرت في عدة جامعات ومنابر عالمية. أما إبريز، فظل يراوح مكانه، ويتأرجح في مناصب المسؤولية في مستويات عمله المعتادة، مستويات تدبير مصالح رواد الابتزاز الجدد. شفافيته في توزيع الغنائم، التي انخفضت إلى أدنى مستوياتها بفضل تنديد الأمير بالفساد وتدخلاته الرصينة والمدروسة، لم تمكنه إلا في الارتكان في آخر المطاف في قسم النزاعات والشكايات.
أنهى فرح قراءة الكتاب مبتهجا. بعدما أصدر حكما مسبقا زرع الهلع في نفسيته، مفترضا أن نهاية الحكاية الحقيقية لن تكون إلا توريط ميرا والزج بها في غياهم السجون، أعاد بتمحيص شديد شريط ذكريات عمله في الإدارة العمومية. لقد عاند الأقوياء متحديا تخوفاته وقلقه وأرقه اليومي لمدة فاقت ثلاثة عقود، وحافظ على مبادئه وقيمه، وناضل في صفوف هيئة حقوقية وسياسية معارضة للأوضاع القائمة ومنطق تدبيرها بالرغم من كونه موظفا في جهاز شبه أمني. استحضر الاحترام الذي كان يكنه له رؤساءه بالرغم من نعته بالصلابة والتعنت والعناد. كان يعتبر ما يتلقاه من رسائل يومية إيجابية مجرد دسائس ليتخلى عن يقظته لتسهل الإطاحة به. لقد اقتنع من خلال حالة سديم أن للوطن أمير يحميه.
تأوه مستحضرا ثقل النوستالجيا الأليم بضغوطاته وتهديداته وعقوباته الإدارية، متفوها عبارة “الحمد لله، لم أكن مخطئا عندما اخترت المقاومة المنهجية العملية في حياتي المهنية ونشاطي السياسي”. كان فعلا مختلفا، بل غريبا، وفي بعض الأحيان شكل استثناء أو حالة نشاز. كان مقتنعا بخطواته في الحياة المهنية غير مبال بالمخاطر. فترعرعه في حي شعبي مخاطبا ومتسائلا ومجادلا أفكار كتب علماء تاريخ الفكر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي ورواد الفلسفة وعلم الكلام، وعلى رأسهم ماكس فيبر وكارل ماركس، خلق منه شخصية عملية وعارفة. تتبع، مستحضرا تنبؤات فيبر، كيف استوعب الصينيون واليابانيون الرأسمالية. رأى نفسه في ميرا سديم، وكأنهما يمتحان الفكرة والموقف من نفس المرجعية المعرفية. تموقع فرح بما استوعبه من أفكار ودروس وعبر بين أسس الحضارة المدنية الحديثة بأوروبا، والتي لعب فيها الفرد وإبداعاته أدوارا ريادية، والتجربة الصينية التي عاكست مسيرة التاريخ بثقافتها العملية الواقعية التي تكرست في واقع حياة وتفكير الشعوب الأسيوية.
وهو يستعد لطي الكتاب فاتحا فوهة قارورة الماء المعدني، شكر فرح الله على نهاية القصة الواقعية. فتركيز سديم على عملها الجاد والملموس، ملتزمة الحياد في عالم المتصارعين عن الثروة، أحدث تحولات مثمرة في حياتها وحياة مجتمعها. ما قامت به يستمد مقوماته من دعاة الانسجام العقلاني مع الطبيعة بعيدا كل البعد عن النزعة الوهمية لتفسيرها وتطويعها خدمة لمصلحة الذات الأنانية. فعلا لقد فاجأت متتبعيها بنبرتها الصادقة وصنعتها المحكمة. لقد نجحت في تسليط النور الساطع على الفضاءات المعتمة في منطق التدبير الإداري والسياسي في بلادها. تحدثت بشجاعة عن المسكوت عنه وما قد يزعج، وصرخت لمرات، بدبلوماسية قل نظيرها، منددة بتعقل الظواهر المرضية الفتاكة في المجتمع والدولة، وعلى رأسها الفساد والرشوة والتحرش والظلم والتسلط ….إلخ.