رحيل الوطني والمقاوم واحد مؤسسي الاتحاد الاشتراكي سعد الله صالح: نهر ذكريات متدفق .. بقلم . ع.م.س
انتقل الى عفو الله ورحمته يوم الجمعة 16 أبريل 2021 الوطني والمقاوم واحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية / الاتحاد الاشتراكي الذي عرف زمن المقاومة ضد الاستعمار بتباثه وصموده وجهاده وتضحياته وتميزه ، كما عمل وناضل مع رفاق دربه من الوطنيين والمناضلين من اجل تحرير الانسان من التخلف بالعمل من اجل بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات بالمشاركة في تاسيس الاداة الحزبية الوطنية والشعبية والتقدمية فتعرض في سنوات الجمر والرصاص للمضايقات والاستفزازات والاعتقال ، وبقي رحمه الله وفيا لمبادئه واخوانه واخواته في الوطنية والنضال يشارك ويتتبع ويسأل عن كل الامور التي تحدث في الوطن اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وحزبيا …
الفقيد رحمه الله من اصدقاء المجاهد عمر المتوكل الساحلي وصديق للعائلة يقوم بزيارة صديقه بتارودانت كلما سنحت له الفرص كما كان الوالد رحمه الله يفعل كلما زار البيضاء …
وبهذه المناسبة الاليمة اتقدم شخصيا ونيابة عن اسرة الساحلي وعن مؤسسة عمر المتوكل الساحلي باحر التعازي واصدقها لاسرة الفقيد ولاسرة الوطنية والمقاومة وللعائلة الاتحادية والحركة التقدمية واصدقائه ومعارفه …نسال الله العلي القدير ان يشمله بواسع الرحمات والمغفرة ويسكنه الفردوس الاعلى ويجمعه مع الرسل والنبيئين والشهداء والصدقين ومن يحب …آمين
عن المؤسسة والاسرة : مصطفى المتوكل
واعيد نشر المقال ادناه في حوار اجري معه في اكتوبر 2013 .
عنوان مقال سبق نشره بجريدة الاتحاد الاشتراكي : سعد الله صالح: نهر ذكريات متدفق ع.م.س مثل نهر جارف من الذكريات، ما أن يشرع المناضل سعد الله صالح في التذكر، حتى يتوقف الزمن الحاضر، ويحضر الماضي بكل تفاصيله وأفراحه ومآسيه. هكذا هو اللقاء مع سعد الله صالح، وهذه بعض من ذكرياته حول المقاومة وحول جيش التحرير وحول الصراع النقابي وحول المعتقلات والسجون. – أنا من مواليد 4 مارس 1934 بالرزازكة بقبيلة المذاكرة، قضيت طفولتي في الكارة و بها كانت بداية الدراسة، حيث تابعت دراستي الابتدائية. كنت أتردد على الكتاب، و في يوم من الأيام ضربني الفقيه ضربا مبرحا، فرميت عليه اللوحة الخشبية و غادرت الكُتاب، و أنا عازم على ألا أعود إليه. فلما رأى والدي رحمة الله عليه إصراري على عدم العودة، و كنت في حوالي الثالثة عشر من العمر، سألني عما سأفعل فقلت له أني أريد مواصلة دراستي بالمدرسة العصرية و هي مدرسة حرة كان يسيرها وطنيون حينذاك من أمثال السي احمد الزيداني رحمه الله. و كان لوالدي محل للحلاقة بالكارة ،فقال لي ستذهب للمدرسة و بعدها تلتحق بالحانوت. و هكذا واصلت دراستي بالمدرسة و تعلمت حرفة الحلاقة في نفس الوقت. و في أحد الأيام و أنا جالس صباحا أمام المحل و إذا بأحد كبار الإقطاعيين بالمنطقة، و كانت له دارة كبيرة أمام محلنا، يسألني عمن لطخ باب بيته، فقلت له أن هذا ليس شغلي و أني لست حارسا لبيته، فغضب غضبة نكراء على تجرؤي عليه، شتمني فشتمته، ثم جاء فيما بعد يشكوني عند والدي فسمعت الوالد رحمة الله عليه يرد عليه «أنت الذي ظلمته «. و في مرة من المرات، و أنا في السوق العصري (المارشي) للكارة رأيت أجنبية، لا أذكر ما إذا كانت فرنسية أو إنجليزية، و هي تحاول التقاط صورة، لأحد المتسولين المشوهين خلقة و لباسا، فمنعتها من ذلك بأن وقفت حاجزا بينها و بينه، قالت لي أنها تريد صورة تذكارية لا غير فقلت لها أن تأخذ صورتي أنا كتذكار. أستعيد كل هذا كي أقول أنه في تلك الفترة من عمري بدأت إرهاصات التفكير في الظلم الذي يحيق بنا نحن كمغاربة من طرف الاستعمار الأجنبي، و من طرف المستفيدين منه من إقطاعيين و غيرهم. و مما زاد من وعيي المبكر هو رؤيتي للوطنيين المعتقلين من جهات أخرى من البلاد، مقيدي الأقدام و هم يقومون بالأشغال الشاقة مثل بناء الطرق و ترصيفها. خلال تلك الفترة ، استبدل الوالد محل الحلاقة بمتجر بقالة تشارك فيه مع أخي الأكبر الحاج عبد القادر رحمه الله. و قد دأب على النزول لمدينة الدار البيضاء،البعيدة ب55 كيلومترا، كل أسبوع لاقتناء السلع من سوق الجملة و الرجوع بها لتقسيطها. و في يوم من تلك الأيام التي يذهب خلالها للتسوق، و كان يوم أحد، عاد مبكرا ليجد أن ابنيه عبد القادر و سي محمد اللذين ترك المتجر في عهدتهما قد أغلقاه و ذهبا للعب كرة القدم، فاضطر إلى نقل السلعة التي اشتراها للمتجر إلى البيت، و تصادفت عودته الغاضبة تلك مع خروجي من البيت حاملا «وصلة» الخبز (اللوح الخشبي الذي ينقل العجين على متنه إلى الفرن) كما تصادفت مع قذف أحد أبناء الحي كرة رددتها بقدمي، فما كان منه رحمه الله إلا أن فجر جام غضبه علي و ضربني ضربا موجعا، لكنه كان أهون علي من الألم المُمض الناتج عن الشعور بالمهانة أمام أقراني من أبناء الحي الذين كانوا يلعبون الكرة. كنت في حوالي السابعة عشر من عمري، فذهبت عند الوالدة أُخبرها أني سأغادر البيت و أذهب للدار البيضاء، حاولت ، رحمها الله، أن تثنيني عما أنوي، لكنها و قد رأت تصميمي، مدتني ببعض النقود و نادت أخي الأكبر الحاج محمد، أمد الله في عمره، كي يرشدني إلى الطريق التي توصلني إلى بيت عمي بعد وصولي إلى المحطة بالبيضاء. التحقت بمحل عمي للحلاقة، وبدأت أشتغل فيه، و كنت في كل يوم جمعة، و هو يوم العطلة، أخرج مع ابن عمتي إلى درب السلطان، و هناك التقيت بواحد من معارف والدي كان لابنه محل للحلاقة بدرب السلطان فعرض علي العمل معه في حانوته، و هو ما وافقت عليه. و في أعقاب اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد في أواخر سنة 1952 ، و أثناء حملة الاعتقالات التي تلت مظاهرات التضامن في المغرب، تصادف أن زارني أخي الأكبر الحاج عبد القادر، فأعجبته مذكرة ورقية كانت لدي، طلبها مني، فقطعت الأوراق المكتوبة فيها ثم أعطيته إياها. أثناء قفوله إلى الكارة تم اعتقاله من طرف الشرطة الفرنسية التي فتشته فوجدت المذكرة و لا زال بها شيء مكتوب، سألته عنه فقال لهم أنه لا يعرف و أن المذكرة لأخ له و ليست له. فأطلقوا سراحه و طلبوا منه القدوم مع أخيه ذاك. و لما جاءني أخبرني بما حصل ، فسألته عن فحوى المكتوب، لم يعرف و كذلك أنا لم أعد أذكر اقترح علي أن نهرب و نعود إلى الكارة، فقلت له أن هذا ليس حلا فالكارة ليست ببعيدة عنهم إن أرادوا استقدامنا. و هكذا ذهبت إلى المراقب المدني الذي سألني عما إذا كانت المذكرة لي، و كان يلوح بها بيده، فطلبت منه أن أراها عن قرب، أعطانيها فطفقت أقلب أوراقها بحثا عن المكتوب فيها، أثناء ذلك دفعني المقدم بقوة من خلفي صارخا: «تكلم مع السي المراقب، قل له بسرعة…» فأجبته بأني أريد أن أعرف ما إذا كانت لي أم لا. التفت المراقب نحو المقدم و قال له : «أسكت أنت» و توجه نحوي قائلا : «أنت قبيح أه؟». كان المكتوب في المذكرة هو : «يحيا جلالة الملك محمد الخامس نصره الله و أيده» فقلت له : «نعم إن المذكرة لي» فسألني عن معنى ما هو مكتوب فأجبته بأني وجدت ذلك في جريدة «السعادة» (و كانت جريدة موالية للحماية) فنقلتها في المذكرة. قال لي : «لا السعادة لا تكتب مثل هذا» فقلت له ربما كانت جريدة أخرى. أمر المراقب بإيداعي السجن، و فيه تم تجريدي من حزامي و ربطة عنقي و سيور حذائي. و لأن سروالي كان واسعا لا يمسكه إلا الحزام الجلدي، فقد أصبح لزاما علي أن أمسكه بيدي. فقام الشرطي المغربي الذي جردني من هذه «الأسلحة» بحزم عقدة سروالي بعروة قميصي قائلا بتنهد : «آودي أوليدات ديورهم أودي». أول تجربة في السجن: كنا نحو ثلاثة عشر في زنزانة واحدة فشعرت بالاختناق، و كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها الزنزانة التي سيُكتب علي أن أزورها مرارا فيما بعد. تدخل إبن عم والدي، و قد كان جنديا في الجيش الفرنسي في فيتنام، و كان سائقا لأحد الضباط الفرنسيين أصيب بجروح و كاد المقاتلون الفيتناميون أن يأسروه، إلا أن إبن عم الوالد هذا حمله إلى السيارة و هرب به منقذا إياه من الأسر المحقق أو من الموت المحتمل. فلما سمع بما حصل لي- و كان حينها بالبيضاء- توجه إلى الضابط الفرنسي الذي أنقذه طالبا منه التدخل للإفراج عني باعتباري أخاه الصغير الذي لا علاقة له بالسياسة و لا بأي شيء. و بالفعل كتب له رسالة حملها إلى المراقب الفرنسي بالحي المحمدي، فنودي علي و سألني المراقب: «من أين أنت؟» قلت له :»من الكارة» فقال لي: «و كم تبعد الكارة عن الدار البيضاء» فأجبته: « ب55 كيلومترا» فتوجه إلى المخازنية قائلا : «أعطوه 55 ضربة بالسوط و لا أريد أن أراك ثانية بالبيضاء». عدت إذن إلى الكارة و هناك فتحت محلا للحلاقة ، لكني أصبحت أنزل للبيضاء كل جمعة، لأني تركت أصدقائي و رفاقي الذين كنا نتناقش حول المقاومة في مصر ، كيف كانت المقاومة هناك و كيف علينا نحن أيضا أن نقاوم الاستعمار. ثم انتهيت إلى العودة من جديد إلى البيضاء، حيث أصبحت أشتغل في محل للحلاقة بدرب بلعالية زنقة الموناستير، عوض الذي كنت أشتغل فيه بالقريعة. بدأت المذاكرات إذن حول تبني الكفاح المسلح في خلايا حزب الاستقلال، لكن جل المفتشين لم يكونوا يرغبون في الخوض في موضوع المقاومة المسلحة مفضلين النضال السياسي لا غير في حين أن كثيرا من المناضلين كانوا مع خيار المقاومة المسلحة. و في هذا السياق كون حزب الاستقلال لجنة من المفتشين تبحث عن هؤلاء المقاومين، أحد أعضاء هذه اللجنة هو الشهيد الزرقطوني، الذي تبنى قناعات الداعين للمقاومة المسلحة و انضم لهذا الطرح. في محل الحلاقة بدرب بلعالية أصبحت لنا خلية للمقاومة السرية، و شرعت قيادة المقاومة تصدر توجيهاتها التي كنا نقوم نحن بتذييعها إما عن طريق المناشير أو من خلال «الفم إلى الأذن». و هكذا أصبح للمقاومة نفوذ واسع ليس في البيضاء وحدها بل في معظم مناطق المغرب بحيث كانت تعليماتها بإغلاق المحلات التجارية مثلا أو بمقاطعة بعض السلع يتم احترامها بالحرف، و قد كانت المقاومة منظمة على شكل خلايا، لا يعرف بعضها بعضا، ، و لأن إسم الزرقطوني أصبح يتردد كثيرا على لسان المعتقلين،حين كان يسقط بعض أفراد المقاومة في أيدي الشرطة الفرنسية فقد أصبح هو المطلوب رقم واحد بالنسبة للاستعمار الفرنسي. كان الزرقطوني يملك علاقات واسعة مع خلايا المقومة ليس في الدار البيضاء فحسب ، بل على الصعيد الوطني، لهذا حين تم اعتقاله، فقد اقتنع المستعمرون بأنهم حصلوا على صيد ثمين، إلا أنه رحمه الله، و هذه قصة معروفة، آثر التضحية بحياته بابتلاعه حبة الزرنيخ التي كانت مُعدة سلفا. و قد كان رحمه الله مقتنعا تمام الاقتناع بهذا الفعل الاستشهادي، إذ اقترح عليه بعض الإخوان – حين أصبح إسمه معروفا – السفر إلى شمال المغرب، حيث كانت الحماية الإسبانية أقل تشددا مع الوطنيين، إلا أنه رفض ذلك مكتفيا بطلب حبة السم القوية ، أو كما كنا نسميها «الحبة الكبيرة»، ذات المفعول القوي و السريع. و كذلك كان حيث لم يحصل الفرنسيون سوى على الجثة. تواصلت عمليات المقاومة و اشتدت ضغوطها على المستعمر خاصة مع اندلاع الثورة في تونس و في الجزائر خصوصا التي كانت فرنسا تعتبرها امتدادا لها، و مع ميلاد جيش التحرير في الشمال و مع بدء تدفق السلاح ، اقتنعت فرنسا بضرورة التفاوض مع الوطنيين من أجل الحصول على الاستقلال. في تلك الفترة كانت بعض العناصر ترفض التفاوض مع فرنسا و تحبذ مواصلة الكفاح المسلح. و على كل حال تم التفاوض و حصل المغرب على استقاله و عاد محمد الخامس إلى عرشه. حينها حصل نوع من الفوضى، حيث أصبح البعض يبحث عن السلاح و يتجه نحو البوادي لابتزاز الفلاحين باسم المقاومة، الأمر الذي دفع قيادة المقاومة إلى البحث عن حل. و كان هذا الحل هو دعوة المقاومين لتسليم سلاحهم و إعطاء قوائم بأسماء هؤلاء المقاومين. و فتحت مكاتب لهذا الغرض بكبرى مدن المغرب. و قد كنت أحد الأعضاء المشرفين على تسلم السلاح و تسجيل القوائم بمكتب درب الشرفا بالدار البيضاء. لكن بعض منظمات المقاومة رفضت تسليم سلاحها، مثل فرقة «الهلال الأسود». و هي منظمة مقاومة أسسها السيد محمد الحداوي و خاله العربي السائق و قد استشهدا معا صحبة الشهيد المزابي في مواجهة مع الفرنسيين في سيدي معروف. و قد كان لهؤلاء صلة و علاقة مع قيادة المقاومة، لكن الذي حصل هو أنه بعد استشهادهم انقطع الخيط الرابط بين «الهلال الأسود» و قيادة المقاومة. و حين تولى عبد الله الحداوي رئاسة منظمة «الهلال الأسود» خلفا لأخيه، رفض –كما رأينا- تسليم السلاح للمقاومة، مما دفع المقاومة إلى وضع حاجز على الطريق، حين علمت بأن الحداوي قد توجه إلى الرباط، و كان الحداوي كثير التردد على الرباط، هل كان يذهب لتلقي تعليمات معينة أم لغير ذلك ؟ شخصيا لا أدري، المهم أنه تم توقيف سيارته من طرف حاجز المقاومة في عين السبع أثناء عودته من الرباط. و يبدو أنه حاول استخدام سلاحه مما دفع أحد أفراد الحاجز إلى قتله هو و سائقه جيش التحرير في هذه الأثناء، تمت دعوة أعضاء جيش التحرير إلى التخلي عن سلاحهم و الانضمام للجيش الملكي، إلا أن فرقة من أعضاء جيش التحرير رفضت ذلك و توجهت إلى الجنوب باعتبار أن الاستقلال غير كامل طالما أن المناطق الصحراوية من البلاد لا زالت ترزح تحت نير الاستعمار الاسباني. لم يكن هؤلاء الأعضاء يشكلون أغلبية بل كانوا فئة قليلة ، إلا أنها ما فتئت تكبر و تتضخم بسبب انضمام المتطوعين لهم أثناء مسيرهم هذا. كنت حينها لا أزال بمكتب المقاومة بالبيضاء، مع بعض إخوان آخرين من جملتهم السيد حسن الساحلي – شقيق المرحوم عمر الساحلي- الذي انضم إليهم. و بعد مدة على وصوله إلى كولميم توصلت برسالة منه يشرح لي ظروف الحياة داخل جيش التحرير و يحثني من خلالها على الالتحاق به. قبل ذلك كنت قد تلقيت تكوينا عسكريا في بنسليمان حول عمليات الكومندو، و ذلك ضمن حوالي أربعين فردا من المقاومة من ضمنهم رحال المسكيني رحمه الله و غيرهم مما لم أعد أذكرهم الآن ،لمدة شهر كامل تلقينا خلاله دروسا في أنواع السلاح و في تفكيكه و إعادة تركيبه و في كيفية صنع القنابل إلى غير ذلك من دروس الكوماندو المعروفة. و قد كان المشرفون على تكويننا و تأطيرنا حينها ضباط من الجيش السوري. على كل حال ، حين توصلت برسالة حسن الساحلي كنت آنذاك أفكر في مواصلة دراستي بالعراق أو سوريا ، لكنني قررت الاستجابة لدعاء الأخ حسن الساحلي و توجهت، على متن سيارة المقاومة إلى كولميم، حيث تم تكليفي حينها بالعلاقة مع شيوخ القبائل الصحراوية، حيث كان جيش التحرير يقدم لهم منحة شهرية و يقدم لهم بعض المعونة الغذائية على غرار الطحين و الشاي و السكر. و قد كان التعامل مع القبائل يتم بالضرورة من خلال شيوخها، فحتى المجندون من الصحراويين في جيش التحرير لا يتم قبولهم إلا بموافقة و تزكية شيخ القبيلة، مما يوضح التأثير و النفوذ الكبيرين اللذين كانا، و ربما لا زالا، للشيوخ على أفراد القبيلة. بعد إعلان استقلال المغرب، لم تقم الحكومة المغربية بتعيين أي من رجال السلطة، لا عاملا و لا قائدا و لا باشا، في أيت باعمران. كان حزب الاستقلال هو المتواجد الوحيد، كنا نحن أيضا كجيش تحرير لكننا لم نكن نتدخل في التنظيم الإداري و لا في شؤون المواطنين. الذي حصل هو أن الإسبان لما رأوا الفراغ الحاصل في أيت باعمران استرجعوا نفوذهم في البلاد، مما خلق اصطدامات مع المواطنين فشرع الإسبان في اعتقالهم، و هو ما دفعنا إلى محاربة الإسبان بالسلاح. أول عملية ضد الإسبان: في ذلك الحين كنت قد أصبحت مسؤولا عن مراكز السلاح بمركز بويزكارن، بينما كانت القيادة في كولميم. حصلت إذن ثورة أيت باعمران، و كانت ثورة عارمة تجند لها، إلى جانب أعضاء جيش التحرير، كل من يستطيع حمل السلاح. و هكذا تمكننا من استرجاع ثلاثة عشر مركزا إسبانيا من ضمنها واحد كنت أنا من استرجعه صحبة المقاتلين التابعين لي. فقد بعث لي القائد بن سعيد أيت إيدر، رسالة تكليف و صحبتها حوالي 11 أو 12 مجندا من الباعمرانيين كبيري السن من ضمنهم من شارك في معارك 1934 . و مع ذلك فقد تحدثت معهم و عرضت عليهم الأسلحة لاختيار ما يناسبهم فاختار أغلبهم «التساعية» و هي بندقية خفيفة. توجهنا إلى المركز الأول فوجدنا الإسبان قد غادروه و التحقوا بمركز «غار حمايدوش» و هو مركز أكبر يقع على تل صخري يطل على المنطقة. تحصن الإسبان داخله و وضعوا الأكياس الرملية حواليه و فتحوا ثغرات صغيرة في جدران السور أصبحوا يطلقون النار من خلالها على كل من يقترب منهم. حين وصولنا مساء، قمت باستقصاء بعض السكان عن الجنود الإسبان المتحصنين فأبلغونا عن عددهم و عن عاداتهم و غير ذلك، حين سألت عن مصدر الماء الذي يرتوون منه، قيل لي أنه بئر يبعد عن الحصن بحوالي خمسة عشر مترا، فأمرت رجالي بحفر خنادق أمام البئر لمنع الإسبان من بلوغه ، و قد تم ذلك حوالي العاشرة أو العاشرة و النصف ليلا. بعد ذلك بساعتين تقريبا سمعت صوت الرصاص فبعثت أحد رجالي نحو الخندق ليستقصي الخبر فعاد ليخبرني أن الإسبان خرجوا نحو البئر فأطلق عليهم أصحابنا الرصاص و أن أحد الجنود قد يكون أصيب برصاصنا. أحكمنا حصارنا جيدا و ازدادت عزلتهم و جوعهم خاصة بعد أن كانت المؤونة الموجهة إليهم تسقط لدينا إلى درجة أنهم اضطروا إلى ذبح و شي كلب أو كلبة كانت لديهم, فقد رأيت مرة دخانا متصاعدا من الداخل فسألت عما إذا كانوا قد توصلوا بغذاء ما فأخبرني أحد الباعمرانيين من جنودي أنهم ذبحوا كلبا لهم و لما سألته كيف عرف ذلك أخبرني أنه كان يسمع نباح هذا الكلب من الداخل لكنه لم يعد يسمعها الآن. في اليوم الثالث من الحصار، حصلت على مدفع هاون، فبعثت للإسبان ، أحد جنودي، و يلقب ب»علوش»، و كان يجيد التحدث باللغة الإسبانية لأنه عمل في وقت من الأوقات بالجيش الإسباني . قلت له أن يتوجه للحصن رافعا يديه، و أن يطلب منهم تسليم أنفسهم و إلا قصفناهم بالمدفعية. ذهب فعلا ثم عاد ليخبرني بأنهم يطلبون أجلا حتى يوم الغد، فأرجعته ثانية طالبا منهم تسليم أنفسهم فورا فطلبوا مهلة للمساء، فأمرت جندي المدفعية بقصف أركان الحصن الأربعة، لكي يعرفوا تصميمنا على قصفهم. لم يحصل أي رد فعل فأمرت الجندي بإطلاق قذيفة تصيب وسط الحصن، فما أن انفجرت القذيفة حتى رأيت الأكياس الرملية تُرمى إلى الخارج، و بدأت عملية الاستسلام. توجهت نحو قائدهم، من خلال المترجم، فقلت له أن هذه هي قواعد الحرب و أن المسؤول عن الجنود مثله دائما يسعى لسلامتهم، و أننا سننقلهم كأسرى و أن مصيرهم سيتم ترتيبه بالتفاوض بين مسؤولينا نحن و مسؤوليهم و سيعودون في النهاية إلى بيوتهم. حينذاك لاحظت أن السلاح لا زال بالمركز فأمرت رجالي بجمعه فما كان منهم إلا أن ركضوا جريا معتقدين –كما في الماضي- بأنه غنيمة لهم. في لحظة الفوضى تلك اغتنم القائد قلة انتباهنا ففر بعيدا، إلا أنه لم يبتعد كثيرا إذ قتلته النساء الباعمرانيات، اللواتي كن ينتظرن، رجما بالحجر. حملنا السلاح و الذخيرة من المركز و قمنا بهدمه، قبل أن ننقل الأسرى ، و كان عددهم حوالي عشرين جنديا من ضمنهم عربيان أو ثلاثة. إلى بويزكارن. مركز تجميع الأسرى الذين وصل عددهم 42 من الجنود و الضباط الإسبان. رحلة مع الأسرى الإسبان: كلفتني قيادة جيش التحرير بتنقيل و تهريب الأسرى من مكان لآخر، حتى لا يعرف مكانهم و يتم استنقاذهم، فقد كانوا يشكلون عملة مهمة للتبادل أثناء المفاوضات المقبلة لا محالة. و كنا مرة مرة نكتشف جاسوسا فكنت أتنقل صحبتهم من مكان لآخر ما بين بويزكارن و طاطا و تاليوين، حيث وضعناهم لفترة في أحد قصور الكلاوي المُصادرة، ثم نقلتهم أخيرا إلى أونين في الأطلس ثم إلى أساراغ و هو مركز مرتفع في مأمن من الجواسيس. بدأت مفاوضات بين قيادة جيش التحرير و الإسبان حول الأسرى مقابل تخلي الإسبان عن الصحراء، فلما تناهت أخبار هذه المفاوضات إلى أسماع الحكومة المغربية طلبت منا تسليمها الأسرى الإسبان، و كان ذلك في عهد حكومة عبد الله ابراهيم، فأصبحنا نهرب قافلة الأسرى من مكان لآخر خوفا من الإسبان و كذا من الحكومة المغربية. على كل حال حصلت لي بعض الخلافات مع القائد الأعلى لجيش التحرير محمد بنحمو، لا مجال لذكرها الآن في هذه العجالة، فقدمت استقالتي و عدت مع حوالي أربعة أو خمسة تضامنوا معي من ضمنهم أزيدان عبد السلام و الرحماني و امحمد المذكوري و تَنان. بُعيد عودتي بقليل من بويزكارن، شاركت في تكوين و تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. و قد كنا و نحن في الجنوب نتابع تطور الخلاف داخل حزب الاستقلال و ذلك بواسطة بنسعيد الذي كان يُبلغنا التطورات أولا بأول، و كنا نُناقش هذه التطورات و نتخذ المواقف على ضوئها ، و من بين هذه المواقف هو أنه و بعد تعذر التعايش داخل حزب الاستقلال و أصبح الانفصال عنه ضرورة، كنا كجيش التحرير نؤيد التيار الذي يكون فيه عبد الرحيم بوعبيد و المهدي بنبركة و المحجوب بن الصديق. لهذا فحينما عدت إلى البيضاء لم يكن النقاش حول الأزمة داخل حزب الاستقلال غريبا علي، فكان اختياري واضحا و هو المساهمة في تشكيل الفصيل التقدمي الذي يمثله الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. لأنني كنت بدون عمل فقد قدمت طلبا لوزارة التعليم ،فقبلت كأستاذ و عُينت ببرشيد بثانوية ابن رشد، و كان ذلك في بداية 1960 . فكان أن شرعت في تكوين خلايا حزبية للتنظيم الجديد، و كذا في تكوين الخلايا النقابية الأولى في التعليم. في الدخول المدرسي الموالي، لاحظت أن مدير الثانوية الفرنسي «أوبيليان» يجتمع بالأساتذة الفرنسيين في حين أن الأساتذة المغاربة غير مجتمعين، فلما سألت عن ذلك قيل لي أن هذا هو العرف المتبع ، فأمضيت ساعتين تقريبا من النقاش من أجل إقناعهم و قررنا التوجه لمقر الاجتماع أي مكتب المدير للمطالبة بحقنا في المشاركة، لكن ما أن قطعت ساحة الثانوية و وصلت الدروج الأولى نحو مكتب المدير حتى وجدتني صحبة إثنين أو ثلاثة فقط من الأساتذة المغاربة و حين وصلت باب المكتب وجدتُني وحيدا. طلبت من الحارس أن يأذن للدخول، فخرج المدير «أوبيليان» يرطن بالفرنسية فقال لي الحارس مترجما أنه يقول لي أني لا أشتغل عنده فقلت له «أنا ما خدامش في الفيرما ديال اباه». و عدت إلى بيتي، و في الزوال بعد أن تغذيت و أخذت قيلولتي، عدت إلى مكتب المدير فطرقت بابه و دخلت عليه قائلا : «إن مسيو حليم يقول لك أن تكتب ما قلته لي في الصباح» و كان السيد حليم هذا مفتشا من مفتشي وزارة التعليم بالمنطقة، فنهض متحدثا بالعربية «أنا مسيو سعد الله لا أريد مشاكل، اختر القسم الذي يعجبك» فقلت له ليس هذا ما أريد بل نريد المشاركة في الاجتماعات التي تهم المؤسسة التي نشتغل بها تماما مثل الفرنسيين. و على كل حال ، كان هذا ضروريا في تلك الفترة من أجل نزع الرهبة و الخوف اللذين كانا يسيطران على المغاربة من الفرنسيين رغم رحيل الاستعمار بعدة سنوات. و كان ضروريا لإظهار أن الحقوق تُنتزع و لا تُمنح. كنت لا أزال في مدينة برشيد، حين حلت معركة الاستفتاء حول الدستور. فقد كنا نحن في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، نطالب بتشكيل مجلس تأسيسي لوضع الدستور بينما كان الحكم قد أعد دستورا على مقاسه، من طرف فقهاء أجانب ، و قد قُدنا حملة كبيرة لرفض الدستور رغم أن سي علال الفاسي جاء بنفسه إلى برشيد، داعيا إلى التصويت لصالح الدستور الممنوح، إلا أن الغالبية الساحقة من المواطنين كانوا من الرافضين. و مع ذلك فقد أُعلن عن النتائج الرسمية التي أعطت المؤيدين للدستور أغلبية ساحقة جدا ضدا على رأي المواطنين الذين رأوا رأي العين و بشكل ملموس كيف تم تزوير إرادتهم مما جعل وعيهم يتفتح أكثر. لذلك حين حلت الانتخابات التشريعية لسنة 1963 ، تم ترشيحي من طرف الحزب عن دائرة عاصمتها برشيد، و تمتد من جمعة «فوكو» باولاد سعيد إلى اولاد حريز و السوالم و جانب من المذاكرة. بدأت الحملة الانتخابية، و كان المكان المفضل للتجمعات هو الأسواق القروية لأنها ملتقى أسبوعي لجميع سكان المنطقة و لأنه لم تكن هناك قاعات كبيرة قادرة على استيعاب الكم الهائل للناخبين. في هذا الإطار توجهت إلى سوق جمعة أولاد عبو، فما أن شرعت في الترتيب لإلقاء كلمتي حتى جاء القائد صحبة عدد من المخازنية طوقوا حلقة التجمع مثل خاتم، فطلبت منه صرف المخازنية فقال لي أنه جاء بهم حفاظا على سلامتي، فقلت له أن يحافظ على سلامته هو أما أنا فلا أخاف من مواطني، أخذت الميكروفون و بدأت بالقايد أولا فقلت لهم أن القائد ليس من حقه التدخل في عملية التصويت و أنهم أحرار في التصويت لمن يريدون و أن هذا القائد ابن أحد أكبر الإقطاعيين بخريبكة و هو الشرادي و ليس من حقه التدخل… فلما انتهيت و ركبت السيارة جاءني القائد قائلا أني أحرض الناس ضده فقلت له أبدا، قلت لهم أن القائد ليس من حقه التدخل و هذا أمر قانوني و قلت لهم أن القائد ابن أحد أكبر الإقطاعيين و هذا صحيح أيضا ، و إلا تنازل عن أراضيك و لنوزعها على الفلاحين و «ها احنا خوت». أثناء العودة إلى برشيد، تلقت السيارة التي كنت أمتطيها ، و يقودها أحد المناضلين و هو الحاج سعيد رحمه الله ،ضربة بحجر في الواجهة الزجاجية الأمامية، مما حال دون الرؤية و جعلها تنقلب عدة مرات. على كل حال أصبت خلالها بجروح طفيفة و واصلنا المسير في موكبنا الصغير. لم نعرف من الذي قام بذلك هل هو حادث عرضي أم أمر مُدبر، لا أدري. على كل حال، جاء موعد التصويت فخرجت ساكنة الدائرة عن بكرة أبيها للتصويت ، و كان الفوز واضحا بالنسبة لنا، إلا أنه عند إعلان النتائج أُعلن عن فوز المرشح المنافس و هو من حزب الاستقلال، و قد اعترف فيما بعد لأحد الأصدقاء بأنه مُنح المقعد و لم يكن يستحقه. الحملة الكبرى: في أعقاب هذه الانتخابات تم استدعاؤنا من طرف الكتابة العامة للحزب بشارع علال بن عبد الله بالدارالبيضاء من مختلف مناطق المغرب، قصد تقديم تقارير و عروض حول الظروف التي مرت فيها عملية الانتخاب. و قد ترأس هذا الاجتماع كل من المرحوم عبد الرحيم بوعبيد و عبد الرحمان اليوسفي. حين جئت لاحظت عددا هائلا من سيارات الشرطة (الفاركونيت) في المرأب المقابل لمقر الكتابة العامة، فلما استفسرت المداوم المرحوم بلحاج و كنا نلقبه «العمدة» عن هذا الحضور الكثيف للشرطة قال لي أنه لم ير هذا العدد الكبير من سيارات الفوركونيت قبل الآن. و الاجتماع ماض في أشغاله كان كل من يخرج من المناضلين يتم اعتقاله، فلما خرج أحد المناضلين المنتمين للجنوب و قد كان يحمل معه بعض المال اعتقد أن رجال الشرطة الذين طوقوه، و كانوا بلباس مدني، لصوصا فصرخ طالبا النجدة مما أثار الانتباه لدى الجميع، فكتبت «البوليس في انتظارنا» و سلمتها للسي محمد المذكوري رحمه الله مررها بدوره للسي عبد الرحمان اليوسفي الذي كان يُلقي عرضه، فلما انتهى قال «أيها الإخوان إن البوليس بالباب، و نحن سنعتصم هنا إلى أن يهجموا علينا» و فعلا هذا ما حصل حيث قام الشرطة المدججون بالسلاح بطرق الباب و ضربه بأعقاب البنادق حتى كسروه. دخل علي بنقاسم متوجها نحو عبد الرحيم بوعبيد متحدثا إليه فقال عبد الرحيم «أيها الإخوان، إن السيد علي بنقاسم مدير الأمن الإقليمي لديه أمر باعتقالنا و نحن نقول له مرحبا» فضجت القاعة بالتصفيق. أثناء عملية الاعتقال سيكتشف علي بنقاسم أن من بين الحضور عدد من الصحفيين الأجانب، و كان من دهاء السي عبد الرحيم أن استدعاهم لتغطية الحدث، فأسقط في يد البوليس الذين كانوا يعتزمون – فيما يبدو- تقديمنا صحبة سلاح و تلفيق تهم خطيرة لنا. بدأ إنزالنا واحدا واحدا و إركابنا في سيارات الفوركونيت التي كانت بانتظارنا منذ الصباح. جيء بنا جميعا إلى المعاريف حيث وُضعنا في الطابق الأرضي. و في حوالي الحادية عشر و نصف تقريبا أو منتصف الليل، و أنا أطل من نافذة مشبكة تطل على أرضية شارع الروداني، رأيت السي عبد الرحيم مغادرا فقلت للإخوان أن السي عبد الرحيم قد أُفرج عنه. في تلك الليلة نفسها، وضعت أربع طاولات في ساحة الكوميسارية، و شرع البوليس تباعا يسجلون المعلومات المتعلقة بنا ، بأشخاصنا و بمهامنا و مسؤولياتنا الحزبية. علمت العائلات باعتقالنا و بدأت بعض العائلات القريبة في إرسال التغذية إلى ذويها، فكانت جميع هذه الأغذية تُجمع و تُوزع بالعدل على المعتقلين، و كان المشرف على هذه العملية آنذاك هو الأخ عبد الواحد الراضي. في الليالي الموالية، و حينما يتقدم الليل و نخلد إلى النوم، كانت تتم المناداة على أربعة أسماء منا فيذهبون بهم لا ندري إلى أين . و لما أصبح الأمر يتكرر كل ليلة دون أن يظهر للذاهبين أثر، كنا نتساءل عن مصيرهم، و كنا نقول حين يُفتح علينا الباب ليلا أن «الغولة جات». و هكذا إلى أن تمت المناداة علي صحبة آخرين. فتم نقلنا إلى كوميسارية درب مولاي الشريف. و ما أن دلفنا حتى سمعنا صراخ المعذبين، و بدأنا نتلقى الضربات بالعصي و السلاسل الحديدية (سلاسل الدراجات) و نحن في الممر لا نزال, لا زالت صورة أحد مناضلينا من مدينة خريبكة و هو بلبصير (أصبح برلمانيا فيما بعد) يتلقى ضربة في خده من أحد الجلادين الذي كان يلقب نفسه أو يلقبه غيره ب «العافية» و أمسك بقب جلابية آخر و لفه عدة مرات قبل أن يرميه ليرتطم بالجدار…كان كل هذا و نحن لا نزال بالممر. مكثت في المعتقل حوالي شهر، عزلوا من ضمننا مجموعة مثُلت أما المحكمة ، و أفرجوا عن الباقين و كنت من بينهم. ميلاد النقابة الوطنية للتعليم: بعد ذلك تعرض الحزب لحالة من الجمود، فجميع الأطر تم اعتقالها، و دخل المناضلون في حالة كمون. وكنت أواصل عملي بثانوية برشيد، حين اتصل بي سنة 1965 السي عمر المسفيوي و السي جليل مبارك رحمهما الله، فقالا لي أنه علينا أن نتحرك قليلا. إذا كان نشاطنا الحزبي قد أرجئ إلى حين ، فإن نشاطنا النقابي ظل متواصلا من داخل الاتحاد المغربي للشغل، إلا أننا كنا مُحاصرين داخله، فقد كنا مجموعة معروفة أذكر من بينهم بن سعيد من فاس و عمر الطويل من مراكش و زروق العربي رحمه الله من سطات و الصالحي من وجدة و مشيش من بني ملال وليعذرني الباقون الذين لم أتذكر أسماءهم الآن، كنا ما أن نصل حتى يتم تطويقنا من طرف ثلة من زبانية المحجوب بن الصديق. و مع ذلك كنا نجتمع لكن بحذر. تميزت سنة 1965 بالمظاهرات التلاميذية و الطلابية العنيفة (في مارس من السنة نفسها) و شكلت فترة قمعية عصيبة تعرضت خلالها القوى التقدمية لتضييق كبير توج باختطاف المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965 . – على ذكر المهدي بنبركة، هل لك أن تعطينا صورة عنه و هل التقيت به. – عرفت المهدي جيدا حين كون أول مدرسة لتكوين الأطر، فقد استدعانا و نحن شباب في منتصف العشرينات إلى بن سليمان، فكنا نتلقى تكوينا فكريا و سياسيا و رياضيا و في عدة مجالات أخرى، حيث كان يستدعي الكفاءات الفكرية كل في مجال اختصاصه و نتلقى محاضراتهم و عروضهم و يتم امتحاننا في ما تلقيناه كي يعرف مدى استفادتنا. و كان رحمه الله، مشرفا على جميع الأنشطة بحيث لا ينام تقريبا سوى ست ساعات في اليوم الواحد. و في ختام التكوين أجرينا امتحانا دقيقا ، نجح ثلاثون فردا كنت من ضمنهم ،فعين الناجحين كل في مكان من الأمكنة، و كان نصيبي آنذاك عرباوة، و كان كل واحد من الناجحين يتم تكليف إثنين من الذين لم يحالفهم الحظ في النجاح لمساعدته . و حين ذهابنا إلى عرباوة كنا نقوم بعروض مماثلة لتلك التي تلقيناها. إن المهدي بنبركة، في الواقع قائد فذ لا يصلح قائدا لثلاثين مليون أو أربعين مليون نسمة بل هو قائد كوني يستطيع قيادة مليار من البشر. و استئنافا لما كنا بصدده، أقول أننا واصلنا معركتنا النقابية ، حتى أسسنا النقابة الوطنية للتعليم من الأطر التي كانت مضطهدة داخل الاتحاد المغربي للشغل. و كان أول امتحان لنا داخل النقابة الجديدة هو انتخاب اللجان الثنائية، فخضنا المعركة و اكتسحناها ففزنا بأغلبية المقاعد و أصبح للنقابة الوطنية الجديدة مكانتها و موقعها داخل الجسم التعليمي. في سنة 1967 طلب مني الإخوان، أن آخذ التقاعد النسبي من التعليم و أتفرغ للتسيير النقابي. و شرعنا في العمل، و كان عملا مزدوجا، نقابيا و سياسيا، و هنا أحب أن أنوه بالدور المفيد و الكبير للأخ عمر بنجلون رحمه الله، الذي جاء للبيضاء مديرا للبريد،. و قد كون عددا كبيرا من الأطر. و قد كانت له عدة نقاط تشابه مع المهدي بنبركة إلا أن الفرق بين الرجلين هو أن المهدي كان صارما في قراراته لا يتراجع عنها، بينما كان عمر رحمه الله عاطفيا يتأثر لضعف الناس. و في عملنا النقابي التكويني، كنت أتقاسم المغرب مع الأخ حموش رحمه الله، بحيث كان مكلفا هو بالشمال و كنت أنا مكلفا بالجنوب. و في إحدى المرات سنة 1972 وقد وضعت برنامجا لزيارة بعض مدن الجنوب صحبة الأخ دومان، و حين وصولنا إلى مراكش التقانا الإخوان هناك و أخبرونا أن البوليس يعلم بأمر الاجتماع المقرر له يوم الغد فقلت لهم أن نجتمع الليلة قبل موعدنا، و هكذا في باقي المدن التي زرتها مثل أكدير و تزنيت و إفني (و كان الباشا آنذاك واحد من الخونة الذين اعتقلناهم أثناء فترة جيش التحرير و الذي قمت باستنطاقه شخصيا ) و كولميم. و في كولميم، تركنا السيارة في أحد الأزقة و ذهبنا للاجتماع في منزل واحد من رجال التعليم، ولما يمض وقت طويل على دخولنا حتى سمعنا طرقا على الباب. خرج رب البيت ثو عاد ممتقع الوجه قائلا أن رجال الدرك يريدونكما، خرجت أنا و دومان فقيل لنا أن «المعلم» (قائد الدرك) يريد أن يراكما لبعض الوقت، قلت لهم أني تركت السيارة في مكان ما و أريد أن آخذها ثم أذهب معكم، ذهبنا مشيا و حين وصلت السيارة و أردت فتح صندوقها، سدد أحد رجال الدرك رشاشه نحوي فقلت له :» مهلا، إنك لا تعرف كيف تستعمل الرشاش و لا تستطيع استخدامه و ينبغي أن تعرف من حرر لك هذه المنطقة». أخذت جلبابي ثم ذهبت معهم. و هناك في المركز وجدت رئيس الدائرة و الشرطة والدرك، قاموا بتصوير السيارة التي فتشوها و أخذوا منها مناشير كنت أسمعهم يقرأون محتواها على واحد ما في الطرف الآخر، أخذوا المعلومات المتعلقة بنا، ثم أطلقوا سراحنا في حوالي الحادية عشر و النصف. في تلك الفترة كان المرحوم وديعة الطاهر قد اعتقل في واحدة من المهام المماثلة.طلب مني دومان أن ننصرف في ذلك الليل فقلت له على العكس ينبغي أن نبقى و لا نخرج إلا في الغد و في واضحة النهار حتى يرانا رجال التعليم و يطمئنوا علينا. خلال سنة 1972 كنا قد شرعنا في تنظيم النقابة و تنظيم الحزب و بدأنا عملنا مع التجار الصغار و المتوسطين، فاستدعيناهم، و على رأسهم المرحوم مستغفر، في الكتابة بطريق مديونة، و جاء عمر بنجلون لإلقاء عرض ألقاه ثم طلب مني مواصلة الاجتماع لأن لديه موعد آخر. و أنا لا أزال بمقر الكتابة تلقيت مكالمة من زوجة عمر بنجلون تخبرني فيها أنه تم اعتقال زوجها. سألتها عن سيارته فقالت لي أنها لا شك مركونة بالقرب من المقر، جئتها و أخذت مفاتيح السيارة و ذهبت بها إلى بيت عمر. و لا زلت أذكر مشهدا مؤثرا في ذلك المساء، حين هممت بإدخال السيارة ، و كانت العتمة قد بدأت ترخي سدولها على المكان، فجاءت ابنته الصغيرة تجري فرحة و هي تصيح : «بابا بابا بابا..» فلما ترجلت من السيارة فتر فرحها و انكمشت. الاعتقال و الكوربيس: عدت إلى بيتي فأخبرت زوجتي أن دوري قريب في الاعتقال. و بالفعل مرت ثلاثة أيام، و قد كنت آخذ قيلولة ما بعد الغذاء حين طرق الباب و وقف علي في غرفة النوم ثلاثة من البوليس المدني «ما هذه الفوضى» قلت . قالوا أنهم يريدونني لساعة فقلت لهم «ساعة أو عام هذا ليس أسلوبا… استدعوني آتي لكم فأنا لست هاربا». قال لي أحدهم «خذ معك جلابة أو معطفا ثقيلا» أخذت جلابتي و خرجت معهم. وجدت الفاركونيت تنتظر في شارع الزيراوي قريبا من مسكني، ركبت فتوجهت السيارة نحو درب مولاي الشريف. حين وصولنا وضعوا العصابة على عيني و القيد في معصمي ثم أجلسوني قرب شخص لم أعرفه حينذاك. نودي علي، و بدأوا في أخذ المعلومات الشخصية (تاريخ و مكان الازدياد الوضعية العائلية…إلخ) ثم شرعوا في السؤال عن المعلومات حول المسؤوليات الحزبية و النقابية ، ثم قالوا لي : «أترك…هذه أمور نعرفها. نريد أن نعرف مسؤولياتك في التنظيم السري و اللجان الثورية». قلت لهم أن هذه أمور لا علم لي بها و كل ما لدي فقد قلته. فأنا أنشط داخل حزب قانوني و في إطار النقابة الوطنية و في جمعية مساندة الكفاح الفلسطيني أما غير ذلك فلا علم لي به». حينها جاؤوا بجهاز كهربي موصول بخيوط وضعوا أطرافها على شفتي و على أذناي و رأسي و شرعوا يطلقون صعقات كهربية مؤلمة حتى تعوج عضلات الوجه بأكمله. ثم تركوني قائلين : «إذهب الآن كي تستعيد ذاكرتك، فهذه ليست إلا «شليدة» و سننادي عليك لاحقا». عدت إلى الزنزانة و أذكر أنه كان معي فيها الأستاذ محمد الحلوي، و عبد الرحمان بن الطيب رحمه الله و الصفا وأحد رفاق دهكون لم أعد أذكر إسمه ربما يوسف و قد تم إعدامه، كانت معنا مجموعة لا أذكر أسماءها في هذه العجالة. أعادوني مرة أخرى و كرروا نفس السؤال حول التنظيم السري، و لما أنكرت أي علاقة لي به وضعوا قضيبا تحت ركبتي و رفعت بين طاولتين أو كرسيين لا أعرف، بشكل يسقط فيه رأسي وسط إناء مليء بالماء، و كان أحدهم يغلق فمي مرة و أنفي مرة أخرى فيما كان الثاني يواصل سلخ قدماي بقضيب، و كانت حصة التعذيب تدوم ربع ساعة أو نصف ساعة متواصلة، و حين تنتهي يتم إيقافي على قدمي المتورمتين من أثر الضرب فوق ألأرضية اللزجة المليئة بالماء ، فكنت أشعر بالألم يسري مثل تيار كهربي في كامل جسدي. بعد ذلك ينقلني «الحجاج» (اللقب الذي يعطى لحراس المعتقل) إلى الزنزانة و يرمونني هناك. و في مرة من المرات، كلمني واحد من المحققين قائلا : «و الله لن تخرج من هنا حيا حتى تعترف أو تموت» فقلت له أن ما قلته هو الحقيقة، فقال ، «جيئه بعمر جيب القرشاوي ثم قال آت بفلان ، و هو واحد من إخواننا المعتقل أيضا.قالوا لي هل تعرف فلانا قلت نعم هل هو مسؤول معكم قلت نعم أمروني بالتزام الصمت ثم جاؤوا به. سألوه متى كنتم مجتمعين قال في اليوم الفلاني و من كان معكم قال فلان و فلان و سعد الله ثم أمروه بالانصراف, حينها قالوا لي هل سمعت؟ قلت لهم نعم ذلك اجتماع حزبي. قالوا لي لا إنه التنظيم السري. قلت لهم :» إذا قال لكم ذلك فقد دارت ليه في الخوا» قالوا لي «دين أمك انت باقا ما دارت لك في الخوا أرجعوه» وعدت إلى حصص التعذيب المتقدمة جدا، خلالها فقدت الوعي تماما، فرموني بالزنزانة. و حين استعدت وعيي سألت عن الوقت الذي جيء بي فيه قيل لي أنه كان حوالي الحادية عشر و النصف أي قرابة الساعتين و النصف من التعذيب لأن الحصة بدأت في التاسعة ليلا. هكذا توالت حصص التعذيب في درب مولاي الشريف، و حتى حينما لا أكون أنا شخصيا من يُمارس عليه التعذيب فإن الليل كله كان مليئا بصراخ المعذبين المعلقين هنا أو هناك، و هذا وحده كفيل بزرع الرعب و الألم. و هنا قرروا فرز الذين اعترفوا أو الذين كتبوا في محاضرهم أنهم اعترفوا بانتمائهم للتنظيم السري، فقدموهم للمحكمة، أما نحن الذين لم نعترف أو لم يجدوا حجة ملموسة يواجهوننا بها، فنقلونا إلى الكوربيس (مخازن ضخمة في مطار أنفا) -هل كان عدد المعتقلين في الكوربيس كبيرا؟ -القاعة التي كنت بها و هي القاعة 3 ، و كان هناك أربع قاعات في المجموع، كانت تضم حوالي 120 معتقلا، كان الكوربيس يضم معتقلين من جميع الطبقات، فهناك أساتذة و هناك أطباء، و محامون و فلاحون و تجار و عمال و مهندسون و من جميع الأعمار، من المواليد الذين رأوا النور هناك بالكوربيس، إلى من يصل عمره 106 سنوات. فقد كان هناك شيخ من خنيفرة يناهز سنه المائة و ست سنوات، جيء به لا لشيء إلا لأن إبنه كان مشاركا في الثورة الجزائرية و استشهد هناك، و خصصت له الحكومة الجزائرية أجرا كان يتقاضاه و لذلك كان يذهب للجزائر، فاعتقل كي يجيب عما كان يفعله بالجزائر. و كان هناك عدد كبير على هذه الشاكلة. حين استقدمنا أول مرة إلى الكوربيس أوقفونا أمام الجدار و نحن معصوبي الأعين بطبيعة الحال، فقلت أنهم لا شك سيعدموننا, لكنهم عوض ذلك بدأوا في سرد قواعد المعتقل و هي التالية: لكل واحد «مانطة» خاصة به و له 25 سنتمترا يجلس عليها هي فضاؤه، ممنوع الحديث ممنوع النهوض… الحق الوحيد الذي تملك هو أنك حين تريد الذهاب للمرحاض تنادي «ألحاج» فيسمح لك بالنهوض متى شاء. بقينا بهذا الشكل مفترشين «مانطات» رثة، يعود بعضها إلى سنة 1936 و بعضها ملطخة بآثار دم جاف، من حقنا الجلوس أو التمدد لا غير. كان صاحبك بقربك لكن لا يحق لك الحديث معه أبدا و لا يحق لك لمس العصابة أو القيد. و قد كان من بين المعتقلين الذين جيء بهم إلى معنا احمد بن العربي، و الوديع الآسفي و أحمد بن عابد و ياسيف محمد و بوهلال عبد الله و خدان حسن و أخزام و أزغار جميعة و أختها زهرة و بابا محمد و القصري و حزب الله و إقبال محمد و بشرى محمد و مؤيد محمد و الصفا محمد و مستغفر مولاي عبد الله و الحاج علي المانوزي و مجيد و أمزاوج و أبو النعيم و عبد السلام السائق و حسن الكنوني و سالم يفوت و بوشعيب و الربيع و الحيمر و أكشامو و بوشعيب رياض و جوهر عبد السلام أما التغذية فكانت عبارة عن «كوميرة» صغيرة و كأس شاي في الصباح و صحن محمصة في الغذاء و نفس الشيء في المساء، و في بعض الأحيان حين لا تكفيهم يضيفون لها الماء البارد و يوزعونها علينا. في هذه الظروف أصيب البعض من المعتقلين بالجنون تماما حيث فقدوا عقلهم، فيما بدأ كثير من المعتقلين أيضا يموتون و يتم دفنهم و من بينهم العبدي أبو زكرياء الذي توفي أمامي و المرحوم زايد أوميدو و هو من أبطال أيت حديدو. و مكثنا على هذا المنوال لمدة سنة كاملة فقدت خلالها أظافرنا و شعرنا قوتها و أصبحت ضعيفة و واهية، حتى زارنا طبيب عسكري و فحص بعضا منا فأوصاهم بإعطائنا جزءا من اللحم و إلا فسنموت جميعا. و أخيرا جيء بنا إلى قاضي التحقيق، فانبهر لوضعيتنا و فوجيء لهذه الهياكل العظمية النحيلة التي يستنطقها. و بعد أن سألني عن محتوى المحضر و نفيت ما فيه نفيا باتا و أمرني بالانصراف قلت له أن لدي طلب و هو أن يسمح لنا بشراء ما نأكل، و حين جيء بنا إلى سجن «غبيلة» خرج مدير السجن و موظفوه يتفرجون على هؤلاء العائدين من الموت و يتألمون في حين كنا نحن نضحك غير عابئين بوضعنا المقيت، لأننا و إن كنا في السجن فقد تحررنا من العصابة و من القيد و أصبحنا نتلقى غذاء كافيا و أصبحنا نلتقي عائلاتنا. تم توزيعنا على زنازين الحي الأوربي و حلقنا لحانا و أصبحنا أشباه بني آدم، و خرجنا من جحيم الكوربيس. |
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي …29 أكتوبر 2013 |