1- في البدء كان العنوان: حين شبّه جاك دريدا العنوان بالثريا(2) اختصر كل الإضاءات التي يمنحها للنص. إنها تتدلّى فوقه، فتضيء عتماته، وتكشف أسراره الخفية، وتنير زواياه القاتمة. وبما أن العنوان أول تواصل بين الكاتب والمتلقي، فإنه يأتي في شكلِ أكبر تكثيف ممكن لمعاني النص، وأعلى اقتصاد لغوي يمكن أن يُختزَل إليه المتن الذي تحته. إنه كالمنارة التي تَهدي القارئ، حين يَلفت نظره، ويسترعي انتباهه، قبل اسم الكاتب نفسه، في كثير من الأحيان. وهو بذلك يشكل مكونا رئيسا من مكونات “النص الموازي”(3) كما سماه جيرار جينيت. ولا شك أن الكاتب يحمِّل العنوان من الدلالات، ما قد يَفيض عن النص، ويجعله حمّال أوجه في القراءة والتأويل، سيما حين يضع مسافة بين المتن وعنوانه، تستلزم من القارئ عُدّة من آليات التحليل، وأدوات التفسير والتأويل.
ويكتسي العنوان أهمية خاصة، ودلالة كبرى، حين يتم ترحيله من إحدى قصص المجموعة إلى غلافها، فيكون اختيار المؤلِّف له، دون غيره من العناوين الأخرى، قد أكسبه شرفا وتميّزا، ومنحه قيمة مضاعفة، بوضعه عنوانا للقصة، وتتويجه على رأس المجموعة، وجعْله في واجهتها. وقد لا يكون هذا الاختيار ذاتيا محضا، يبرره تفضيل الكاتب لهذه القصة على غيرها، ولكنه يمكن أن يكون موضوعيا، يجد تفسيره في كونها محورية، تتناص مع غيرها من القصص، وترخي بظلالها على مجموع المتن، وتصبح ثيمتها حاضرة، بشكل أو بآخر، في غيرها من قصص المجموعة، في إطار ما يمكن تسميته بـ”استراتيجية العنونة”.(4) على ضوء من هذه الفرضية سنحاول قراءة المجموعة القصصية “لذة الكلام”، باكورة الدكتور سالم الغزالي، الصادرة في 148 صفحة من القطع المتوسط. ويشتمل متنها على عشرين قصة، وتقديم بقلم المؤلِّف نفسه، عنونه بـ”قصة القصص”، ويحكي فيه ظروف انتقال هذه المجموعة من دواليب الكاتب الخاصة، إلى أضواء النشر، بإيعاز وتشجيع وإشراف من أفراد أسرته.
2 – القصة/البؤرة: “لذة الكلام”: اختيار هذه القصة بالذات لتُعير عنوانها للمجموعة كلها، أضفى عليها طابعا خاصا، ومنحها ميزة جعلتها محط اهتمام القارئ، كما كانت محط اهتمام المؤلف قبله. فعلى الرغم من كونها لا تحتل صدارة المجموعة من حيث الترتيب، إذ تأتي في الرتبة السادسة عشرة من بين العشرين، إلا أنها غدت بفضل عنوانها المشترك مركز المجموعة، وقلبها النابض، والبؤرة التي تستقطب الأضواء، وتثير التساؤلات، وتشغل بمركزيتها بال القراء والنقاد.
تنفتح قصة “لذة الكلام” على كابوس مرعب، أقضَّ مضجع السارد عباس. فقد رأى، في ما يرى النائم، أنه تحمّس للتدخل في مناقشة إحدى المحاضرات، فتمكن من السطو على الميكروفون، بالرغم من تحايل المسيِّر على الوقت المخصص للتعقيبات، ومحاولته توجيه النقاش، وبالرغم من تهافت بعض الحاضرين على المنصة، واستئثارهم بالكلام دون احترام للترتيب المسجل في اللائحة. لكنه تفاجأ، وهو يهُمُّ بالتدخل، بانحباس الكلام في صدره، وإصابته بحصر منَع الكلمات من تجاوز حنجرته، فانسحب تحت وابل من صفير الجمهور وسخريته. وعلى مائدة الإفطار حكى لزوجه أم هانئ معاناته مع ذلك الكابوس. غير أنه تفاجأ بلامبالاتها بما يؤرقه، هي التي كانت تستلذ تفسير أي حلم، مهما كان بسيطا. لكنها اكتفت بإخراج بضع كلمات من خياشيمها، شأنها حين تريد التعبير عن عدم رضاها بما تسمع. حاول استدراجها إلى الكلام في موضوع كابوسه، غير أنها مشغولة بأمور بينها وبين نفسها، ترى أنها أولى من غيرها بالكلام عنها. ثم يحكي عباس عن عادة زوجه حين تُكلم نفسها، وهي عادة ورثتها عن أمها، خاصة في مرحلة الوحم. كلتاهما تحاور مخاطَبا متوهَّما، إلى أن تُفرغ ما في جعبتها، وتبلغ غايتها من لذة الكلام، دون أن يشكِّك أحد في سلامتهما العقلية. وبما أنه لا يستطيع مجاراتهما في هذه العادة، حتى لا يُتّهَم في قواه العقلية، وبما أن أم هانئ لا تريد إسعافه بكلام يخفف عنه وطأة كابوسه، فقد اهتدى إلى زيارة صديقه الحلاق عبد القادر، عسى أن يجد لديه سلوانا من الكدر الثقيل الذي ألمّ به جراء ذلك الكابوس. غير أن أمد ذلك الكدر سيطول، حين وجد دكان صديقه مغلقا، فغيّر وجهته نحو المقهى.
وكما بدأت القصة بحالة عِيّ عن الكلام، انتهت بتجربة فاشلة لعباس بحثا عمن يكلمه، ويسلّي عنه همه الثقيل. ومن ثم يكتسب الكلام قيمة كبرى، وتصبح له لذة، دون بلوغها خرط القتاد. إنها غاية لا يدركها المرء بسهولة، ولا يعرف قيمتها إلا من فقدها، أو افتقدها فلم يعثر على أسبابها. ألم تقل أم هانئ، في معرض ردها على عباس: “قليل من الناس من يعرف نعمة الكلام. وأقل من ذلك القليل من يقدِّرها حق قدرها.”؟ (5) وهو المعنى ذاته الذي سبق لصديقه عبد القادر أن أكده وهو يُشنّْع على المتعلمين الجدد اعتبارهم الثرثرة مَنْقَصَة، فقال: “إن الثرثرة نعمة.”(6) لقد وجد عباس نفسه في ضيق وكرب شديدين، ليس بفعل العي في الحلم فقط، وهو انحباس لا إرادي، ولكن بسبب هذا الصدود الإرادي عن الكلام من قِبَل زوجه، والغياب المفاجئ لصديقه الحلاق. ولعل ما ضاعف من عذابه ذلك الاستنتاج الوخيم الذي صفعَتْه به أم هانئ، لتُغلِق نهائيا باب الحوار في موضوع الكابوس: “الله وحده من يَعلم حجم الكارثة التي ستُلِمُّ بالناس إذا حرمهم نعمة الكلام شهرا كاملا.”(7) فهل يصبح هذا الكابوس نذير شؤم، وعلامة صارخة على بداية هذه الكارثة؟ هل يعتبر هذه الجمل العامة والمقتضبة لأم هانئ بمثابة تفسير لكابوسه، عليه أن يتقبّل قسوته، ويستعد لتحمله؟ لماذا لم يَسِرْ سيرتها، وسيرة أمها في بلوغ لذة الكلام، فيتصيّد مستمعين على حين غفلة منهم، ويصُبَّ عليهم جام كلامه، حتى يدرك بغيته؟
يهتبل عباس فرصة عزوفه عن التشبّه بأم هانئ ووالدتها ليبيِّن مفهومه للذة الكلام. فهي لا تتحقق إلا بمواصفات لا بد من توافرها في المتكلم، وأهمها “مشارك حقيقي، مفارق ومعتبر، عادل وديمقراطي.”(8) أما أن يحدِّث نفسه، أو يُكلِّم مستمعين مجبَرين، فإن كلامه إليهم لن يبلغ به أي لذة، بل على العكس سيغدو عقابا وتعذيبا. إن الكلام، في اعتقاده، كالعملة والحب، لابد فيهما من طرفين يشاركان في تبادلهما.
3 – مقاربة مستويات العنوان: سنحاول مقاربة العنوان من مستويات ثلاث: معجمي/دلالي، وتركيبي/نحوي، ومجازي/رمزي:
3 – 1 – المستوى المعجمي/الدلالي: “اللذة نقيض الألم.”(9) وهي كل إحساس نفسي، أو بدني، جاء نتيجة فعل معين قام به الشخص، أو في أعقاب حدوث أمر له به صلة، كالإحساس بلذة الأكل مثلا، أو بلذة النجاح. فهي على هذا الأساس تنتمي إلى الحقل الحسي، إذ تختص في الغالب بالمحسوسات، وتظهر آثارها في النفس أو في البدن… أما الكلام فهو “في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم.”(10) فهو القدرة على إصدار الأصوات بشكل متناسب، يجعلها كلمات أو جملا، تُعبِّر عن مضمون معين، وتُبَلِّغ رسالة محددة، وفق قواعد مضبوطة في الوضع، والنطق، والتركيب. إنه يجد مجاله في الحقل التواصلي، بما هو أداة للتخاطب بين البشر، ووسيلة للتعبير، والمحادثة. واللذة التي يخلقها الكلام في نفس المتكلم، هي ذلك الإحساس الذي يجعله كائنا آدميا، يتميّز به عن غيره من سائر المخلوقات. فهو، بحسب التعريف المتداول، “حيوان ناطق”، فإذا خانه الكلام، ولم تسعفه العبارة، فقَدَ قدرته على التواصل مع غيره، وأصبح كَلا على نفسه، وعلى مولاه. وإذا أصيب المرء بعِيّ، أو حبسة ولو كانت مؤقتة، أشعره ذلك بخجل كبير، وركِبَه شعور بالنقص، خصوصا إذا حدث ذلك أمام الملأ، وعلى رؤوس الأشهاد. ومن ثمّ دلالة هذه اللذة التي ينعم بها المتكلم، ويحقق بها ذاته، سواء في تواصله مع غيره، أو مع نفسه. ومن ثم أيضا، تخوُّفُ عباس من تداعيات الكابوس الذي أزعجه، لو غدا محروما من نعمة الكلام، وعاجزا عن تبليغ أفكاره، وآرائه، ورغباته.
3 – 2 – المستوى التركيبي/النحوي: تقوم العنونة في هذه المجموعة القصصية على الاقتصاد، والإيجاز. فمعظم العناوين لا تتعدى كلمة واحدة، أو كلمتين، أكثرها أسماء وردت في صيغة التنكير، لتوغِل في انفتاحها على احتمالات مختلفة، وتأويلات عديدة. وتجاوز عنوانان فقط أكثر من كلمتين: “بعض ما وقع للرحماني النجار”(11)، و”البحث عن لحظة فرح”(12). ويتوخّى الكاتب بذلك التكثيف، فتح مجالات أكبر لأفق انتظار القارئ، وتوريطه في فعل القراءة الفاعلة والمنتجة للقصة. في عنوان المجموعة “لذة الكلام” تركيب إضافي، فيه مبتدأ مضاف (لذة)، ومضاف إليه (الكلام). والخبر في الجملة مقدّر، يستمد تقديره من رهان الكاتب في قصته. فالحق في الكلام الذي استمات عباس في الدفاع عنه في الكابوس، وتمكن من انتزاع وسيلته (الميكروفون) من خصومه، واعتلى المنصة ضدا على المسيرين والمنظمين، لم يتحقق نتيجة الحبسة التي ألمَّتْ به. وبذلك تمّ إجهاض تلك اللذة، في الحلم، كما تمّ إجهاضها في اليقظة، عندما رفضت أم هانئ تفسير الكابوس، لتزيد من عذاب عباس. وتضاعفت معاناته حين قصد صديقه الحلاق “أمير الشفوي، والمحدّث الذي لا يُضاهى”(13)، فوجد دكانه مغلقا، وتبخّرت فرصة أخرى لتحقيق تلك اللذة. وبناء على ذلك، يكون تقدير الخبر، عجزَ عباس عن بلوغ لذته من التكلم، جراء معيقات، بعضها ذاتي (الحبسة في الكابوس)، والبعض الآخر موضوعي، تُحَرِّكه قوى خارجة عن ذاته، تمثلها أم هانئ برمزيتها السلطوية، والحلاق بتراثه “الكلامي” الغني، وباعِه في الحِجاج، وتمسُّكِه بحقه في الكلام: “إذا أردتَ أن تُفسد مزاج حلاق، فامنعْه من الكلام.”(14) فيصبح العنوان في صيغته المفترضة، تبعا لذلك، “لذة الكلام مَحظورة”، أو “مُصادَرَة”.
3 – 3 – المستوى المجازي/الرمزي: حين يجعل المؤلف للكلام لذة، فهو لا يكتفي بالبعد الفيزيولوجي للكلام، ووظيفته الاجتماعية، بل يضفي عليه وظيفة نفسية، تمنح المتكلم إحساسا بالرضا، حين يتذوّق طَعمها، ويستمتع بحلاوتها. ولا يظفر المتكلم بهذه اللذة، إلا إذا استنفد مخزونه من الكلام، ونفث من صدره كل المشاعر التي تعتمل بداخله، ونفّس عن الهموم التي تجثم على قلبه. فكما أن حماة عباس تعتقد، عند الوحم، أن الكلام مع نفسها “يساعدها على التخلص من اللعاب السام”(15)، يستطيع الإنسان كذلك، عن طريق الكلام، أن يفرِّغ شحنات الغضب المترسبة بداخله، ويتخلص من المشاعر الحزينة، ويتحرر من الطاقة السلبية، ويحوِّلها إلى إيجابية، ويسيطر على انفعالاته. فالكلام من القنوات الأساسية للتعبير عن الرأي والمواقف. لكن المرء، كما نجد في حالة عباس، معرّض لأن يُمنَع من هذا الحق، بأبسط أشكال المنع، فيُضطرّ إلى تصريف طاقاته الكلامية، في فضاءات، يغدو فيها المتكلم “هذّارا لَزِمَتْ مباعدته”(16)، ويصبح فيها الكلام دون لذة.
إن العنوان، بهذا المفهوم، يصير مباعِدا للإيحاءات المباشرة، التي قد يلتقطها القارئ من إشاراته الأولى. فلذّة الكلام دونها نضال، ومجابهة، ومكابدة، يَلْزم أن يَخرُج فيها المتكلم من أنانيته، وسلبيته، ويكون فيها المخاطَبُ كفؤًا له، وأهلا للتحاور معه، وعادلا في أحكامه، وديمقراطيا في سلوكه. ولئن تكالبت تلك العوامل الداخلية والخارجية لتمارس قمعها على عباس، وتَحولَ دون بلوغه هدفه من التكلم، فقد استطاع، مع ذلك، أن “يستعيد بعض حيويته التي فقدها بسبب كابوس الليلة الماضية. فواصل طريقه نحو المقهى”(17)، عسى أن يجد فيه مرتعا خصبا لتوليد تلك اللذة، وبلوغ ذروتها. إن الحق في الكلام، أو ما يُصطلح عليه في الدستور بحرية التعبير، معطى مكفول للمواطن، غير أنه بحكم الوضع السياسي العام، أصبح الشخص يمارِس على نفسه رقابة ذاتية تحول دون بلوغ مراده، كما حدث مع عباس في كابوسه، أو تمارِس عليه السلطات السياسية ذلك المنع، بأساليب وطرق فيها كثير من المراوغة والممانعة، كما يرمز إلى ذلك إعراض أم هانئ عن تأويل الحلم، وغياب الحلاق القسري والمفاجئ. وبذلك يغدو العنوان، على هذا المستوى، مفاجئا للقارئ، ومخيِّبا لأفق انتظاره، إذ يمنحه دلالة غير التي كان يتوقعها، أو أوحى له بها عند قراءته لأول مرة. إن العنوان، في إطار الوظيفة السيميائية التي يؤديها، يصير علامة أدبية “تقول شيئا، وتعني شيئا آخر.”(18)
4 – الثريا وجدلية الكلام والصمت: اشتغلتْ هذه القصة على ثيمة الكلام، وكيفية بلوغ لذته من قِبَل المتكلم. وبما أن عنوانها “لذة الكلام” فقد أمسى مُشْرِفا على المجموعة كلها، تتردد في قصصها معانيه، واشتقاقاتُه، ومقابِلاته. وقد تمّ رصد هذه المفردات في قصص المجموعة كلها، فتبيّن أن جدلية الكلام والصمت حاضرة في كل قصة، وإنْ بنِسَب متفاوتة، وصور مختلفة. فحيثما وُجِد الكلام، وُجِد معه الصمت، أو الرغبة في فرض الصمت. وحيثما وُجِد الصمت كان الكلام أعزَّ ما يُطلب، حتى وإن كان مع كائنات أخرى غير بشرية. في قصة “غياب”(19) يشعر الأب بوحدة قاتلة، بعدما غاب الأصدقاء وانقطعت زيارات المعارف، فيجد ملاذه في قطط الحي، يقتسم معها طعامه، “فتأكل من يديه وتتمسّح به، يُحدِّثها وتُحدِّثه، يُنصِت إليها وتُنصِت إليه، ثم يعود محبورا بعد أن تنصرف تلك الكائنات.”(20) يصبح الكلام في هذه الحال شكلا من أشكال استرجاع التوازن النفسي لدى الأب، الذي عانى من الصمت والتجاهل حتى من أقرب الناس إليه، ابنته وابنه: “سأل الأب ابنته عن الضيوف الذين غابوا فجأة فلم تفهم شيئا، وسأل ابنه عن ذلك فبدا غير معني بسؤاله.”(21) كان الأب يصرّ على اقتسام نصيبه من الطعام مع هذه الكائنات، ويجد، دون شك، لذة في الكلام معها، وإطعامها. كان يحارب الصمت الذي يطوِّقه بالكلام الموجّه إلى القطط، كان يعتبرها بديلا نفسيا واجتماعيا للحرمان الذي يشعر به نتيجة الإحساس المفرط بالوحدة، حتى وهو بين أهله وفي بيته. وبذلك تغدو هذه الكائنات قادرة على أن تمتص المشاعر السلبية التي تعتمل في صدور الناس المحيطين بها، متى لجؤوا إليها، وباحوا لها بتلك المشاعر، كما كانت تفعل الأم مع كتاكيتها في رواية “قالت ضحى”(22): “كانت أمي تربي دجاجا وكتاكيت فوق سطح البيت… كانت تجلس على مقعد صغير تُلقي الحَبَّ للكتاكيت التي تجمّعت حولها وتُكلمها بصوت خافت. تحكي للكتاكيت كلَّ ما يحدث في الصباح، كلَّ الإهانات التي وجّهها لها أبي، وتقول: ومع ذلك فأنا لم أفعل شيئا أبدا. والله أبدا.”(23) وقد يكون الصمت شكلا من أشكال الاحتجاج على كلام غير منطقي، أو لا جدوى منه. في قصة “كلام”(24) أصبح الصمت أسلوبا لإدانة سلوك السيد الرئيس: “قلت للسيد الرئيس متى ستبدأ التحقيق؟ قال: أي تحقيق؟ قلت: الذي وعدتَ به المرأة. قال: ذلك مجرد كلام. فصَمَتُّ أتأمل كل ما قيل من كلام.”(25) وحين يقترن الصمت بحملقة ماكرة، تصير الإدانة أقسى وأشد: “هذا النوع من الإدانة، أي الإدانة بالحملقة يُعَدُّ أقسى أنواع الإدانات.”(26) ويستعيد الكلام لذته، وتعود إليه سطوته حين يصبح سبيلا للتخلص من مشاعر الخوف في لحظات السفر، إذ يغدو الصمت فيها أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة: “أعتقد أن في هذا النوع من الصمت غدرا مبيّتا ينتظر الفرصة للانقضاض.”(27) لذلك يَوَدُّ السارد، حين يكون مسافرا، لو يهزم هذا الصمت بفضاء نسائي يسود فيه الكلام وحده: “عندما أجدني محاصَرا بهذا النوع من الصمت أتمنى أن تتحول السيارة إلى مجمع نسائي تستبد به أخبار الدنيا المتقاطعة.
“(28) وتتخذ جدلية الكلام والصمت في مجموعة “لذة الكلام” بُعدا فنيا جماليا، من خلال بعض الإشراقات التعبيرية، التي تَوفّق فيها الكاتب، وتَفَوّق فيها أيضا. فأنت تستطيع أن تحس ذلك الصراع الخفي، والجدل الحاد بين الكلام والصمت، حين تقرأ مثل هذه العبارات الدالة:
– “قرر أن يوقف هذا النزف بالكلام، فقال لرفيقه وهو يُسكِت نور الثريا وسط الغرفة.”(29) – “لاذ بصمت أهل القبور.”(30)- “كأن هناك سلطة خفية تعقد لسانينا.”(31) – “حيث يصبح اللسان بوَزْن الجبل يستعصي تحريكه بما يجيش في الدواخل.”(32) – “نظرتْ إليّ ونظرتُ إليها ثم ضحك الصمت بيننا.”(33) – “ودفع كلمات بطيئة يُثبِت له بها أنه لم يَنْسَه.”(34) – “اعترض عليه في ذل جارح أبانَتْه الكلمات التي جرجرها لسانُه من حنجرته إلى شفتيه بدون طَعم، كأنها تخرج من فم غير فمه.”(35) – “أحَسَّ الحكيم بزهو لذيذ حَلَّ لسانه.”(36) – “ومن فرط الارتباك فقدتُ صوتي للحظة.”(37) – ” كانوا في حاجة إلى أن يغسلوا أمخاخهم من رذاذ الكلام الذي سمعوه طيلة اللقاء.”(38) – “رفَضَت الكلمات أن تتجاوز حنجرته.”(39)
ولا شك أن هذه التعبيرات الرائقة، والتصاوير الفنية البديعة أضفت على المجموعة مسحة شعرية جميلة، ارتقت بلغتها إلى مستوى أدبي راقٍ، يستوقف قارئها، ويخلق في نفسه لذة ماتعة، ويشده إلى المجموعة بخيوط من الإعجاب والتقدير والدهشة. فقد وُلِدت باكورة الأستاذ سالم الغزالي في كمال نضجها، واستواء هيئتها، لا يشك من يقرأها أن صاحبها متمكن من صنعته، عارف بأسرارها، خبير بتقنياتها، جدير بأن تُرفع القبعة احتراما له وتقديرا. وكما أن للكلام لذة، فللقراءة لذة أخرى، أمتع وأروع. ودَعُونا، بعد كل هذا الكلام، نُنْصِتْ لصمتنا، “فما أكبرها من متعة للقارئ، متعة الصمت بعد القراءة”!(40).
هوامش:
(1) لذة الكلام – سالم الغزالي – مطبعة Exprim’IMPRESSION – الطبعة الأولى – 2021 – (2) انظر كتاب “الغائب دراسة في مقامة للحريري” لعبد الفتاح كيليطو – دار توبقال للنشر – الطبعة الثالثة – 2007 – ص. 30 -(3) النص الموازي: استراتيجية العنوان في الرواية – شعيب حليفي – مجلة الكرمل – العدد: 46 – 1992 – ص. 82 – (4) المرجع نفسه – (5) لذة الكلام – ص. 120 –(6) المرجع نفسه – ص. 124 –(7) المرجع نفسه – ص. 121 –(8) المرجع نفسه – ص. 122 –(9) لسان العرب – ابن منظور – طبعة دار المعارف – دون تاريخ – (10) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير – أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ – مكتبة لبنان – 1987 -(11) لذة الكلام – م . س – ص. 55 –(12) المرجع نفسه – ص. 63 –(13) المرجع نفسه – ص. 123 –(14) المرجع نفسه – ص. 123 –(15) المرجع نفسه – ص. 122 –(16) المرجع نفسه – ص. 122 –(17) المرجع نفسه – ص. 125 –(18) مايكل ريفاتير: دلائليات الشعر – ترجمة: محمد معتصم – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس – الرباط – الطبعة الأولى – 1997 – ص. 7 –(19) لذة الكلام – م . س – ص. 135 -(20) المرجع نفسه – ص. 136 –(21) المرجع نفسه – ص. 137 –(22) قالت ضحى – بهاء طاهر – روايات الهلال – العدد: 444 – ديسمبر 1985 – (23) المرجع نفسه – ص. 38 –(24) المرجع نفسه – ص. 127 –(25) المرجع نفسه – ص. 129 –(26) المرجع نفسه – ص. 139 –(27) المرجع نفسه – ص. 72 –(28) المرجع نفسه – ص. 72 –(29) المرجع نفسه – ص. 16 –(30) المرجع نفسه – ص. 23 –(31) المرجع نفسه – ص. 30 –(32) المرجع نفسه – ص. 35 –(33) المرجع نفسه – ص. 53 –(34) المرجع نفسه – ص. 64 –(35) المرجع نفسه – ص. 66 –(36) المرجع نفسه – ص. 69 –(37) المرجع نفسه – ص. 79 –(38) المرجع نفسه – ص. 109 –(39) المرجع نفسه – ص. 120 –(40) متعة القراءة – دانيال بِناك – ترجمة: يوسف الحمادة – دار الساقي – بيروت – الطبعة الأولى 2015 – ص. 19 –