الثقافة من حيث المفهوم, أصبحت مع التطور الهائل للعلوم الإنسانيّة, قضية إشكاليّة, بل هي شائكة ومعقدة, حيث راحت تتعدد دلالاتها وفقاً للعلوم التي تتناولها, الأمر الذي أعاق في الحقيقة قدرة الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي, على وضع تعريف أو مفهوم دقيق لها يمكن اعتماده كمرجع لمن يرغب في الاشتغال عليها, إذ تجاوزات مفاهيم الثقافة المئة ونيف. ومع ذلك قد نصل إلى جزء كبير من الحقيقة إذا ما غامرنا في وضع تعريف لها بقولنا: هي كل ما قام الإنسان بإنتاجه تاريخيّا في الجانبين المادي والفكري/ الروحي, والمهاراتي من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع.
ما أريد التركيز عليه هنا في قضية الثقافة, هو الحقل الفكري (الأبستمولوجيي), حيث تأتي الثقافة في هذا الحقل, بنيةً فكريّةً تتجلى في أنساق معرفيّة متعددة, كالفلسفة والدين والقيم الأخلاقيّة والأدب والفن …إلخ. أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً بالأيديولوجيا. فهي في هذا المضمار, لا تفرخ مجردة, بل هي نتاج إرادات ونشاطات لأفراد ومجتمعات يتعايشون مع بعضهم, ولهم مصالح ماديّة ومعنويّة تحرك هذه النشاطات, وتفرض عليهم التعبير عنها في أنساق فكريّة قد تكون مباشرة, يمثلها طبيعة الوعي التي تفرضه علاقات الناس اليومية المباشرة, أو تكون ذات نسق معرفيّ عالٍ المستوى, يغلب عليه التخصص من جهة, والبعد الأكاديمي والمنهجي من جهة ثانية.
والثقافة في حقليها المادي والفكري, هي نتاج الوجود الاجتماعي للفرد والمجتمع كما بينا أعلاه, وهي تاريخيّة, أي قابلة للتطور والتبدل في مضمار الوجود الاجتماعي الذي تنشط فيه, بيد أن الثقافة في حقلها الفكري (الأبستمولوجيي), تظل في حركتها وتطورها وتبدلها, أبطأ بكثير من تطور الثقافة في حقلها المادي, أي من تطور قوى ووسائل الإنتاج, وما يرافق ذلك من عمران على كافة المستويات, كالبناء والزراعة والصناعة والمواصلات وكل ما يحدث من تقدم تكنولوجي, أو ما تحققه هذه التكنولوجيا من تطور على مستوى الطبيعة والمجتمع. وعلى هذا الأساس, نجد استمراريّة انساق البنى الفكريّة القديمة وسيادتها لفترات زمنية طويلة, وهذا حال العادات والتقاليد والأعراف وقيم (الماضي) التي تبقى متداولة بين الناس, في الوقت الذي تجاوز فيه المجتمع الظروف الماديّة التي انتجت هذه الثقافة, والسبب يعود برأيي للتالي:
1- إن التطور المادي (التكنولوجيا وما يرافقها من تطور في الزراعة والصناعة والتجارة وحركة العمران) يتم بصورة أسرع بكثير من التطور الروحي/ القيمي كما بينا أعلاه. وهذا التطور السريع في الجانب المادي على حساب الروحي/ القيمي, يرتبط بالضرورة بحاجات الناس الماديّة والروحيّة أثناء نشاطهم وإنتاجهم لخيراتهم الماديّة ذاتها, ففي مجال هذا النشاط المكرس من قبل الإنسان لتأمين حاجاته الأساسيّة من طعام ولباس ومواصلات وغيرها, يدفعه إلى الاهتمام بالجانب العملي أكثر من اهتمامه بالجانب الفكري. وهذا ما يساهم في استمراريّة او ثبات البنية الفكريّة لفترات طويلة, أو بطء حركتها, وبالتالي تكلس وجمود الوعي لدى الإنسان ممثلاً هنا بثقافته الماضويّة, وكذلك بنيته النفسيّة والأخلاقيّة, وحتى السلوكيّة التي تُحكم بالغالب بهذا الوعي, وبهذه البنية النفسيّة والأخلاقيّة الموروثة لدى الفرد والمجتمع,
2- ومن الأسباب الأساس في هذا التفاوت غير المتكافئ بين حقلي الثقافة المادي والفكري, يأتي استخدامنا لوسائل إنتاج ماديّة (تكنولوجيّة) ليست من صناعتنا, وإنما نقوم باستيرادها واستهلاكها, وهنا يحدث الشرخ الكبير بين ما نفكر فيه بعقليّة ماضويّة, وبين ما نتعايش معه من وسائل إنتاج متطورة, لذلك لا نستغرب أن نجد من يحارب الوسائل التكنولوجيّة الحديثة والتطور العلمي المرافق لها, على أنها بدعة وضد عاداتنا وقيمنا وتعاليم ديننا, وهذا ما وجدناه على سبيل المثال لا الحصر, في السعوديّة مثلا عندما اكتشف النفط, وتدفقت الثروات الهائلة التي ساهمت في استيراد التكنولوجيا الحديثة إلى السعوديّة, كالسيارة والطيارة والهاتف وكل ما هو حديث من الوسائل التكنولوجيّة القابلة للاستخدام الفردي أو الجمعي على مستوى نشاط مؤسسات الدولة, حينها وقف رجال الدين من الوهابيّة ضد هذه التكنلوجيا وربطوها بـ (الشيطان الرجيم) الذي يعمل على إفساد الإنسان. ولا نستغرب أن (الباز) مفتى السعوديّة الراحل, لا يقر بدوران الأرض, ويفتي بقتل من يقول بذلك, وإن تاب تصادر أمواله.
إن حالات التفاوت في التطور بين الحقلين الثقافيين المادي والفكري, أدى إلى ظهور نخب ثقافيّة راحت تشتغل باتجاهين مختلفين أيضاً, هما:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه التقدمي, الذي يسعى جاهدا لخلق وعي فكري تقدمي يؤمن بدور العقل وحريّة الإنسان, ومكانته في تقرير مصيره وإعمار هذه الأرض التي نعيش عليها, وضرورة تقبل الحداثة على كافة المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وهذا الاتجاه كثيراً ما لاقى ويلاقي الاقصاء والمحاربة من قبل القوى السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة التي لها مصالح ماديّة ومعنويّة في تجهيل الفرد والمجتمع, وتعمية بصيرتهم عما يجري حولهم, وعن إمكانية تغيير واقعهم نحو الأفضل.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي تمارسه قوى سياسيّة ونخبويّة ثقافيّة, تعمل هنا على عرقلة حركة الفكر الإنساني العقلاني النقدي, والسعي إلى تنشيط وتغذية الفكر القائم على الغيب والامتثال والاستسلام, أو على الحدس والذاتيّة, والدوافع الغريزيّة والنفسيّة, أو الوعظيّة. وعلى هذا الأساس تأتي مسألة قوة وحيويّة الفكر الظلامي الاقصائي والتكفيري أيضاً عند أفراد ومجتمعات العالم الثالث بشكل عام, ووطننا العربي بشكا خاص, وبالتالي عمل هذه المجتمعات عبر فكرها المتخلف والمغوّت حضارياً على محاربة وتدمير نفسها,
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة.