في بلادنا التي تعاني من عدة مشاكل وأزمات هناك ظواهر تستوجب وقفة تأمل عميقة، غير أنها لا تحظى للأسف بما يلزم من اهتمام، رغم ما تخلفه من أضرار وخسائر. ومنها ظاهرة الإفراط في تبذير الخبز، الذي تذهب الأطنان منه إلى صناديق القمامة وتحول أخرى إلى أعلاف للأبقار والمواشي، في غياب حملات تحسيسية للجمهور المغربي العريض بمخاطر التبذير المتنامي، في المدرسة وعبر مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.

      والخبز طعام هيدروكربوني ذو قيمة غذائية هامة، شهي ومتعدد الأشكال والنكهات. وهو المنتوج الأكثر استهلاكا في بلدان الشرق الأوسط وأوروبا وشمال إفريقيا وضمنها المغرب، الذي يخضع إعداده لعدة طرق تختلف من مجتمع لآخر. إذ تتم صناعته يدويا في الكثير من دول العالم، كما كان عليه الشأن بالنسبة للخبازين في العصور القديمة، بينما أصبحت البلدان الصناعية اليوم تعتمد في تحضيره على آلات جد متطورة في المخابز التجارية الحديثة.

      وبصرف النظر عن أصناف الخبز وما سبق أن أثاره الدقيق المستعمل في صناعته من ردود فعل، ذهب جزء منها إلى حد اتهام بعض المطاحن بترويج دقيق فاسد ورديء، يفتقر إلى أبسط معايير الجودة رغم أن الدولة تدعم أسعار الدقيق للمستهلكين، كما ورد في تقارير عدة مؤسسات منها المجلس الأعلى للحسابات حول المخالفات المتكررة، والمكتب الوطني للسلامة الصحية تجاه عدم تطابق منتجات القمح الطري والقمح الصلب مع الخصائص المنصوص عليه قانونيا، والجامعة المغربية لحقوق المستهلك إزاء عدم خضوع مادة الخبز لمراقبة صارمة من طرف السلطات…

      فإن عبد النور الحسناوي رئيس المكتب التنفيذي للفدرالية المغربية للمخابز والحلويات، كشف عن معطيات تشير إلى أن إنتاج الخبز بالمغرب يتراوح ما بين 110 و120 مليون خبزة يوميا، غير أن نسبة مهمة منه تقدر بحوالي 25 في المائة لا يتم استهلاكها، أي أن ما يعادل 30 مليون خبزة يوميا تلقى مصيرها في صناديق القمامة وبطون الأبقار والمواشي. وبإجراء عملية حسابية بسيطة، نجد أننا نهدر قرابة 900 مليون درهم شهريا، إذا ما اعتبرنا أن سعر “الخبزة” درهم واحد فقط.

      وبناء على نفس الإحصائيات المعتمدة من لدن المشرفين على قطاع المخابز والحلويات بالمغرب، فإن معدل الاستهلاك الوطني للخبز يبلغ على الأقل حوالي ثلاثة أرغفة في اليوم للفرد الواحد، ويتفاوت هذا العدد من مدينة إلى أخرى. حيث يلاحظ ارتفاع وتيرة الاستهلاك بشكل واضح في المدن الكبرى وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية، التي يستنزف سكانها ما يناهز 31 مليون “خبزة” يوميا، وهو أمر يبدو بديهيا باعتبار مدينة الدار البيضاء مدينة عمالية بامتياز، إذ يتحدد معدل الاستهلاك الفردي في ما لا يقل عن خمس “خبزات” يوميا، مما يشكل نسبة جد مرتفعة مقارنة مع باقي المدن والجهات المغربية.

      وجدير بالذكر أنه كلما زاد منسوب الاستهلاك اليومي بين المواطنات والمواطنين، كلما ازداد معه حجم الخسائر ارتفاعا، وهي خسائر تقع على عاتق الدولة والمواطنين والمخابز خاصة المهيكلة منها،  لأنها تساهم في تأمين زهاء 70 في المائة من حاجيات المغاربة في مادة الخبز، مما يكلف القطاع خسارة تقدر بقرابة ثلاثة ملايين درهما يوميا أي 1,1 مليار درهم سنويا حسب ما أفصح عنه الحسين أزاز رئيس الجامعة الوطنية للمخابز والحلويات.

      ففي ظل غياب ثقافة ترشيد الاستهلاك إلى جانب عوامل أخرى، يبالغ المغاربة في تناول الخبز، جاعلين منه مادة أساسية، حيث لا تكاد موائدهم تخلو منه في كافة وجباتهم اليومية، في الإفطار والغذاء والعشاء وحتى الوجبات الخفيفة. وهي عادة جد مضرة، لما يترتب عنها من مشاكل صحية. إذ يتسبب الإسراف في استهلاك الخبز الأبيض ترسب الفضلات في المعدة، ويؤدي بعد أمد قد يطول أو يقصر إلى الإصابة بسرطان القولون، فضلا عما يحتوي عليه الخبز من كميات كبيرة من الدقيق الأبيض، الذي يتحول إلى جلوكوز، يساهم في الرفع من نسبة السكر في الدم ويتسبب كذلك في السمنة وأعراض الاكتئاب وارتفاع ضغط الدم وغيره.

      من هنا بات من غير المقبول استمرار المواطن في مراكمة مواد استهلاكية وفي مقدمتها الخبز، وتركها عرضة للتلف والضياع دون الانتفاع منها، بينما الأجدر به ادخار ثمنها لتعزيز قدرته الشرائية، أو التصدق به على من هم أشد حاجة إليه من الفقراء والمحتاجين. والعمل على تفادي التهافت على السلع خلال المناسبات والحفلات، لما في ذلك من تأثير سلبي على الاقتصاد الوطني. لاسيما أن تقريرا لمنظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة، أفاد في هذا الصدد بأن المواطن المغربي يرمي سنويا حوالي 91 كلغ من الأطعمة في حاويات الأزبال.

      والأدهى من ذلك أن ظاهرة تبذير الخبز وغيره من الأغذية تتعاظم خلال الشهر الفضيل رمضان، بفعل تزايد الميل إلى اقتناء الخبز والحلويات بمختلف أشكالها. حيث تشير المعطيات إلى أن الأسر المغربية تتخلص فيه من حوالي ثلث المواد الغذائية الصالحة، والبالغة قيمتها حسب المصدر ذاته إلى زهاء 500 درهم شهريا. في الوقت الذي فرض فيه الله على المسلمين رمضان قصد تعميق إيمانهم وتقوية عزائمهم، تحرير إرادتهم وجعلهم أكثر ميلا إلى فعل الخير منه إلى التباهي بالإنفاق غير المجدي، وإفراغ الشهر الكريم من مقاصده النبيلة وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية. فمتى نصل إلى مستوى عقلنة الاستهلاك وتجنب المزيد من الإسراف والتبذير؟ !

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…