لم يأت الدين في سياقه العام, مشروعاً يعمل على تجسيد الأسطورة أو الخرافة في بنيته الفكرية البدائية فحسب, كما أنه لم يأت لرفض تلك الأساطير والخرافات بما فيها عبادة الأوثان والأصنام والدعوة إلى عبادة الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء والذي أمره إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكن في الديانات الابراهيميّة فحسب أيضاً, وإنما جاء في كل تعدداته وهو يحمل في ابعاده العميقة حمولةً وأهدافاً تتعلق بحياة الناس الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. وهذه الأهداف حدد مقاصدها الأساس طبيعة النص العام المقدس من جهة, ومصالح الذين اشتغلوا على هذا الدين تفسيراً وتأويلاً ووضعاً في أحيان أخرى, خدمة لمصالح قوى سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة محددة.
من هذا المنطلق الوظيفي للدين تاريخياً, دعونا نتعرف على أهم وظائفه اللاهوتيّة والسياسيّة والجهاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
أولاً الوظيفة اللاهوتيّة للدين: وهي وظيفة تُحَدِدُ طبيعتها ودلالاتها ودرجة عمقها علاقة الإنسان بالدين ذاته, لذلك, هي تتمظهر واضحةً في حديثه وعلاقاته مع الآخرين وسلوكياته وطريقة لباسه وممارسته للطقوس الدينيّة. فهي عند المؤمن البسيط لا تتعدى تأدية الفرائض الدينيّة من صوم وصلاة وزكاة وصيانة لسانه وفرجه والتمسك ببعض طقوس ورموز هذا الدين, وإن استطاع فالحفاظ أيضاً على حقوقه وحقوق الآخرين الماديّة والمعنويّة وفقاً للمعايير الأخلاقيّة والشرعيّة التي حددها أو شرعنها الدين. أما عند الرجل الذي نذر نفسه لدينه وربه, فهي تأخذ بعداً وشكلاً آخر أكثر تطرفاً, وغالباً ما تتجلى هذه الحالة عند المتصوفة العرفانيين. فالمتصوف يعتبر الوظيفة الدينيّة لديه ذات أبعاد روحيّة ومعرفيّة (غنوصيّة), تدفع الإنسان إلى التخلي عن معظم ما هو محسوس في هذه الحياة, كي يتفرغ لعبادته ومناجاته لربه, التي تُوصل البعض من رجال التصوف إلى مرحلة الشطح أو التطرف فكراً وسلوكاً إن كان في علاقة المتصوف مع نفسه, او في علاقته مع ربه, إن كان من حيث لباسه, أو حديثه, أو تفكيره, أو موقفه من الحياة الماديّة, أو النظر في حاجاته ورغباته, أو في رؤيته الفلسفيّة تجاه الله. هذه الرؤية التي أوصلته إلى مرحلة وحدة الوجود, أو التوحد مع الله. وتاريخ التصوف ألعرفاني يعطينا نماذجاً لهذا النوع من التطرف نجدها عند الحلاج, وذي النون, والسهروردي, ورابعة العدويّة, وابن عربي, والبسطامي, وغيرهم الكثير. فمثل هؤلاء تركوا الحياة بما فيها وسلكوا طريق الجوع والتقشف ولبس الصوف والتوجه نحو الله بأرواحهم التي تسامت عن كل محسوس وغريزي. الأمر الذي جعل الكثير من معاصريهم, وبخاصة من كان لهم وظائف دينيّة تخدم السلطات الحاكمة, يجدون في هؤلاء المتصوفة خطراً على وظيفة الدين نفسه من جهة, وخطراً على سلطة الحاكم المستبد الذي يريد الدين لوظائف أخرى من جهة ثانية, كونهم قد لمسوا عند هؤلاء المتصوفة العرفانيين مواقف تميل للفقراء والمحرومين والتضحية من أجلهم, وهذه المواقف تُهدد معاقل الحكام ومن يُسبح بحمدهم بالضرورة. وهذا ما أدى إلى قتل الكثير من هؤلاء تحت ذريعة الشذوذ والتطرف والشطح في الدين.
ثانياً: الوظيفة السياسيّة للدين: هي وظيفة متعددة الأغراض, يمكننا تحديد أبعادها في التالي:
1- الوظيفة الدعويّة: وهي وظيفة يقوم بها رجال دين متخصصون في دراسة العقيدة وأصولها وأحكامها الشرعيّة, وغالباً ما يوظف هؤلاء الدعاة الذين يفسح لهم المجال واسعاً لنشاطهم الدعوي في الجوامع وقنوات الإعلام, من أجل نشر فكر ديني محدد غالباً ما يصب هذا الفكر في نهاية المطاف لخدمة القوى السياسيّة الحاكمة ومنحها الشرعيّة.
2- الوظيفة المدخليّة: وهي وظيفة يؤديها أيضاً نخبة من مشايخ ورجال الدين المتخصصين في فهم العقيدة, وهذه الوظيفة تتجسد في خدمة مؤسسات الدولة الدينيّة, فهم موظفون دولة يؤدون وظائف دينيّة خدمة لهذه الدولة وما تمثله من قوى حاكمة, يقتصر دورهم في الظاهر على نشر القيم والرؤى الدينيّة التي تدافع عن السلطة وتبرر أو تشرعن لها أعمالها باسم الدين, وكثيراً ما يستغل رجال ومشايخ هذا التيار الديني الفسحة الواسعة لحركتهم الدينيّة فكراً وممارسة كي يقوموا بنشر الفكر السلفي الأصولي التكفيري من خلال دروسهم الدينيّة في الجوامع وعبر وسائل الإعلام المتاحة لديهم وغير ذلك من مؤسسات دينيّة, ونتائج هذا النشاط تجلت واضحةً في ما سمي ثورات الربيع العربي, حيث تجلى هذا الدور التسيسي للدين واضحاً في مواقف من حَمل لسلاح ضد الدولة وكثرة عددهم وتوجهاتهم الفكريّة.
3- الوظيفة الجهاديّة للدين وتشمل:
أ- الوظيفة الجهادية التكفيريّة: وهي وظيفة تؤديها قوى اجتماعيّة غالباً ما تكون ذات طابع تنظيمي أو حزبي, تعمل خارج نطاق الدولة, وتتخذ في حركتها التنظيميّة والجهاديّة طابعاً سريّاً.
تنطلق وظيفة هذا التيار, من أن هناك خالقاً لهذا الكون بكل ما فيه وعلى رأسه الإنسان, الذي خلقه الله فسواه فعدله, وبالتالي رسم له طريقه في لوح محفوظ من ولادته حتى مماته, وهو الذي أنزل عليه القرآن ليبين له ماذا له من حقوق وما عليه من واجبات, وبالتالي ما عليه إلا أن يطبق ما جاءه في هذا القرآن, الذي عرفت فيه الأجيال الأولى من الصحابة الصراط المستقيم, وعليه الاقتداء بهم والخلاص من كل مفاهيم الجاهليّة (الوضعيّة) التي ابتدعها الإنسان وادعى بأنه قادر بها أن يحدد مصيره بنفسه. ومن خلال هذا المنطلقات جاءت الحاكميّة ومن هم مسؤولون عن تطبيقها من النخب التي نذرت نفسها لفهم هذه العقيدة والعمل على تطبيقها فكراً وممارسة ولو بحد السيف, وبالتالي فكل من يخرج عن هذه الحاكميّة فكراً وممارسة هو كافر وخارج عن الدين ويُحل دمه وماله.
ب – الوظيفة الجهاديّة العقلانيّة: نجد في هذا الاتجاه تياراً آخر في هذه الوظيفة الجهاديّة, وهو التيار أو الاتجاه المقاوم, الذي اتكأ دينيّاً على العقل وحريّة الإرادة الإنسانيّة, والقدرة على فتح النص المقدس بكل دلالاته الإنسانيّة, حيث وجد في الدين منهجاً إنسانيّاً وروحيّاً قابلاً لفهم الحياة في كل مستجداتها ومستوياتها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة, وأهم قضيّة هي القدرة على تطبيق مقاصد الدين الأساسيّة في حفظ حياة الإنسان وماله وعرضه وأرضه. تُمَثِلُ هذا الاتجاه في الحقيقة القوى الليبراليّة الإسلاميّة وبعض الفصائل السياسيّة الإسلاميّة التي اعتبرت الجهاد ضد عدو الخارج وفي مقدمته الكيان الصهيوني وقوى الامبرياليّة والاستبداد جوهر عملها ونشاطها القائم على الدين.
ثالثاً: الوظيفة الاجتماعيّة (السوسيولوجيّة): وهي وظيفة تقوم على أسس أخلاقيّة في الغالب, حيث أن الأخلاق الدينيّة هنا ذات طابع معياري, وهي صالحة لكل زمان ومكان, كونها ذات طابع رَسَمَ حدودها النص المقدس, وبالتالي فإن التمسك بها وتأديتها, سيضفي طابع المصداقيّة على من يتمثلها. من هنا تأتي وظيفة الدين الاجتماعيّة, ذات طابع براغماتي (نفعي) في الغالب, إما لإرضاء الله والحصول على مكافأة الجنّة, أو لإرضاء المجتمع وتحقيق منافع شخصيّة حياتيّة. فكم من إنسان حج إلى بيت الله كي يستغل صفة (الحاج) التي تعطيه مصداقيّة أمام المجتمع وعلاقاته. وكم من إنسان كان منحرفاً في أخلاقه فتاب إلى الله, واستطاع بتوبته تبيض صفحة أخلاقه بتربية دقنه وحمل سبحته ومسواكه, أو في صلاته وصيامه. ومع ذلك فنحن لن نعدم بعض المواقف الدينيّة الصادقة النابعة عن تمثل حقيقي لقيم الدين, ولكنها قليلة.
رابعاً: الوظيفة الثقافية: وهي برأي الوظيفة الأكثر تعقيداً, والأكثر خطورةً على حياة الفرد والمجتمع, كونها تشكل حاجزاً أمام إبداعات الإنسان. فالثقافة كما نعرفها هي كل ما قام الإنسان بإنتاجه تاريخيّاً عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع من قضايا ماديّة وروحيّة بما فيها قابليات الإنسان ومهاراته الفكريّة والعضليّة التي اكتسبها عبر تلك العلاقة التاريخيّة. وإذا كان الدين كما جاء في النص المقدس يسمح بالحصول على المعارف الدنيويّة وطلب العلم من المهد إلى اللحد, وهو لا يتدخل في نطاق إيمان الفرد أو كفره في الحياة الدنيا, واعتبار العلماء بمثابة الأنبياء, فلا مشاحة إذن بممارسة النشاطات العلميّة, أو الثقافيّة, في الزراعة والصناعة والتجارة والفن والأدب والفلسفة, وتشغيل العقل ومهاراته في التحليل والتركيب من أجل ابتداع الحلول الكفيلة لتخليص الإنسان من سيطرة القوانين العمياء في الطبيعة والمجتمع, ونؤكد هنا على القوانين الاجتماعيّة التي يخلقها الإنسان بنفسه أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة, حيث يتحقق ضياعه وغربته واستلابه وتشيئه وعذاباته عبر هذا الإنتاج. بيد أننا نجد بعض القوى الدينيّة السلفيّة الظلاميّة المعاصرة التي تفهم الدين وتفسره أو تأوله بعقليّة القرون الوسطى وما حملته تلك القرون من صراعات فكريّة ذات طابع مذهبي وسياسي وعقيدي ما بين أهل العقل والنقل, ما بين أهل الجبر والقدر, حيث تحارب هذه القوى الجموديّة الامتثاليّة كل جديد تفرضه طبيعة الحياة ويعبر عن القيم الإنسانيّة الإبداعيّة النبيلة. فهذه القوى الأصوليّة تحارب الفن الذي يمثل جسد الإنسان, كون هذا التجسيد برأيهم يمثل حالة وثنيّة قام الإسلام بمحاربتها, وبذلك قتلوا إبداعات الإنسان الفنيّة تحت مفهوم الحرام. وهذا ينطبق على رجال القانون, حيث اعتبروا أراءهم والقوانين التي يسنونها هي خارج النص الشرعي الذي سنه الله وتحدي له. وهذا ينطبق على محاربة الفلسفة التي تحرك عقل الإنسان وتفسح المجال أمامه في التحليل والتركيب لكل الظواهر التي يتعامل معها ومنها الدينيّة ذاتها, كما تجعل الإنسان يتساءل لماذا ظهرت هذه الظاهرة ؟, وكيف؟. وأين؟ وهي أسئلة وجد فيها أصحاب هذا الفكر الديني الظلامي خروجا عن الفهم السلفي للنص الديني كما فهمه مشايخ الطرق والفرق والمذاهب, الذين طالبوا المسلمين أن يستسلموا لتفسير وتأويل النص كما فهمه هؤلاء المشايخ, واعتبروا أصحابه ومن تبعهم هم الفرقة الناجية, وكل من يخالفهم في التفسير والتأويل كافر ومن الفرق النارية التي يُحل دم ومال أتباعها. من هذا المنطلق الفكري الجمودي الوثوقي, قالوا إن الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد, وكذلك حاربوا الفن القصصي, تحت ذريعة أن القرآن يقص علينا أحسن القصص.. وهكذا نجد بمثل هذه الوظيفة القمعيّة للثقافة باسم الدين, قد تم القضاء تاريخيّاً على أهم إبداعات الإنسان ومهاراته الفكريّة التي سمح النص الديني نفسه بضرورة استخدامها في التعامل مع الواقع والبحث عن الحقيقة (ألا يفكرون, ألا ينظرون. الخ.) ثم أن هذه المهارات الفكريّة وحدها من يستطيع العودة بنا دائماً إلى مرجعتنا الإنسانيّة, لتفسح في المجال واسعاً أمام ثقافة المحبة والتسامح واحترام الأخر والاقبال على الحياة الدنيا اقبالا خيراً واعتبارها طريقا صالحا للآخرة, على اعتبارها متاعاً يدخر فيها الإنسان كل الخير لأخرته.
إن ثقافة الكره والظلام والجمود التي تعمل القوى السلفيّة التكفيريّة على تعميمها اليوم, هي ثقافة ما ضويّة تجاوزها الزمن منذ ألف عام ونيف, هذه الثقافة التي أُعطيت صفة التقديس, وتحولت مع مرور الزمن عند دعاتها إلى جزء من التكوين النفسي والأخلاقي والوجداني والمخيالي للفرد والمجتمع, بل جعلت في الحقيقة من يسيرون في ركابها يعيشون حالات من الانفصام والازدواجيّة ما بين قيم العصر الذي يعيشونه, وهي القيم التي تفرض نفسها بالقوة على حياتهم اليوميّة المباشرة, وبين قيم الماضي التي تغذي قلوب وعقول الناس عبر المدرسة والإعلام والجامع, كي تعمل دائماً على إعادة إنتاج عالم الغيب بديلاً من عالم الشهادة, عالم كره الحياة بدلاً عن عشقها, عالم حور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن, وجنان الخلد, بدلاً عن عالم الأرض التي أمر الله تعالى أن يكون الإنسان فيها خليفة له ويعمل على إعمارها وتحقيق سعادته فيها, من منطلق اعمل لدنياك كآنك تعيش أبداً, واعمل لآخرتك كآنك تموت غداً.
د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية