.

لم يكن الحلم الذي استولى على عقول الجماهير والنخب داخل القطر الواحد في العالمين العربي والمغاربي، من المحيط إلى الخليج، سنوات المقاومة من أجل الاستقلال وبناء الأوطان في سياق سياسي دولي بقطبين قويين، إلا تشييد أسس وجسور أنظمة سياسية بمقومات نظرية فكرية وثقافية تعيد لحضارة المنطقة أمجادها، ويتم الارتكاز عليها لبناء وحدة ونهضة إقليمية بأبعاد جيواستراتيجية حكيمة. لم يدر في خلد الفاعلين، في زمن المقاومة والنضال، سوى فكرة واحدة، وهي تحويل الأوطان إلى فضاءات معرفية، تستوعب كل أبناءها، وتتقارع فيها بسلمية الأفكار والإيديولوجيات، وتتنافس بإيجابية قصوى على ابتكار المعارف والسبل القابلة للتفعيل، راسمة محطات بأهداف واضحة، تتراكم من خلالها مقومات حماية كرامة وحرية الشعوب وتحقيق رفاهيتها وسعادتها.

امتزج الفكر والسياسة، ووثق التاريخ مرورا عسيرا من مرحلة لأخرى. فضاء الوطن القطري الواحد لم يحتضن أغلبية أبنائه. تشبث الوطنيون بالفكرة، واستسلم الانتهازيون للمواقع والكراسي والغنائم، تم اصطناع، بكل الوسائل المتاحة، دوائر النفوذ المحيطة بالسلطة المركزية بطبعة عسكراتية. وعم التهافت ترابيا، في إطار منطق متصارع وعنيف، لتقوية الامتدادات المناصرة، ليضيع الوطن، ويحرم من مادته الرمادية وروحه الجماعية. تكلست العقول، وضعفت عضلات الأوطان وتماسكها، لينتشر ضوضاء وضجيج اصطدام الحديد بالحديد تارة، وبعضلات أو أطراف المعارضين تارة أخرى، لتنقبض النفوس، وتحاصر الإرادات، وتلتهب النيران حارقة الأماني والآمال. همشت “الفكرة الصافية” وأصحابها، واعتبرت تعنتا. تم ترديد الهمسات على الآذان تحت طائلة الوعيد والتهديد، بنفحات الابتزاز والتخويف، رافعة عتبة التفاوض، ومعلنة في نفس الوقت رسمية انفراج الأوضاع في عدد من الأقطار، وبرزت خصوصيات وسطية في أخرى. تجاوز الصراع بعد سقوط جدار برلين وحشية جز الألسن والإبادات والاختطافات والتغريب بدون محاكمات، ليمر إلى مرحلة وسطية أخرى تتخللها أوامر بالاعتقال المشروع ظاهريا ومؤسساتيا، ثم المراجعة، وإعلان حالات الصراح المؤقت أو إخلاء السبيل بإعفاء مؤسسات التحكيم. شاع التفاوض في كل مكان، في الإدارة والسجون والأحزاب والنقابات والجمعيات. ارتفعت الأصوات مطالبة بتوضيح طبيعته ومحاور نقاشاته، ومدى استحضار مصلحة مصدر السلطة فيه، أي مصلحة الشعوب. لاح صوت من الأعلى مكررا ومبررا الحاجة إلى مزيد من الوقت لإعداد المقال للمقام، رافعا شعار “لكل زمن رجاله”.

في سياق هذا التقديم، كل من يسترسل في قراءة القصة القصيرة “الخوف” من تأليف الدكتور علي القاسمي، لا يمكن أن يتممها وهو في حالة عادية. ستنتابه بلا شك الرعشة والخوف تارة، ويستسلم كيانه للارتجاف رعبا وهلعا وللحمى جراء فضاعة تسلط رواد الطمع وحب السلطة والمال. لقد أرخ من خلال فقراتها لمرحلة أساسية ومحورية في تاريخ المنطقة، مرحلة أجهض فيها الحلم العربي، وتحول إلى كوابيس قاتلة. تم الاستيلاء ووضع اليد بالحديد والنار على الأوطان واستباحتها في تواريخ متباينة لكن يجمعها منطق واحد، لتتناسل الاعتقالات والاغتيالات والاختطافات وجز الألسن والأيادي ….. ضاق واختنق الأفق، واضطرت العقول النيرة بفعل تعسف الأوضاع السائدة للبحث عن منافذ لدخول عالم الاغتراب واللجوء السياسي ومعانات التهجير القسري … إن البحث على توطيد نفوذ السيطرة لم يترك أي فرصة للتفكير في تقوية الأوطان بزرع بذور المعرفة والديمقراطية، لتصبح الأجهزة الحاكمة، حكومات عسكرية أو شبه عسكرية متعصبة للذات ودوام سيطرتها (حكومات اجتاحت البلدان العربية وجعلتها متخلفة قابلة للاستعمار من جديد)، مهووسة بالممارسات الممنهجة بهدف تقويض نفوذ الاعتراضات وقواها المعارضة، ليتاح لها بأريحية استغلال الميزانيات وتسخير ثمارها لذويها والتابعين لها، وسلب خيرات أراض شاسعة وإحلال مشاريع صناعية ومجمعات تجارية ومجاميع سكانية أخرى بدلا عنها…

إن عمليات الانقضاض على الحكم على إثر انقلابات فجائية، عسكرية أو شبه عسكرية، أو ثورات بدون زعامات شعبية حقيقية، سرعان ما انفكت شعاراتها وتحللت، ليتم اللجوء المفضوح إلى اللعب على الخوف وتغذيته باستمرار لخلق الهشاشة والقلق والتذمر في الروح الجماعية والفردية داخل البلد الواحد. المواطن المخلوع من فوق تاج وطنيته، الذي تم زرع آليات الخوف من حوله، تحول مع الوقت إلى كائن غير منتج وغير حصين، وسهل التحكم فيه بالمناورات الساذجة، وسلم الجمهور مصيره للتاريخ ليقول كلمته.

بهذه الانطلاقات غير المشرعنة نضاليا وشعبيا، التي عرفها عدد من الأقطار الإقليمية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تكدرت الأوضاع، وتفسخت العلاقات الاجتماعية، وارتمى المواطن رغما عنه، بنفسية مخنوقة، في غياهم الهم والتيه والدوخة والدوران، بحيث اضطر، بأمل تأجيل التحرك إلى حين، لمسايرة المجهول، بلا مقاومة ولا تحريك ساكن. لقد وجد نفسه أمام تعسف ثلاث خيارات لا رابع لهما: الهروب لاجئا، أو النضال وركوب مخاطر الإبادة، أو الصمت وتحمل العيش بإذلال واستسلام.

وللوقوف عن تجليات هذا الوضع الفوضوي المخيف والمرتبك (ضعف السلطة التدبيرية بسبب انشغالها بترويع وتطويع نفوس مواطنيها)، اختار له الدكتور القاسمي عبارات مذهلة ومعبرة صورت للقارئ بإبداع تركيبة نفسية رجل القصة (الراوي) بالدقة المتناهية:

  • خلَّف صخبَ المدينة وأدرانَها وراءه وأتى ينشدُ رحابةَ البحر وصفاءَه (الهروب).
  • طرقات المدينة التي خلفها وراءه قد ضاقتْ، وأخذتْ بناياتها الشاهقة تُطبِق عليه من الجانبين.
  • أحس بصعوبةٍ في التنفُّس وبشيءٍ ما في صدره، يسبّب له أَلَماً مُمضّاً ينضاف إلى صداعه.
  • اشرأَبَّ عنقه مُلتمساَ نسمة هواء، وامتدَّ نظره إلى الأعلى متوخّياً زرقة السماء، فلم يلمح إلا العمارات العالية، وهي تقترب بعضها من بعض، حتّى تكاد تلتقي مثل جانبي هرم شامخ.
  • حاول أن يتنفَّس عميقاً فتعسَّر عليَه الأمر وتعذَّر، كما لو أنّ الهواء أمسى مادَّةً صلبةً ثقيلةً، لا يتَّسع لمرورها أنفه.
  • وقف على قارعة الطريق، وأَجل بصره، فتبدَّتْ له الدُّور تدور حوله، والأرض تمور تحت قدميه. وسرعان ما أخذتْ حبّاتُ العَرق تتحدَّر على جبينه، ثمَّ تجتاح جسده المحموم كلَّه.
  • تلفّت حوله، فلم يَرَ في الشارع إلا سيّارات تتلاحق مسرعةً، وهي تُطلِق أبواقها المدوِّية، وتنفث دخاناً أسود من مخلَّفات وقودها. وتراءى لعينه ذلك الدخان، وهو يرتفع في الفضاء، فيلتقي دخاناً أسود آخر، تلفظه مداخن المصانع، ليتجمّعا في شكل غمامةٍ كبيرةٍ تخيِّم على المدينة برمَّتها، واضعةً حدّاً لحركة الهواء، وحاجبةً نور الشمس عن الأزقة اللزجة.
  • ألفى نفسه، بعد برهة، خارجاً من المدينة، مارّاً بشوارعها الخلفيّة العارية من الأشجار، وأحيائها التعيسة ذات المواخير القذرة السريّة، والروائح الكريهة المنبعثة من أكوام القمامة وفضلات الكلاب الضالة والأليفة، وهو يسرع الخطى مهرولاً صوب البحر.
  • معاول التوسُّع الكاسح، اغتالت أشجارها، واجتثّت جذور نباتاتها من الأعماق بلا رحمة، فتلاشت الخضرة، واختفتِ العصافير، ولم تعُد الغيوم تسحُّ أمطارها فوقها، وإنّما تمرُّ مسرعةً ولا تتوقَّف عندها.

وصل الراوي إلى البحر، إلى الملاذ الذي يتيح تثبيت النظر في أفق الأمل لترتاح فيها العيون. عظمة البحر التي تقاوم جبروت الإنسان وتسلطه. يغضب ويهيج ويخرج، طال الزمن أو قصر، كل من تحداه وتغطرس عليه، بدون معرفة الإبحار وإتقان الغوص في أعماقه، جثة هامدة. ينحني احتراما وإجلالا للبواخر متقنة الصنع ولقادتها المهرة، ويجلب المتعة والسعادة لركابها. يناشد بحنان من يتأمل أمواجه من مختلف شواطئه المريحة. إنه هروب الراوي من كرب المعيش باحثا عن الطمأنينة المنبعثة من شساعة البحار والمحيطات. إنه الهروب الذي خص له القاسمي عبارات الفقرة الموالية التالية، ليلامس القارئ المعنى والمغزى منها:

  • جلس على ربوةٍ عاليةٍ تتوسّط حقلاً من الحقول المُطلّة على البحر.
  • راح ينقّل بصره من خضرة الوهاد المحيطة به، إلى زرقة ماء البحر المترامي حتّى الأفق، حيث انتشرت أشلاء الشمس الغاربة، وهي ترحل إلى عالم آخر، تشيّعها بعض الغيوم الداكنة.
  • راح فكره يتأمّل أحوال المدينة، وتتردّد فيه حكايات والده وذكرياته عنها، عندما كانت، إبّان طفولته، امتداداً لتلك الحقول المُزهرة والبساتين النضرة، لا يُسمَع فيها إلا تغريد الطيور ومزامير الرعاة.
  • لم يكُن ثمّة ما يعكّر صفو ذلك المساء، فالنسيم رائق، والبحر ساجٍ، وأمواجه تنساب برقَّةٍ، لترتمي في أحضان رمال الشاطئ الناعمة. فراح بصره يتنزَّه في الأثير اللاحب، ويستحمُّ بارتياحٍ في زرقة الماء. وبتواطؤٍ مع البحر، سَار في أعماقه رويداً رويداً، أمواجٌ من الارتياح والهدوء، تتناغم مع هديره الخافت، ولفَّه المساءُ بنسماته المُنعِشات وآنستنه غيماته العابرات، فشعر شيئاً فشيئاً بالانتعاش، وغادره دُواره.

إنه زمن القطبين، زمن الانقلابات والانقضاض على السلطة، وما يترتب عنها من أوضاع صعبة، تقلصت الفضاءات الآمنة أو انعدمت بشكل كلي، بحيث يتحرك جبابرة الخوف والتخويف في كل مكان. إن فترة ارتياح السارد من فظاعة أوضاع المدينة لم تدم طويلا. فالفضاء المتسع الخالي، الذي حال بينه وبين الألم والخوف، سرعان ما فاجأه بحدوث فاجعة مرهبة وشنيعة. سكون المساء لم يدم طويلا. فما إن انتابه إحساس غريب جعلنه يَفزُّ ويدير رأسه بتوجُّسٍ إلى الخلف، مثلما يفزع جوادُ ويصهل وهو على بُعد عشرات الأميال من هَزَّةٍ أرضيةٍ داهمة، حتى داهم المكان جبابرة جز الألسن ورواد القهر ونهب الخيرات (النص:”حدّقتُ في الفراغ. رسوم بنايات المدينة ما زالت قائمة، وإن بهتت ألوانها بفعل تحولات ضوء النهار، وضجيج مصانعها قد أَتت عليه المسافةُ الفاصلة بيني وبينها، وما عُدْتُ أتبيَّن على البعد سوى دُخانها المتصاعد دوماً. بيد أنّي أبصرتُ أربعةَ رجالٍ قادمين من المدينةِ يحثُّون السير في اتّجاه البحر. ظننتُهم أوَّلَ وهلةٍ خارجين في نزهةٍ على الشاطئ، فقد كان أوَّلهم يضع يديه وراءه. وبلا إرادة مني شُدَّت أهدابي إليهم، وتعقّبهم بصري بتلقائيَّة. وكلّما اقتربوا لاحت لي هيئتُهم متّضحة أكثر فأكثر. فتبيَّنتُ أنَّ الرجل الذي يسير في المقدِّمة، يرتدي ملابس مدنيّة ويداه مقيَّدتان إلى الخلف، والثلاثة الآخرون يحيطون به وهم يلبسون زيّاً موحَّداً خاكي اللون. ولفتَ انتباهي أنّ قامة الرجل المقيَّد اليديْن تميل إلى الخلف، وهو يسير بصورةٍ متقطّعةٍ،كأنَّ الثلاثة الآخرين يدفعونه دفعاً،ويرغمونه على مواصلة السير).

إنه رجل بصفات وملامح المناضلين أو تراب وطن يعشق شعبه (النص: جبهةٌ ناصعةٌ، وعينان تشعّان نوراً، وملامح لم ينَلْ من طلاوتها العَنَتُ، ولم يحجب روعتَها المصابُ. وجهٌ مشرقٌ محبوب) بين يدي الانقلابيين العسكر وبوليسيهم السياسي، المتجبرون الذين لا يرحمون، ويلاحقون المعارضين أو رواد الفكر الأحرار أنّى ذهبوا وحيثما حلّوا، ليجب بهم في دهاليز التعذيب، ويخضعون خيرات الوطن لنزواتهم ومصالح ذويهم وأتباعهم، لتنتفي معاني الوطن (النص: كانت وجوه هؤلاء حادّة التقاطيع، مُتسمّرة مُتصلِّبة إلى الأمام في اتِّجاه البحر. الحقد ينقدح من عيونهم الخُزْر). أما صفة زعامة وشهامة وتاريخ نضالية المعتقل المنغرسة في وجدان السارد (جبان رعديد ومنكسر من الداخل)، فعبر عنها بمعرفته اليقينية له، وكونه من أبناء القرية، وكان مجسدا لشساعة التراب من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب (النص: هذا وجهٌ أعرفه، هذا وجهٌ ألفتُه منذ طفولتي … كنتُ ألقاه في القرية حيث نشأتُ، وأصادفه في المدرسة حيث تعلَّمتُ، وأشاهده في المدينة حيث اشتغلتُ…. كان وجهه الحنون يستهويني في صغري وما زلت أهواه في كبري، فوجهه قريبٌ من قلبي، حبيبٌ إلى روحي، له طعم التمر، وعذوبة الماء الفرات، وطالما حدّثت أطفالي عنه، فأحبّوه كما أحببته. ولكنّي لا أذكر اسمه. أسعفيني يا ذاكرتي المرهقة! انجديني باسم الرجل الأسير!).

فعلا، لقد نجحوا في تقييد وتكبيل سواعد الوطن بشدة لا تترك له أي فرصة للتنصل أو التخلص من أيديهم والهروب إلى مصير آخر. لقد تمكنوا من خندقة الكل في دهاليز المجهول (النص: الرجل ذاته في محنةٍ اليوم. وظلّ سؤالٌ محيِّر يجلدني: لماذا يقيّدون يدَي هذا الرجل؟ وإلى أين يقتادونه، يا تُرى؟).

أما عن الأساليب القمعية المعتمدة لإسكات الأفواه وتكميمها، ونهب خيرات البلاد واحتكارها، فعبر عنها الكاتب بالفقرة التالية: “وضعَ أحدهم يديه بعُنفٍ على فكَي الرجل، مُرغِما إياه على فتح فمه. وسحب الثاني شيئاً لم أتبينه من الفم الفاغر، واستلَّ الثالث خنجراً، فقطع ذلك الشيء ورمى به في الماء. ورأيتُ بعينيّ خيطاً أحمرَ يمتدُّ من بقعة الماء تلك حتّى الأفق، ليلتحم بأشلاء الشمس المبعثرة هناك، ويرتفع إلى عنان السماء كنافورةِ دم. ثمَّ أخذ الرجال الثلاثة يطأطئون رأسَ الرجل الأسير، دافعين به إلى الماء، في محاولةٍ ظاهرةٍ لإغراقه”.

أمّا الوطن الأغر، بصفاته التي تشمل كل الأوطان، فشيمته المقاومة وعدم الاستسلام وكتابة صفحات التاريخ تارة بالأمجاد وتارة أخرى بالدماء (النص: فقد كان يقاوم بصلابةٍ، رافعاً رأسه بين الفينة والفينة إلى السماء وإلى الخلف).

الوطن، بتاريخه وكبريائه، عندما يشتد عليه الضيق والاختناق، ينتفض ويصرح، وإذا عم الصمت حوله، يتربص بالزمن باحثا بإصرار عن فرص الحرية (النص: في أثناء ذلك وقع نظره عليّ من بعيد، أو هكذا خُيّل إليّ.  خُيّل إليّ أنَّ عينَيْه تستنجدان بي، تحثّانني على أنْ أتحرَّك، أنْ أصرخ في وجوههم، أنْ أفعل شيئاً، أنْ أنادي على الفلاحين في الحقول القريبة، أن أستغيث بالعمال في مصانع المدينة، أن أفعل أيَّ شيءٍ لإنقاذه، لا بدافع الشفقة عليه، بل بما يحتِّمه عليّ الواجب الإنسانيّ، وما يمليه حبُّه عليَّ).

لم يتدخل الراوي لأن حدة التدافع والتضامن أضعفها الخوف. معاتبة النفس في صمت هي بمثابة أمل في غد أفضل. التنديد بالأوضاع في صمت، بتأثر وتحصر شديدين، جراء الخوف من البطش، لم يتوج في فضاء مجريات القصة بما أسماه الدكتور يوسف إدريس بترسيخ ثقافة حماية الخطأ والخطيئة، بل هو موقف مسايرة وبحث عن بدائل وموازين قوى تاريخية جديدة في المستقبل. إنها حالة انتظارية بائسة مكفرة، تتلاطم في جوفها في نفس الآن مشاعر العجز والوهن والعنفوان التاريخي. إنها كذلك مشمئزة بسبب المحاولات القهرية لإفراغ العواطف من حمولة الاعتزاز بالانتماء، لكنها تتطلع لاستيقاظ الضمير الجماعي واستنهاض الهمم، وتنتظر المناسبة أو الظرفية المواتية لترتفع أصوات الحناجر المخنوقة مطالبة بالتغيير بنضال سلمي أساسه المعرفة والوعي بقيمة الوطن والوطنية وحب تراب الانتماء والهوية (النص: بَيدَ أنّي بقيتُ جامداً في مكاني. فقد أخذ الخوف يتسرَّب إلى مسام جلدي ويتخلَّلها، فأشعرُ بارتعاشةٍ تسري في بدني، وتدبُّ منه إلى أوردتي وشراييني، فتسُود برودةٌ لاسعةٌ فيها، ويتجمَّد الدمُّ بداخلها، ويتصبَّب العرق من جبيني المحموم. لقد شلَّني الرعب المنبعث من نصالِ خناجرهم المسلولة، وأقعدني الخوف كسيحاً بلا حراك، فلم أعد أشعر بساقيّ. وانتابني الذهول وأنا غارق في طُوفان من الهواجس والوساوس. فكّرتُ في أنْ أجري نحوهم، أنْ أهجم عليهم، ولكنَّني لم أتحرَّك قطّ : لم أرفع رأسي، ولم أفتح فمي، ولم أمدّ يدي، ولم أحرّك قدمي. فقد خطر في مخيَّلتي أنَّ إقدامي على شيءٍ من ذلك، سيودي بحياتي حتماً، وأعود ـ إن عُدْتُ ـ هذا المساء إلى أطفالي محمولاً على نعشٍ بدلاً من أن أًحمل إليهم بشارةَ حصولي على عمل. سأُمسي كَمَن خرج في البادية يصطاد طعاماً لأهله الذين يتضوّرون جوعاً فاصطاده الأسد. وبشيءٍ من المرارة والخجل، اعترفتُ في دخيلتي أنَّني لست قتاليّاً بطبعي. وأطلّتْ عليّ من كوى ذاكرتي المظلمة المنسية، صورتي في طفولتي ورفاقي التلاميذ يتبارون ويتصارعون، في حين كنت انتحي جانباً لأقرأ في كتاب…. إذن سأغضُّ طرفي، سأشيح بوجهي عن البحر، سأتظاهرُ بأنّني لم أَرَ شيئاً، سأقنع نفسي بأنّ ما شاهدته لا يعدو أن يكون ضرباً من الهلوسة أو نوعاً من زوغان البصر. ولكن ماذا سأروي لأبنائي بعد اليوم؟ هل أقول لهم إنّني فضَّلتُ سلامة العودة إليهم على المغامرة بحياتي من أجل إنقاذ مَن أحببتُه وأحبّوه، وما زلتُ أُحبّه ويحبّونه؟ هل أستطيع أن أُسوِّغ أمامهم تخاذلي وجبني؟ وحتّى إنْ أخفيتُ الحادث عنهم وغلَّفته بالصمت والكتمان، فهل يعني ذلك أنَّ ما وقع لم يقع؟ ليس في مقدورنا مسخ الحقائق بأفواهنا أو تحويرها بأقلامنا. حتّى إنْ لم يطَّلع امرؤ على خسَّتي وهزيمتي، فإنّني سأعيش رجلاً منكسراً في داخلي، مثل نخلة أصابت جذعَها طعنةُ فأسٍ قاصمة. سيلاحقني مشهدُ ذلك الرجل الأسير كظلّي، حيثما حللتُ وأنّى توجَّهتُ. سيؤرِّقني ضعفي وجبني، ولن أنسجم بعد اليوم مع ذاتي التي ستتآكل من الداخل وتنهار. إنّني بهزيمتي هذه سأنسف ما بقي من قناطر تصلني بنفسي، وسأدمِّر ما ظلّ من جسور تربطني مع أبناء بلدتي، ممَّن يثقون بي، ويشاركونني حبَّ ذلك الرجل…. وقلتُ في نفسي: “ما دمتُ أحبُّ هذا الرجل فلا بدَّ أن أفعل شيئاً لنجدته. يجب أن أتحرَّك الآن، قبل أن يبتروا أطرافه، ويقطّعوا أوصاله، ويقضوا عليه”. ولكن… بدلاً من أن أتقدَّم إلى الأمام، وجدتُني مرتجفاً أجرُّ رجليَّ الكسيحتيْن إلى الوراء مبتعداً. وغاب عني وأنا في دوّامة الخوف أنَّني، أنا الآخر، أقترفُ جريمةً موصوفةً، جريمةَ الامتناعِ عن تقديم المساعدة إلى إنسانٍ يتعرَّض للخطر).

لقد سقط جدار برلين، وتم الإعلان على النظام العالمي الجديد، ولم تجد أنظمة عدة بلدان عربية لحمة شعب موحدة ومتراصة تدافع عنها وعن وطنها، بل تم استحلال تدخل الأجنبي عسكريا لإسقاطها. لقد تبين تاريخيا أن تدبير الحكم الميكيافيلي بإشاعة الخوف من البطش، والقمع من أجل الاستمرار والسيطرة، لا يضمن وطنا حرا لمدة طويلة.

برزت خصوصية وطن أو أوطان وأخرى في مخاض عسير، وارتقت نضالات سلمية كما وكيفا، ونوقش التعذيب السياسي وتم الحسم فيه نسبيا، وغلب الإطناب والتكرار على النقاش في شأن ديمقراطية الصناديق، لترتفع المطالب بإقرار وقفة تأمل لبناء أوطان ديمقراطية وإقليم ينجب كل برهة أطنان الثمار. التدافع السياسي والتوزيع العادل لخيرات ودخول البلدان على طاولة المفاوضات السياسية. تشكلت نخب رجالات الدولة في الاقتصاد والسياسة والإدارة، وعفا الله عما سلف، وبرز صيت نخب الفكر المستقلة، وتكثف التواصل والنقاش من أجل تشكيل عقل جماعي يرسم معالم وطن بسمات العرب والمغاربيين التاريخية. تم رفع سقف المطالب وحدة الانتقاد، وبالغ البعض في تقدير السلطات، وتجاوز الحدود الحمراء، غير عابئ بقدرة الميزانيات ودينامية الاقتصاديات على الاستجابة. غاب الحديث عن الاختطاف والتعذيب وجز الألسنة وتكميم الأفواه، لتصدر أحكام بالاعتقال هنا وهناك. لم يتم الاستسلام للصمت، بل ارتفعت الأصوات الحقوقية، وتعددت الإضرابات عن الطعام، وتمت تعداد عمليات العفو وإخلاء السبيل أو المتابعات في سراح.

تجبرت قوة الرأسمال، وهاجرت الأموال والخيرات الأوكار، وتزايدت حدة الخوف، لكن هذه المرة من السجارة، والمشروبات الكحولية، والسرعة في السياقة، واستهلالك الدجاج والديك الروميين،…. تم استحسان الخوف كمرادف لركوب قاطرة المغامرة والمخاطر والمجازفات في الاقتصاد والسياسة والثقافة. لقد تم التهليل إعلاميا بعدم الشعور بالذنب حتى في حالة المبالغة في إشهار هذا النمط من الخوف، وتحويله إلى ميل أو شغب إيجابي، وصفة لحكماء اليقظة والحذر. تفرع كل وطن إلى وطنيين، الأول مكروب ومغموم بإكراهات ورهانات التكيف مع العولمة وخائف من الانحدار والتقهقر، والثاني منشغل ومهموم بحقبة ما بعد الحداثة والهلع من تحويل العولمة إلى أدغال موحشة لا ضوابط إنسانية لها. شاع الحديث المناوئ للسياسيين، بحيث نعتهم البعض بالتعفن والكذب والانشغال بملء الجيوب، ولا اهتمام لهم بالناخبين، ليصفهم البعض الآخر بعدم القدرة والسلطة على تغيير الأوضاع الوطنية والدولية. شاعت جاذبية الطبقة الوسطى بالرأسمالية، وتعددت أنماط الإنتاج بلا سواعد عضلية، وتم تمجيد الاستهلاك، لتتخذ نسبة البطالة منحا تصاعديا. تم تفييئ الشعوب إلى ملاكين وغير ملاكين واندثرت البروليتاريا، وكثرت الاحتجاجات بمطالب اجتماعية.

أما تكيف الأنظمة والشعوب العربية والمغاربية سيبقى ناقصا للغاية ما لم تبرز العزائم لتشييد وحدة اقتصادية جهوية بسيادات قطرية متضامنة من الخليج إلى المحيط. أما عن أوضاع الأقطار المستقبلية، فلن تعبر المؤشرات عن زخم مشجع من الأمل إلا بتتويج مساراتها الجديدة على المدى القريب باستحقاقات دستورية وسياسية وانتخابية شفافة وذات مصداقية.

‫شاهد أيضًا‬

أبراهام السرفاتي.. ممكنات استراتجية الدولة الفلسطينية الديمقراطية *ترجمة : سعيد بوخليط

اللوحةل : الفنان الفلسطيني فضل ايوب تناول اللقاء مع المناضل اليساري الراحل أبراهام السرفات…