مرة أخرى يتجدد الحديث خلال هذه الأيام عبر مختلف وسائل الإعلام ببلادنا عن ظاهرة استغلال الأطفال والرضع في التسول، وهي ظاهرة ضمن مجموعة من الظواهر الأخرى السيئة والمقلقة التي لم تنفك تشغل بال المهتمين والمسؤولين وتؤرق مضاجعهم. إذ رغم كل ما بذل ويبذل من جهود من أجل تطويقها والحد من تفاقمها، تأبى رقعتها إلا أن تتسع ويزداد المتسولون إصرارا على التمسك بهذه “الحرفة” التي أضحت حرفة كل من لا حرفة له، لما تعود به من أرباح مغرية دون كبير عناء.

      وبصرف النظر عن أصل كلمة التسول ومشتقاتها، فالتسول بشكل عام هو لجوء بعض المحتاجين إلى استدرار عطف الناس وكرمهم أو ادعاء سوء الحال وضيق اليد أو افتعال عاهات أو الاستعانة بالأطفال والرضع قصد الحصول على مال أو طعام. ويعد الاستجداء من المظاهر غير الحضارية التي تسيء إلى المجتمع، ومن أبرز أشكاله تواجد عديد الأشخاص المتسولين على جنبات الطرق والأماكن العامة عند تقاطع الطرق وإشارات المرور والمحلات التجارية، أمام الأسواق والشبابيك الأتوماتيكية، وخاصة على أبواب المساجد…

      والتسول بالأطفال من الممارسات التي تفاقمت بشكل لافت في المغرب كما في الكثير من البلدان النامية التي تعاني غالبية شعوبها من الفقر المدقع والأمية والبطالة، رغم أن القانون الجنائي أفرد مجموعة من الفصول تعاقب على جنحة التسول خاصة إذا ما اقترنت باستغلال الأطفال، حيث يتعرض المتسولون للاعتقال الاحتياطي وكذا إلى عقوبات سالبة للحرية وغرامات مالية لفائدة خزينة الدولة. إذ نجد مثلا أن الفصل 326 يحدد عقوبة تتراواح ما بين شهر وستة شهور حبسا، لكل من كانت لديه وسائل العيش أو كان بوسعه الحصول على عمل، لكنه تعود على ممارسة التسول بطريقة اعتيادية. وتكون العقوبة مشددة في أقصاها إذا اعتاد المتسول على اصطحاب طفل صغير أو أكثر من غير فروعه…

       ولم يكن لآفة التسول أن تحظى بكل هذا الزخم من الاهتمام وتسلط عليها الأضواء بالقدر الكبير، لولا ما عرفته بلادنا من تضاعف معدل الفقر، تزايد أعداد المتسولين، ارتفاع نسبة البطالة وتدهور الفوارق الاجتماعية، في ظل تداعيات تفشي جائحة “كوفيد -19”. فضلا عن إقدام إحدى جمعيات المجتمع المدني على إطلاق حملة تحسيسية تحت شعار: “الخير اللي تدير فيه… هو ما تعطيهش” مسخرة لها الكثير من الإمكانات المادية والبشرية، وهي مبادرة أراد لها ذووها أن تتواصل إلى غاية العاشر من شهر أبريل 2021، على أن تستهدف في البداية تسعة مدن فقط وتتوسع مستقبلا لتشمل باقي المدن، رغبة منهم في تجذير الوعي لدى المواطنات والمواطنين بما للتصدق على الأطفال من آثار سلبية وخطورة في تعطيل التنمية وتدمير مستقبلهم، ومساعدة الشبكات الإجرامية التي تستغل الأطفال والرضع على التزايد، في الوقت الذي يفترض فيه محاكمة عناصرها وتكثيف الجهود في اتجاه رعاية هؤلاء الأبرياء وحمايتهم من الضياع والاستغلال والانحراف والمتاجرة بآلامهم وأوضاعهم المزرية…

      وهي الحملة/المبادرة التي أثارت العديد من ردود الفعل المتباينة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ هناك من اعتبرها خطوة خاطئة، بدعوى أن الامتناع عن التصدق لفائدة مرافقات ومرافقي الأطفال من شأنه أن يدفع بهم إلى جرهم للسرقة أو امتهان الدعارة وغيرها من الأفعال المنبوذة. وفي المقابل هناك من استحسنها ويرى فيها منطلقا لمحاصرة الظاهرة، محملين الحكومات المتعاقبة مسؤولية استفحالها، داعين الجهات المعنية إلى مضاعفة الجهود وتحمل كامل مسؤولياتها في توفير البدائل للأطفال الذين يتم استغلالهم من أبويهم أو غيرهم، أو يضطرون بسبب الظروف الاجتماعية السيئة لأسرهم إلى الخروج للتسول المباشر أو بطريقة غير مباشرة تحت غطاء بيع المناديل الورقية وغيرها، مما يستدعي الانكباب على معالجة المعضلة بما يلزم من جدية. لاسيما أنه وفي غياب معطيات حديثة حول المعضلة، كشفت جمعية “جود” لإيواء المتشردين صاحبة المبادرة، أنها تتوفر على  إحصائية يتيمة تعود لسنة 2007 تشير إلى أن المغرب عرف حينها أزيد من 196 ألف شخص يستغلون الأطفال في ممارسة التسول، منهم 62 في المائة من المتسولين المحترفين، وتشكل النساء أزيد من النصف بنسبة 51 في المائة من مجموع المتسولين… فكم يا ترى سيكون عددهم اليوم بعد مرور حوالي 13 سنة؟

      فما لا ينبغي أن يغيب عن أذهان الكثير من ذوي النيات الحسنة الذين ترق قلوبهم لتلك المشاهد المأساوية التي يكون عليها الأطفال ومرافقوهم، هو أن هناك عددا كبيرا من المتسولين يستعملون من الحيل ما يجعلهم أكثر تأثيرا على الناس، وقد تصل بهم الدناءة إلى استئجار هؤلاء الصغار وإخضاعهم للتخدير بواسطة بعض الأعشاب المضرة، دون التفكير في عواقب ذلك على صحتهم النفسية والبدنية.

      إننا اليوم وفي ظل استفحال أعداد المتسولين وغياب المواكبة المعرفية والتقنية لحجم الظاهرة، أصبحنا مطالبين بالانخراط في محاربتها من خلال تضافر جهود جميع فعاليات المجتمع المدني والفاعلين المعنيين من أجهزة أمنية وقضائية ومدرسة وإعلام، والعمل على التصدي بقوة للمتسولين والشبكات الإجرامية، باعتماد سياسة عمومية وتنموية ناجعة وآليات زجرية وقانونية للحد من آفة التسول عامة وإنقاذ الأطفال الضحايا، الذين لا يجوز تحت أي مسوغ حرمانهم من حقوقهم في التمدرس واللعب والعيش الكريم، بدل الزج بهم في عرض الطرقات تحت حرارة الشمس وقسوة البرد وتهاطل الأمطار وتشغيلهم في أنشطة غير قانونية ولا أخلاقية…

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…