مسار عبد الرحمان اليوسفي هو امتداد للمسيرة النضالية لحزب القوات الشعبية، مسيرة ارتقت من خلالها ثلاث نجوم في الزعامة قبل التسعينات وما بعدها، وهي عمر بن جلون والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. إنه مسار قضية مجتمع ومؤسسات، تحمل فيها عبد الرحمان عبء مرحلة نضالية حساسة بمسؤولياتها ذات الأبعاد الشخصية والحزبية والمؤسساتية. أخذ المشعل، واستمر على درب رفيقه في إطار إستراتيجية النضال الديمقراطي، وأوصل المغرب إلى مفترق الطرق، لتعيش هذه الشخصية الفذة، في ظرفية صعبة جدا، امتحان ترجمة مطالب ونضالات عقود من الزمن إلى برامج سياسية قابل للتفعيل، مؤكدا للأجيال المعنى الحقيقي للزعامة والسياسة. حبا في الوطن، تلاحم مع ذوي النيات الحسنة في النظام السياسي، وقاد حكومة التناوب التوافقي أو حكومة خلق التحولات المطلوبة من خلال السعي لإنجاح الانتقال الديمقراطي.
لا يمكن لأي مناضل في صفوف هذا الحزب التاريخي، مناضل وطني من الطينة التي لم تستحضر يوما، كذريعة، أحقية الأنا في ربط التنشيط الحزبي والنقابي والجمعوي بالمصالح الشخصية “الاغتنامية” في فضاء العمل والنضال، إلا أن يتحرى الصدق في التقييم واستشراف المستقبل. لا يمكن لهذه الطينة من المناضلين إلا أن تقر أن زعيمها الأغر عبد الرحمان اليوسفي لم يدخر جهدا في كل لحظات حياته باحثا عن سعادة المغاربة، وسعى بكل ما لديه من قوة، للوفاء لقسم تأبين رفيقه في مثواه الأخير. أكثر من ذلك، لقد فطن المغاربة أنه، رغم كبر سنه، لم يتوقف عند هذا الأفق، بل ضاعف من طاقته، وطعم قوة أسلوبه ونقحه بشكل دائم بالموضوعية اللازمة المستمدة من المرجعيات الفكرية والإنسانية الوطنية والكونية، متشبثا بتمكين جيل ما بعد الاستقلال من الحق في المساواة والاستحقاق في المشاركة المكثفة في قيادة التغيير في البلاد دستوريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا. لقد برهن للجميع أنه من الزعامات الناذرة كونيا، شخص فذ استطاع تحقيق التكييف المثمر الشرعي لأوضاع بلاده ومؤسساتها زمن عواصف ما بعد تهاوي حائط برلين.
فعلا كان، احتل حزبه صدارة المشهد السياسي في التسعينات، فاز حزبه بانتخابات ما بعد المصادقة الشعبية على دستور 1996. هذا التتويج لم يكن صدفة، أو حدث في غفلة أو بضغط التغرير أو “الاستبلاد”، بل كان انتقاء موضوعيا صرفا عبر بالواضح عن اقتناع المغاربة بتناغم الخطاب السياسي وارتباطه بالفكر والإيمان الصادق بإمكانية تحقيق التغيير، وافتخارهم بكفاءة الزعيم وجديته وإنسانيته، ومصداقية وعود حزبه الانتخابية (البرنامج الانتخابي). فاز مرة ثانية سنة 2002، ليتم التعبير رسميا عن اقتناع أغلب المغاربة بحصيلة حكومته. إنه يرقد اليوم بشرف واعتزاز بجوار رفيقه القيادي عبد الله إبراهيم.
دخلت البلاد تجارب ومحطات سياسية أخرى. وظلت رمزية عبد الرحمان وقيمة تراكمات نشاطه السياسي التي سخرها لخدمة الوطن، والاحترام الذي ناله في الساحة العربية والدولية، ساطعة ومنيرة لمحطات الغلس التي تباغث الوطن من حين لآخر. مميزاته الشخصية، وعلى رأسها القدرة على الإنصات، تحولت اليوم إلى زاد دسم تغذت وتتغذى منه البلاد وأجيالها المتعاقبة إلى يومنا هذا. لم يلامس المغاربة اختلافا أو تباينا أو انفصالا ما بين القدرة الخطابية لحزبه والمؤهلات التدبيرية والتنفيذية لثاني حكومة وطنية ارتبطت بصوت الجماهير. لقد خطى المغرب بثبات بفضل اليوسفي ورفاقه الأوفياء إلى مرحلة الأمان. إنها المرحلة التي جعلت المغرب، بمؤسساته ومنظماته الحقوقية والمدنية، قادرا على تدبير الصدمات والانعراجات ومحطات التصادم الجديدة ما بين المجتمع والسلطة بحكمة، وبمنطق التسوية، والطموح للمرور إلى محطات سياسية متقدمة حقوقيا واقتصاديا. حوصر رواد المكائد، وتم إعلان فشل أعداء المستقبل، وتم تذوق مزايا الخيار الديمقراطي. إنه خيار تقوية لحمة المغرب وتحصين وحدته الترابية بتفاعل إيجابي، لحمة في طريقها لتوطيد العلاقة بين الشرعية السياسية ومردودية النخب وكفاءتهم وامتلاك الشعب المغربي للمقومات العصرية للحكم ومتطلباته، لترتفع الأصوات هنا وهناك في كل جهات المملكة مطالبة بالتنمية وإعداد التراب، بمنطق جديد يرصص لنموذج وساطة سياسية تعطي لثورة الملك والشعب سنة 2021 وما بعدها طابع الطموح المستمر في غد أفضل.
لقد أحدثت وفاته زخما شعوريا استثنائيا، أبان عن حب واعتزاز المغاربة بهذا الهرم السياسي الصادق، الذي أحبهم وآمن بقدراتهم بعمق. لقد تحول إلى رمز وطني، وملك لكل المغاربة، ولم يجرؤ أحد على اختزاله في حزب. اليوسفي رجل سجل تاريخ حياته بالكامل وباستحقاق في سجل النضال من أجل العدل والكرامة والحرية. بأصابعه الطاهرة، لا يمكن للقدر إلا أن يمكنه من إخراجها من نفق قبره، التي تفوح منه رائحة المسك الربانية، ليمد وصية تعريف طبائع النضال والمناضلين من جيل لجيل، طبائع تتغير وتتطور لتجويد رؤى وقضايا الطفولة والشباب، وتزرع اليقظة والفضول الدائم في تطلعات أبناء هذا الوطن، وتقوي الاستعداد للتضحية بالدم والوقت والجهد فداء للوطن.