كثيرة هي الرؤى التي تناولت الفلسفة الوجوديّة, كالفيلسوف الألماني هورسل, وتلميذه مارتن هايدجر, كما تناولها سارتر الذي تأثر كثيراً بهايدجر, وهناك نيتشه, و كيركغور الذي تناولها من وجهة نظر أقرب إلى الصوفيّه منها إلى وجهة النظر الماديّة لهايدجر وسارتر ونتشه.
عموماً, تنطلق الفلسفة الوجوديّة برأيي في شقيها الماديّ والمثالي من قاعدتين أساسيتين هما:
التفرّد المطلق للذات أولاً, والحريّة المطلقة لهذه الذات في تفكيرها وسلوكياتها العملية ثانياً. وذلك من خلال رؤيّة فكريّة يغلب عليها الموقف المثالي الذاتي, كما سيتبين لنا من خلال عرضنا لجوهرها أو بنيتها, وهو موقف يقول : بـأن (الوجود يسبق الجوهر). على اعتبار الوجود يمثل عند الوجوديين هنا جوهر الأفراد ككائنات حيّة مستقلة ومسؤولة وواعية, وهي منعزلة ومتشكّلة بذاتها في وجودها النفسي والفكري والقيمي والسلوكي عن (الجوهر), أو المحيط الاجتماعي الذي يمثل في الفلسفة الوجوديّة, (الوجود الاجتماعي) الذي يولد وينشط فيه الفرد, وبالتالي فإن ما يحمله هذا الجوهر – أي الوجود الاجتماعي – من علاقات وسلوكيات تشكل أمام حياة الفرد – أي وجوده – قوّة ماديّة ومعنويّة تفرض عليه بالضرورة السير وفق أنظمة وقوانين وعادات وتقاليد يعيشها (الجوهر), أي مجتمعه, مثلما تفرض عليه تمثل رموزاً ومعايير أخلاقيّة انتجها هذا الجوهر. وهذه العلاقات والسلوكيات في الجوهر, منفصلة تماماً عن شخصيته النقيّة في داخلها وغير الملوثة أصلاً, وما تمتلكه هذه الشخصية من حريّة يجب أن يتمتع بها الفرد وباستقلاليّة مطلقة.
إذن, إن الحياة الفعليّة للأفراد وفق هذه المعطيات التي جئنا عليها أعلاه, تقوم على معطيين إثنين أساسين هما:
أولاً: وجود نقي طاهر داخل الفرد.
ثانياً: وجوهر ملوث هو المحيط الاجتماعي الذي يعيش وينشط فيه الفرد.
وعلى هذا الأساس, فإن الجوهر, أي المحيط الاجتماعي هو من بفرض على الفرد اختياراته في هذه الحياة الملوثة وليس ما يطلقون عليه “وجودهم الحقيقي” أي نقاء أو طهارة تفكيرهم وسلوكياتهم. بل الذي يفرض هو المحيط الاجتماعي (الاعتباطي) الملوث بسبب العلاقات التي يستخدمها الناس فيما بينهم وفقاً لمصالحهم المادية والمعنوية, حيث يتعرفون من خلال هذه العلاقات على بعضهم ويقيمون بعضهم بعضاً سلباً او إجاباً وفقاً للمعايير التي وضعوها هم.
إن المنطلق في الوجوديّة, هو رفضها الحياة التي تعيش أو تبحث عن معنى محدد لوجود البشر, أو وفقاً لنظريّة أو عقيدة محددة. تريد الحياة التي يجب أن يشكل الطهر الإنساني غير الملوث الكامن في وجود الإنسان قبل أن يحتك بوجوده الاجتماعي, أي الجوهر, في سياقاته الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة.
إن العالم أو البشر ليسوا عبثيين وليسوا أنانيين وليسوا خائفين أو مرعوبين في ذاتهم (وجودهم) الفطري، وإنما ينشأ مفهوم العبثية والخوف والأنانية وكل القيم السلبية فقط عن اجتماع الاثنين أي الوجود والجوهر، إذ تصبح الحياة سلبية في قيمها الماديّة والروحيّة بسبب عدم التوافق بين البشر الأنقياء الطاهرين بفطرتهم من أي سلبية, وبين العالم الذي يسكنون فيه. وبالتالي فاللوم هنا لا يقع على طيبتهم أو نوعهم البيولوجي أو طبيعتهم البشرية, وإنما على المحيط الاجتماعي, أي الجوهر الذي يولدون فيه, وينشطون فيه.
من جهة ثانية: إن الفعل الأصيل في الحياة هو الفعل المتسق مع حريّة الفرد. كشرط لحريّة الوقائع. أي بعيداً عن الجوهر السلبي الذي يمثله محيطه الاجتماعي. فالفرد “يشكل نفسه” هنا, ثم يعيش بعد ذلك في اتساق مع ذاته واختياراته. أي الاتساق مع الذات ضد العبثية واليأس والخوف, مما يجعل الفرد يتحمل المسؤولية لفعله بدلا من الاختيار الذي يفرضه عليه الخارج بقيمه المتعددة, وضعيّة أو دينيّة, على اعتبار أن أن القوانين أو الوصايا الدينية, التي تأتيه من خارج ذاته, هو غير مجبر على اتباعها على اعتبار أن هناك طرفاً خارجياً يفرضها عليه.
نقد الفلسفة الوجوديّة:
لقد حظيت الحريّة الفرديّة في الفلسفة الجوديّة باهتمام كبير, عند كل فرد وجودي وبأي اتجاه من اتجاهاتها الماديّة او المثاليّة, فالحريّة عندهم ليست هي الحريّة الملازمة للإنسان فحسب, بل هي جوهر وجوده أيضاً. فقيمة الإنسان في المحصلة هي حريته, بيد أن هذه الحريّة في جوهرها عصيّة على التفسير عند الوجوديين, وهي لا يُعبر عنها بالمفاهيم, لذلك ظلت الحريّة عندهم رغبة جامحة لتحقيق ما تحركه الغرائز أكثر مما يحركه العقل, فالحريّة يعارضونها بالضرورة, التي تقوم على قوانين موضوعيّة وذاتيّة تفرضها البيئة الاجتماعيّة بكل مكوناتها التي يشكلها ويحياها الإنسان ذاته وليس غيره كما يتصور الوجوديون, وغالباً ما تشترط هذه البيئة اختيارات الإنسان أي تحددها. لذلك فحريتهم التي تأتي من خارج المحيط الاجتماعي, هي حالة باطنيّة, ومزاج نفسي, ومعاناة ذاتية. وعلى هذا الأساس تكون حريّة بلا معنى أو قيمة, أو هي مبدأ شكلي فارغ ونداء عقيم لا فائدة منه. إن الحريّة في الفلسفة الوجوديّة لا يهمها تحرير البشر من قسوة الطبيعة, ولا من ظلم الاستغلال الطبقي وصراعاته الدامية. إنها في مشروعها العام ليست أكثر من نصائح تقدم للفرد كفرد كي يبحث عن حريته في أعماق وجوده الذاتي المنعزل والمتعالي عن تناقضات الواقع وصراعاته وقضاياه الجوهريّة في أبعادها الإنسانيّة العامة, وليس من خلال وعيهم (الذاتي)، وحريتهم (المطلقة).
هكذا تظهر لنا الوجودية في بعدها الفلسفي
د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.