منقول عن ” أنفاس بريس”
سبق لي أن نشرت مقالا في العدد الأخير لجريدة الطريق، حول مخطط العسكر الجزائري الذي ورثه من الاستعمار الفرنسي، يقضي بحصار المغرب من كل الجهات، والتضييق عليه بكل الوسائل، وهو نفس المخطط الذي وضعه الجيش الفرنسي منذ احتلاله للجزائر في سنة 1830، وقد ركزت أساسا على مراحل تطور الحصار من الجنوب بقطع الطريقين التجاريين التاريخيين:
– الأول في الطريق المار عبر الصحراء الشرقية للمغرب لينقسم إلى طريقين: أساسي إلى مالي وآخر يتجه بالقرب من شمال مالي إلى النيجر.
– والثاني بالطريق الساحلي للمحيط الأطلسي نحو موريطانيا الحالية ثم منها إلى السنغال، وأشرت إلى الحدود المغربية الجزائرية من السعيدية عبر واد كيس كما يسمى في الجزائر أو واد أغبال كما يسمى في المغرب، في اتجاه الجنوب لكن لم أركز عليه نظرا لأن المقال في جريدة الطريق كان طويلا، وإذ لاحظت أن الجنرالات في الجزائر مستمرون في الرفع من وتيرة الحصار خاصة في الأيام الأخيرة (الكركرات) أي قطع الطريق الساحلي، تبين لي بالملموس أنهم مصرون على الإسراع في تنفيذ المخطط، الشيء الذي جعلني أكمل الموضوع وأتناول الحدود المغلقة، والذي ليس إلا نفس المخطط الاستعماري الفرنسي القديم حتى لا تتقوى العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية والبشرية بين شرائح المجتمعين في غرب الجزائر وشرق المغرب. من المعلوم أن الحدود قبل سنة 1830 بين الجزائر والمغرب كانت تحدد بالقبائل وبالدواوير، وكان التنقل بين البلدين متاحا بالمطلق، وإذا ما انتقلت قبيلة من بلد وحطت في بلد آخر تنزاح الحدود، أما التجارة فقد كانت تتم بواسطة القوافل، لها طريق ومحطات لا بد أن تمر منها، للاستراحة والتزود بما يلزم من المؤن والماء وشراء ما ينقص من مواد، وبيع ما تم جلبه من مكان آخر إلى تلك المحطة، والمراقبة لا تتم إلا في هذه المحطات من طرف الدولة، بواسطة موظفين مخصصين لهذه المهام، أما الجيش فيبقى عادة في محلاته وقصباته لا يتدخل إلا إذا طلب منه ذلك. الحدود المغلقة لم تعرفها شمال إفريقيا إلا مع الاستعمار أي منذ سنة 1830،
ماذا حصل إذن منذ هذا التاريخ ؟
كثير من الناس يعتقدون أن الاستعمار طبق حرية التنقل عبر الحدود كما هو عليه الأمر في أوروبا حتى قبل شينغن. لا فليس الأمر كذلك، فقد كانت هناك مراكز الجيش وقوات المراقبة للتفتيش بدقة والبحث عن سبب التنقل، ولما تم إنشاء خط السكك الحديدية بعد استعمار المغرب، خصص القطار لنقل البضائع والجنود والموظفين الفرنسيين أساسا، والباقي كان يتم تفتيشه والبحث معه. والتجارة بين البلدين تتم عبر من كانت له علاقات مع الاستعمار من البلدين.
وطوال مدة الاستعمار لم يتوقف التهريب والتسلل لكون الحدود طويلة ويصعب على الجيش الفرنسي ضبطها، ولكون غرب الجزائر وشرق المغرب تقطنهما قبائل زناتة أساسا ومن قبائلها بني زناسن في الجزائر والمغرب. قد يعتقد البعض أن الإغلاق تم رفعه عندما استقلت الجزائر سنة 1962، فهذا غير صحيح، إذ لم يحصل ما كان يتوقعه الشعبان. فبمجرد استقلال الجزائر توقعت القبائل المغربية في تندوف وبشار والقنادسة وكل ذلك الشريط العودة إلى المغرب، وأمام قيام جبهة التحرير والجيش الشعبي بفرض سيطرة مفاجئة، نظمت تلك القبائل التي كانت قائدة للمقاومة أيام الاستعمار، مثل آل بوعمامة وآل البوشيخي.. مظاهرات لعودة المنطقة للمغرب، كان رد الجزائر قاسيا وعنيفا بحيث اعتقلت العديد من متزعمي المظاهرات، وتلا ذلك الطرد إلى المغرب، وفي نفس الوقت قامت الجزائر بتهجير عشائر وفخذات بالكامل ووزعتها على كامل التراب الجزائري في وهران والعاصمة وقسنطينة.. وأسكنت أخرى من الصحراء الوسطى مكانها. تزامن هذا في المغرب مع ما خلفته إقالة حكومة عبد الله إبراهيم وتصاعد الملاحقات والاعتداءات وحتى العديد من الاغتيالات، الشيء الذي جعل الكثير من الملاحَقين والمطارَدين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وجيش التحرير يتسللون إلى الجزائر عبر الحدود. وبذلك خيم التربص والحذر على الحدود، كما كان.
كل المحاولات التي جرت من أجل إجراء حوار حول الحدود لرفع الغموض والاتفاق على حدود قارة معترف بها من الطرفين فشلت، فجاءت حرب الرمال سنة 1963، ورغم أن أطرافا كثيرة تدخلت وخاصة دوغول الذي ضغط على المغرب للانسحاب لأنه كان يريد إنجاح مخططه الاستعماري الجديد القائم على الاستفادة من خيرات الصحراء الجزائرية أساسا، ‘لم ينتج عن ذلك تحقق كل الوعود التي اتفق عليها. لما كان المغرب أول من وضع طلب تصفية الاستعمار في الصحراء، وأول من وضع الطلب في اللجنة الرابعة، وبعد ذلك أعاد المغرب الطلب وكذا موريطانيا، الشيء الذي جعل إسبانيا تدفع في اتجاه استغلال نفس اللجنة لصالحها وتدفع نحو تقرير المصير والسماح بتحرك الجماعة الصحراوية، في هذا التاريخ دخلت الجزائر على الخط ولعبت على ثلاثة حبال: المغرب، موريطانيا وإسبانيا، لكن ما أن تمت المسيرة في 1975 والتسوية مع إسبانيا بالتقسيم، حتى ردت الجزائر بطرد 350 ألف مغربي من الجزائر عبر الحدود وهو نفس عدد المشاركين في المسيرة.
في 1994 تم الهجوم على فندق اسني بمراكش، نفذه جزائريون لديهم جنسية جزائرية-فرنسية، وشارك فيه بعض المغاربة منهم من يوجد في أوروبا من قدماء الشبيبة الإسلامية، وقد تبين أن الجزائريين تسربوا بأسلحتهم من الحدود الجزائرية وتم القبض عليه وهم في طريقهم إلى الحدود، الشيء الذي بين أن قاعدة التزود اللوجوستيكي كانت في الجزائر ففرض المغرب التأشيرة، ردت الجزائر بغلق الحدود (الرئيس الجزائري الحالي تبون كذب على الرأي العام بادعائه أن المغرب أغلق الحدود)، والجدير بالذكر أن المغرب رفع التأشيرة في سنة 2003 وطلب عدة مرات فتح الحدود.
كادت الخلافات أن تجد لها حلا مع تولي بوضياف رئاسة الجزائر، ذلك أنه كان يقول أن الصحراء مغربية، لكن كانت له مطالب إزاء المغرب، ومنها اتفاقية الحدود التي تم الاتفاق عليها في سنة 1972، وهي في مضمونها تضع حدودا هي نفسها التي وضعها الاستعمار في اتفاقية للامغنية، مع الاتفاق على ما تحتها حتى تندوف، بمعنى أن تندوف اتفق المغرب على ضمها للجزائر لكن كان معها جوانب أخرى تتعلق بالاستغلال المشترك لثروات الصحراء الشرقية وهو الموقف الذي كان يؤيده الشهيد المهدي بنبركة، كما تم الاتفاق على أن تساند الجزائر المغرب في استرجاع الصحراء الغربية المغربية وعلى بناء خط سكك حديدية من الصحراء الشرقية نحو طرفاية لنقل الحديد وباقي المعادن، برلمان الجزائر وافق على الاتفاقية، لكن المغرب لم يقدمها لبرلمانه الشيء الذي خلق شكوكا عند بومديان، ولما بدأت تظهر مؤشرات جديدة على أن عددا من الدول تدخلت في الصحراء وخلقت منظمات مسلحة لها بحيث أصبح عدد المنظمات ستة مسلحة في سنة 1970، و 8 في 1973، صرح بومديان في سنة 1974 بأن الجزائر ستصدر انتاج غار جبيلات عبر ميناء قرب وهران، وبأنه مع موريطانيا والمغرب لاسترجاع الصحراء، لكن في نفس الوقت بدأ بالبحث في خلق تنظيم مسلح في الصحراء.
لما تولى بوضياف قرر أن يزور المغرب، وفعلا تم الأمر رغم رفض الجنرالات لتلك الزيارة، وكشف رغبته في طي صفحة العلاقات المتوترة ولكنه طرح موضوع اتفاقية سنة 1972، فما كان من الملك الحسن الثاني إلا أن أمر بنشرها في الجريدة الرسمية تعبيرا عن النية في الاستعداد لتخطي كل المشاكل، فعلا هناك مسألة البرلمان لكن كان ذلك إشارة أولى إيجابية ومتحكم فيها بأن المغرب مستعد للذهاب بعيدا. بعد رجوع بوضياف إلى الجزائر بأسبوع تم اغتياله في 29 يونيو 1992، وكل الدلائل تشير إلى مسؤولية قيادة العسكر في ذلك. وتم وفق هاته المأساة طي صفحة حل المشاكل من جديد. وعادت الحدود إلى وضع أصعب من مرحلة بنجديد الذي كان قد قدم استقالته.
كما كان الجيش الفرنسي لا يهمه النسيج المجتمعي في غرب الجزائر وشرق المغرب، فنفس الأمر يجري مع عسكر الجزائر، لا تنمية في كل غرب الجزائر. للا مغنية مدينة أقدم من وجدة، تعود إلى عصر الرومان ومع ذلك هي مدينة صغيرة بالقياس إلى وجدة التي تبعد عنها بنفس المسافة من الحدود، ويمكن ملاحظة أنه في كل الشريط هناك دواوير صغيرة وثكنات وقواعد عسكرية ومساكن الجنود، بينما في الجهة الأخرى من المغرب مدن كثيرة لها وزنها السكاني، ولو كانت العلاقات التجارية والاقتصادية قائمة لتطورت المنطقة من الجهتين تطورا هائلا، لكونها تتوفر على جيوب زراعية وفلاحية ورعوية كبيرة.
فمؤخرا حرك العسكر ملفا جديدا يتعلق بثكنة عسكرية للمغرب قرب جرادة يريد المغرب أن يبنيها، وتقول الجزائر أنها قاعدة عسكرية وأنها ستشرع في بناء قاعدة عسكرية في الجهة المقابلة، وقد وضح المغرب رسميا أنها ثكنة فقط (في الجريدة الرسمية جاء في مرسوم رئيس الحكومة قاعدة عسكرية)، مع العلم أن 23 هكتارا ليست هي المساحة التي تقام عليها عادة القواعد العسكرية، لكن مع ذلك وسواء أكانت قاعدة أو ثكنة فإن الجزائر لها 24 قاعدة وثكنة على طول الحدود ما بين 6 و10 كلم من الحدود، ولها أربع قواعد جوية عسكرية أخرى تبعد ما بين 80 إلى 150 كلم، وطائرات الميغ 29 الموضوعة فيها لا تحتاج إلا إلى 4 إلى 7 دقائق لتخترق الحدود، بالإضافة إلى أن المناورات العسكرية تجرى في منطقة بشار باستمرار، بينما يجريها المغرب في منطقة طان طان، وإذا تذكرتُ جيدا فإن المغرب لم يُجْرِها في منطقة وارزازات إلا مرة واحدة.
لا أعتقد أن سياسة القيادة العسكرية الجزائرية لها مستقبل في المنطقة مع القرن الواحد والعشرين، ولا أعتقد أن المغرب يمكن له أن يصل معها إلى أية نتيجة لحل الخلافات، إلا إذا حصل الشعب الجزائري على مطلبه المتعلق بالجمهورية الثانية أي إسقاط العسكر من الحكم وعودته إلى الثكنات كأغلب بلدان العالم. فكل الأدلة تبين أن هذه القيادة تحضر لشيء بغيض ضد المغرب، وإذا ما بدأ التنفيذ لابد للمغرب أن يعمل على رد العدوان وعلى استرجاع الطريق التجاري المار من المغرب إلى مالي.