هويتنا الثقافية والعولمة
نحو تناول نقدي
مقدمة:
غرضنا في هذا البحث أن نتناول بالتحليل النقدي سؤالا جوهريا محايثا لسؤال الهوية والعولمة ولكل الأسئلة المتفرعة عنه والتي تطرحها النخبة المثقفة بالبلاد العربية، من شأن فحصه والجواب عنه أن يزيلا العديد من ألوان اللبس والغموض التي تكتنف مفهوم الهوية وغيره من المفاهيم المنحدرة إلينا من أسئلة النهضة العربية في القرن الماضي.
والسؤال هو: هل يشكل التاريخ خطرا محدقا بهويتنا وهل يتهددها؟ أو بعبارة أكثر تخصيصا، تناسب هذا المقام: هل تشكل العولمة خطرا محدقا بهويتنا وهل تتهددها؟
تأتي مشروعيه طرح هذا السؤال من اقتناعنا بأن التمسك بالهوية يشتد بفعل هول التحولات والمنعطفات وكأنه نوع من الانتقام من قساوات التاريخ، أفلا تكون العولمة، من وجهة النظر هذه، “قساوة” من قساوات هذا الأخير؟ أفلا يكون طرح سؤال الهوية من جديد موقفا نكوصيا؟؟
هل العولمة قساوة من قساوات التاريخ؟
يمكن القول بداية أن “صغر العالم” وتحوله إلى “قرية صغيرة” ليس ظاهرة مباغتة وبدون مقدمات وممهدات، بل جاءت كتتويج لمسلسل طويل هو مسلسل “التدويل”. فظاهرة العولمة امتداد وتطوير نوعي للتدويل يتخذ مظاهر اقتصادية واجتماعية وسياسية.
فحتى حدود الثمانينات، ظلت العلاقات الاقتصادية الدولية تندرج ضمن مسلسل التدويل المتجلي في انفتاح الاقتصادات الوطنية على المبادلات التجارية والأموال الخارجية. وبازدياد وتيرة انسياب الاستثمارات عبر الحدود في كل القطاعات الإنتاجية، من خلال عمليات اقتناء المشاريع من طرف الشركات المتعددة الجنسيات، مما ترتب عنه تقدم جديد لاندماج المشروعات وتمركزها، حدث تحول نوعي في مسلسل التدويل خلال السنوات العشر الأخيرة تمخض عن العولمة.
ويرى الباحثون أن ثمة أربعة عوامل ساهم ارتباطها بتقدم انتقال رؤوس الأموال والمبادلات التجارية التعجيل بظاهرة العولمة(1).
1 – تنوع وتعدد منابع تصدير الأموال، فلم تعد الولايات المتحدة وحدها منبعا، بل أصبحت تشاركها في ذلك اليابان وأوروبا والبلدان الصناعية الجديدة، فتشابكت الاستثمارات الخارجية وتشابكت السيولة المالية المنتقلة بين الأقطار المتقدمة.
2 – تحرير الأنشطة الاقتصادية نتيجة التخلي عن التقنيات المنظمة قطريا للعديد من القطاعات ذات الصلة بالعمليات المصرفية والصفقات والمواصلات، فتقلص حضور الدولة في العديد من المجالات الاقتصادية نتيجة ذلك ونتيجة الابتكارات والاختراعات الجديدة في مجال الاتصال. ولم يعد ثمة بالإمكان الكلام عن استقلالية الأسواق المالية الوطنية.
3 – امتياز الطفرة التكنولوجية المصاحبة للعولمة بأحداث تواصل عضوي بين مختلف مسالك التطور التكنولوجي في مجال الطاقة أو الإلكترونيات أو التواصل. وهذا ما جعلها تتحكم في اقتصاد الزمان واقتصاد المكان وتساهم في انحدار مكانة المادة الأولية داخل الدورة الإنتاجية لصالح منتوجات العقول.
4 – تشابه الأذواق والحاجيات وتجانس المطالب، فأصبح المستهلك مستهلكا كونيا يفضل اقتناء منتوجات ذات مواصفات ومقاييس من نفس النوع كما هو الشأن بالنسبة للأحذية المطاطية والملابس الجاهزة والسيارات… مما يجعل المنافسة ترتقي إلى درجة عالية جدا ومتقدمة في العالمية.
أدى تضافر هذه العوامل الأربعة إلى انطلاق مسلسل العولمة باعتباره مرحلة متقدمة لظاهرة تدويل الإنتاج والمشروعات، حيث أصبح الشكل المادي للإنتاج خاضعا لمنطق مجرد لمبادلات الأموال والتواصل وكان ذلك في الثمانينات، فزالت الحواجز بين الأسواق المالية وتغيرت بنياتها ومنظومات التدبير فيها.
لقد تجاوز نشاط المبادلات السلع وصار ينصب كذلك على الخدمات وشبكات الاتفاقات كاقتناء البراءات.
للعولمة، إذن، ثلاثة اتجاهات(2):
اتجاه تتحول الاقتصادات الحديثة بمقتضاه إلى منظومات مندمجة تلتقي داخلها حركية توسيع مبادلات السلع والتكنولوجيا والخدمات ورؤوس الأموال ووسائل الاتصال عبر شبكات مرتبطة ببعضها البعض.
واتجاه تتحول بمقتضاه الأنشطة الاقتصادية الموجودة داخل مختلف الأقطار بكل أشكالها إلى نماذج للإنتاج والتبادل عبر مختلف قنوات الاتصال.
أما الاتجاه الثالث والهام، على الأقل بالنسبة لهذا المقام، فهو ذاك الذي تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية وأنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة ذات بعد كوني شامل.
“السوق” المعولمة “ترفض اعتبار وجود خصائص وطبائع ثقافية أو سيكولوجية محلية، وبذلك فإن العولمة تقضي بميلاد نموذج جديد للتبادل له بعد كوني. هكذا يفقد تداول السلع طبيعته الملموسة داخل الأسواق التقليدية (وطنية وجهوية ودولية) ليصبح مجردا داخل سوق من نوع جديد”(3).
سنؤجل الإسهاب في هذه النقطة المتعلقة بذوبان الخصائص والخصوصيات الثقافية المحلية ومناقشتها، مكتفين اللحظة بالحديث عن العولمة والقصور البنيوي للاقتصادات العربية، ذلك أن العولمة خلقت شروطا جديدة لتنافس جديد على درجة عالية من الحدة لم تعد معه الكيانات القطرية قادرة على الصمود لمواجهة رهانات تحدي التنافس. فالكيانات القطرية العربية يطبع اقتصادها ضعف شديد وقصور بنيوي، مما يحتم عليها خلق تجمع اقتصادي جهوي أو إقليمي لتصبح فاعلة في العلاقات الاقتصادية الدولية.
ومن مؤشرات ذلك القصور عدم استقرار وتيرة النمو لغياب ترشيد الموارد والتي تستعمل لأغراض الاستهلاك التبذيري المفرط والاستثمارات غير المجدية. عدم مردودية التعليم رغم ما ينفق عليه من ميزانيات ضخمة. حجم المديونية الخارجية العربية والذي لا يتناسب والموجودات العربية الموظفة أو المودعة في الخارج. الإنفاق العسكري نتيجة التناقضات العربية – العربية وغياب أسس الاستقرار السياسي والمجتمعي داخل أغلب الكيانات القطرية. سوء توزيع الدخل وضعف الفئات الوسطى وانتشار مظاهر الفقر والأمية. قصور الأداء السياسي لأغلب الدول العربية وعدم انخراطها في المشروع الديمقراطي وتفعيل المجتمع المدني، وقد ترتب عن ذلك تغييب الإنسان في عملية التنمية والبناء وتهميش الطاقات والكفاءات الثقافية والعلمية وتدهور وضع المنظومة التعليمية والبحث العلمي(4).
بين، إذن، أن العرب اليوم مطالبون بأن يكونوا في مستوى التحدي الجديد، تحدي المستقبل باقتراح أجوبة مناسبة تجعلهم يواكبون التحولات التي تفرضها ظاهرة العولمة ولا يظلون في هامش التاريخ وأول شرط من شروط المواكبة: خلق تجمع إقليمي اقتصادي عربي، ذلك أن العوملة أظهرت أن الكيانات القطرية لم تعد قادرة على الاستجابة لمتطلبات الارتقاء التكنولوجي والتنافسي. أما الشرط الثاني فهو الاستجابة لمطلب الديمقراطية بخلق أدوات استشارية حقيقية بالانفتاح على طاقات المجتمع المدني ورد الاعتبار للاختلاف والتسامح وإدماج البعد الاجتماعي في عملية التنمية الشاملة، فلا تنمية اقتصادية بدون تنمية اجتماعية تقلص الفوارق وتوفر العمل.
عمدنا في ما تقدم إلى إبراز الاتجاهات الرئيسية العامة لظاهرة العولمة كمدخل أو مقدمة للجواب عن سؤال نعتبره حاسما نعطيه صياغة جديدة: هل الهلع من العولمة هلع مشروع؟ وهل الهلع من المتغيرات هلع مبرر؟ إن ما حاولنا أن نؤكد عليه في الفقرة الآنفة هو أن العولمة كانت ظاهرة مرتقبة، صحيح أنها شكلت طفرة نوعية، لكنها جاءت نتيجة ممهدات ومقدمات تاريخية سبق التليمح إليها باختصار شديد. لذا فإن موقف الهلع، الذي نلحظه في العديد من الكتابات العربية، من الظاهرة يعد في نظرنا تنكرا للتاريخية والتاريخ، أي عدم اعتبار صيرورة الحقيقة وتسلسلها وعدم اعتبار إيجابية الحدث التاريخي وتسلسل الأحداث(5). ويمكن القول صراحة إن المجتمع الذي يسير على هدي النظرة التاريخية يسود العالم ولن يستطيع أي مجتمع كان المحافظة على مقامه وحقوقه إلا بالخضوع للمنطق الجديد، منطق خوض غمار المستقبل دون رهبة من المستجدات(6). من هذا المنظور، لا يجوز الكلام عن “قساوة” في التاريخ أو عن جناية تاريخية أو ما شابه ذلك من العبارات التي تنم عن الهلع من المستجدات إلا بالنسبة لذهن يتنكر لمنطق التاريخ ويهاب المغامرة التاريخية. وتلك حال الذهن العربي فلا تكاد تخلو مجلة أو صحيفة عربية من الحديث عن العولمة وعن مخاطرها ومساوئها، وكان الأمر يتعلق ببضاعة تقبل أو ترد، وكأننا في موقع قوة يبيح لنا أن نستشار في قبولها أو رفضها. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على غياب الوعي التاريخي الذي طبع مواقفنا، نحن العرب، من كبريات المنعطفات في تاريخنا وما يزال، رغم انطوائها في العديد من الأحيان على قيم يستلزم الأمر أن يستثمرها العرب لصالحهم.
لقد تحدثنا آنفا عن مظاهر القصور البنيوي للاقتصادات العربية والتي تعكس مظاهر قصور آخر أعمق، إنه القصور السياسي والاجتماعي وقد ذكرنا أن أغلب الدول العربية لم تنخرط في المشروع الديمقراطي ولم يتم بها تفعيل المجتمع المدني، كما غيبت الإنسان في عملية التنمية والبناء وهمشت الطاقات والكفاءات الثقافية والعلمية… ونظن أن رفع تحدي العولمة والالتحاق بركب التقدم يفرض الانخراط في المشروع الديمقراطي وتفعيل المجتمع المدني والمراهنة على الإنسان باعتباره أكبر وأهم ورقة في عملية التنمية. إنه الحد الأدنى الذي يسمح به للعرب الدخول إلى القرن الحادي والعشرين وإلا أقصاهم التاريخ، أو أقصوا أنفسهم منه. إن النظام العالمي الجديد أصبح يفرض قيما تستلزم أن يستثمرها العالم العربي لصالحه كمدخل للعولمة وللمستقبل وهي قيم تستند إلى مبادئ كمبدأ عالمية حقوق الإنسان ويتمثل في تزايد التأكيد على احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، فلم تعد هذه الحقوق مجرد شأن يخص كل وطن على حدة ومسألة داخلية، بل أصبحت شأنا عالميا. ومبدأ حق الاختلاف والتعدد، ومبدأ حق الجميع في الحياة في بيئة خالية من الأخطار والتلوث. ومبدأ حل القضايا عن طريق الحوار بدل المواجهة…
إن إمعان النظر في هذه المبادئ يجعلنا نقتنع أنها مبادئ ما أحوجنا إليها في أقطارنا العربية. لكن الهلع من المتغيرات الجديدة يجعل بعض مثقفينا ومحللينا السياسيين يصورون العولمة، والنظام العالمي الجديد، قبل ذلك، كغول قادم يبقى على الأقوياء ويسحق الضعفاء، دون الانتباه إلى أن من لا يواكب التاريخ ولا ينصاع لمنطقه ضعيف، وإلى أن ما يحكم العلاقات الدولية هو منطق الغلبة، وأن المجتمع المتغلب اليوم هو المجتمع المتقدم.
والدليل على ما نقول إن العالم العربي يقاد، حاليا، إلى الحداثة بالسلاسل، وأغلب أقطاره لم تنقد إلى المبادئ الآنف ذكرها، كمبدأ حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية، طوعا ومن تلقاء نفسها، بل قهرا وبقرار أو توصية من البنك العالمي أو صندوق النقد الدولي أو منظمة العفو الدولية وخوفا من العقوبات. بهذا المعنى، أي حين يحصل الوهم أن التقدم والحداثة يتمان قسرا و”بإملاء”، ينظر إلى المستجدات والمتغيرات، ومن بينها العولمة، على أنها “قساوة” أو جور تاريخيان، زجا بمجتمعات في تاريخ ليس تاريخها ومستقبل ليس مستقبلها.
الهوية والعولمة:
ننفذ إلى هذا الموضوع من خلال تساؤل يفرضه سياق هذا البحث: هل تتهدد العولمة الهوية؟ أو بعبارة أصح، هل تؤدي العولمة إلى اندثار الخصوصيات الثقافية؟
نقول مباشرة: إن السؤال بهذه الصيغة الأخيرة يفرض جوابا بالإيجاب، إذ من بين اتجاهات العولمة اتجاه تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية، والمقصود بذلك هاهنا، اندثار أنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة ذات بعد كوني. فأين نحن من الهوية؟ إن الأمر لا يعدو المستوى الاقتصادي الاستهلاكي ومن المعروف أنه حتى في هذا المستوى، تظل الفئات الوسطى والفقيرة، والتي تشكل النسبة العظمى من النسيج الاجتماعي العربي، تحتفظ إلى حد بعيد بسلوكاتها الاقتصادية والاستهلاكية لعدم قدرتها على مسايرة كل المتطلبات الجديدة.
أما السؤال في صيغته الأولى فيحتاج إلى وقفة نقدية باعتبار أن الهوية أعم وأشمل من الخصوصيات في معناها المفصل أعلاه.
تسبب استعمال لفظ الهوية في خلط والتباس فكريين منتشرين. فغالبا ما تفهم الهوية فهما مطلقا معزولا عن كل الظروف أو الشروط القائمة وكأن الهوية تعني أن من الواجب على عرب اليوم أن يضاهوا عرب الأمس وأن يتميزوا عن الغير، وبخاصة عن الغربيين، ويفترض كل ذلك عدم الاقتباس من ذلك الغير حتى الأمور الصالحة والمفيدة وبدعوى أنها معارضة لما يطمح إليه العرب من تميز ومغايرة، إن لم نقل من تفوق. وكلما قل الاقتباس من الخارج والتفاعل معه، تقوت حظوظ المحافظة على التشكيلة الاجتماعية وعلى نفوذ النخبة التقليدية فيها هذا رغم استيراد منتجات استهلاكية ترفيهية لا تمس في المثل والرموز”(7).
لقد صار من الشائع ربط الهوية بالماضي وبما تم إنجازه فيه، كما أصبح من المألوف ربطها بما هو ثابت لا يقبل التحول ولا يراد له أن يتحول حتى لا تندثر معالم ما يحفظ للأمة استمرارها عبر الزمن، ولا تندرس أصالتها بفعل تحديات إنجازات الحاضر أو المعاصرة (بفتح الصاد). والهوية، بهذا المعنى، تغدو، في نهاية المطاف، مرادفة للجمود على الحال والتقوقع في الماضي والحقيقة. أن الهوية لا ترتبط بالماضي أكثر من ارتباطها بالمستقبل، بطموح الأمة وآمالها في المستقبل. بهذا المعنى تغدو الهوية مرتبطة بطموح الأمة ومطامحها في بناء مستقبل جديد، وما ترغب في تحقيقه في المستقبل تداركا للتأخير وبغية الالتحاق بالركب. لكن ذلك كله لن يتأتى إلا ضمن ما هو متاح، عالميا، الآن. العولمة عنصر أساسي من ذلك المتاح الذي لا يمكن تجاوزه. لقد أشرنا، منذ قليل إلى أن ثمة مبادئ يستند إليها النظام العالمي الجديد والعوملة لا يمكن للعرب عدم استثمارها من أجل بناء مجتمع مدني تحترم فيه حقوق الإنسان والحريات العامة. إن كل تقدم يستلزم استيعاب مكتسبات الحاضر وخوض غمار المستقبل، وجعل الماضي أو الهوية يرتفعان إلى مستوى معين، مستوى الحاضر والمستقبل، وهو المدخل إلى العالمية. فهذه الأخيرة لا تقتضي المشاركة فيها، بالضرورة، تذويب ألوان الخصوصية والتعالي على التاريخ وعلى الاختلافات وصنوف التنوع. “فإن التحولات الكونية قد ألقت بنا في أتون آلة حضارية جهنمية لا نملك أن نقف قبالتها عند حدود النظر إلى عجائب تركيبها وطرائق عملها وفعلها مأخوذين بالدهشة أو الاستغراب أو الذعر فحسب إن كل شيء يوجب علينا، إن كانت الحياة تعني لنا شيئا وإن كان البقاء أمرا يشغل بالنا ويقلق راحتنا، أن نصوب أنظارنا إلى ما يحدث وأن نبدع الآليات الفاعلة التي تهيء لنا استجابات مطابقة تعين على الحياة وعلى استمرار الوجود في شروط آمنة لنا نحن وللآتين من بعدنا ممن يمتون إلينا بروابط خاصة في تلك التي نتكلم عليها ونحيل إليها في كل مرة نريد أن نعرف بأنفسها وخصوصياتنا الشخصية أو التاريخية أو الحضارية أو الإنسانية قبالة الآخرين والأغيار”(8).
إن الثقافات البشرية ثقافات متعددة، وجدت منذ الأزل كذلك وستظل متنوعة إلى أبد الآبدين.ولعل ما يجعلها تظل كذلك تدخل أبعاد عديدة فيها ترتد إلى ثلاثة هي: البعد الوطني القومي، والبعد الجماعي، ثم البعد الفردي والشخصي. إنها أبعاد غير قارة، بل متحركة ومتطورة بحكم تطور التاريخ.
فحينما يتم الحديث عن هوية ثقافية ما فإن الأمر يتعلق بتلك الأبعاد الثلاثة وقد تشخصت في كيان أمة وحدود وطن أو دولة وشكلت مرجعا رمزيا لأفراد تلك الأمة أو ذلك الوطن.
فهل العولمة اغتصاب لتلك العناصر مجتمعة وإفراغ لها من كل محتوى قصد تفتيتها وتشتيتها بربط الأفراد بعالم اللاوطن واللاأمة واللادولة واللاخصوصية؟
من الظواهر اللافتة للنظر أن الفكر العربي المعاصر “فكر أزمة”، يفترض الأزمات حيثما ينبغي التحلي بالوعي التاريخي أمام المتغيرات. يحول فشله إلى وفرة في الخطابات، وهو أمر يترتب عنه غياب تصور واضح ومحدد للمفاهيم والأطروحات موضوع الجدل مما يساعد على نشوء صراعات وهيمة، وهو أمر يضعف النظر العربي ويحصره في دائرة مغلقة من المغالطات المفسدة لآليات العمل العقلي(9).
فالمتصفح لما يكتبه العديد من مثقفينا، اليوم، في موضوع العولمة في جانب آثارها الثقافية على العالم العربي يلاحظ أن الأجراس بدأت تدق مؤذنة بغزو ثقافي قادم ومنذرة بعدوان جديد على الخصوصية الثقافية يتطلب التحصن والدفاع والتأهب واليقظة(10). وعلى افتراض أننا مستهدفون فعلا بغزو ثقافي يخترق تلك الهوية فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: أين كنا؟ ألم يكن الأمر يستلزم من مدة وضع استراتيجيات وخطط ثقافية؟ أليست لنا تلك الاستراتيجيات والخطط؟ أين إعلامنا العربي؟ إننا نعيش في عصر الفضائيات والثورة الإعلامية، فماذا أعددنا لكل ذلك؟ لقد تعودنا الركون إلى تحميل الغير مسؤولية ما نحن فيه من مشاكل وكأننا أمة غير فاعلة يقسو علينا التاريخ مثلما تقسو علينا الظرفيات المستجدة وكل ما نفعله هو أننا نطاوع كل ذلك ونصاب بالهلع والذعر لا نملك ردود أفعال مناسبة وملائمة يمليها تصورنا للراهن والمستقبل وتخطيطنا لهما. إننا كالطفل يصاب بالذعر أمام أي شيء لم يألفه وبدلا من أن يحاول اكتشاف مجاهيله ومواجهتها، يصاب بالفزع ويفر عائدا إلى حضن أمه ينشد دفء الرغبة في العودة إلى الرحم، أي إلى مرحلة ما قبل مواجهة العالم بمشاكله وتعقيداته.
لم لا يقتدي مخططونا في الثقافة، والمثقفون بمفكرينا الاقتصاديين الذين يخططون للمستقبل انطلاقا مما يعرف بالظرفية مما يعطي لتوقعاتهم صبغة أكثر علمية ويضفي عليها طابع الواقعية؟ فهؤلاء الأخيرون وأمام نفس المشاكل التي تحظى باهتمام الأولين، ولتكن مشاكل العولمة،يسلكون سبيل التحليل النقدي الهادئ الذي يقترح ردودا عملية على المستجدات بدلا من أن يفزع أمامها(11). في زمن يتحدث فيه علماء الاجتماع والانطربولوجيا الثقافية والمنشغلون بتطور الثقافات عن التثاقف والمثاقفة والتلاقح الثقافي وانفتاح الثقافات على بعضها البعض وحوار الثقافات يركن مثقفونا إلى أطروحات أثيرة لديهم كالغزو الثقافي والاغتصاب الثقافي والأمن الثقافي واختراق ثقافة لأخرى وهلم جرا، هذا مع أن الثقافة العربية برهنت، عبر تاريخها الطويل والحافل، عن انفتاح قل نظيره إن كتاب الحيوان للجاحظ كله نقول من طباع الحيوان وأجزاء الحيوان لأرسطو، ومن مؤلفات أخرى يونانية أو غير يونانية. وقس على هذا مؤلفات الفلاسفة والعلماء العرب كما أن تأسيس “بيت الحكمة” على يد المأمون العباسي يحمل أكثر من دلالة ومغزى في هذا السياق، ومن الظواهر اللافتة للنظر في تاريخ الثقافة والحضارة العربية، والتي انتبه إليها ابن خلدون أن ثقافتنا، حتى في أبهى عصورها ظلت منفتحة على غيرها من الثقافات، بل “مخترقة” من قبلها رغم أنها كانت ثقافة “الغالبين”، وبدلا من أن يقلدها المغلوبون و”تخترق” ثقافتهم، حدث العكس خلافا للقانون القائل “إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”(12).
فما الذي دهانا اليوم؟ انهاب الحداثة ومتغيرات التاريخ رغم أن الحداثة قدرنا. نخاف المغامرة التاريخية ونبكي الأزمة في وقت كان الأمر فيه يتطلب ابتكار أساليب لتدبير الأزمة وإدارتها؟ هذا إن كانت ثمة فعلا أزمة.
خاتمة:
هل العولمة قساوة من قساوات التاريخ؟
تبين لنا من خلال ما تقدم أنها لن تبدو كذلك إلا بالنسبة لنظرة تتوهم أن التقدم والحداثة افتضاض واغتصاب واعتداء على هوية – ماهية تعلو على التاريخ ومتغيراته، هوية بكر تحتفظ بطهرها عبر الزمن وتبدلاته.
هل العولمة تتهدد الهوية؟
يتضح مما سبق ذكره أن الجواب ليس، بالضرورة، بالإيجاب. إنها لا تتهددها إلا بالنسبة لرؤية تربط الهوية بالماضي وتعتبرها معطى جاهزا ومكتملا، بينما الحقيقة أن الهوية ترتبط بالمستقبل كذلك، بطموح الأمة وآمالها في التجديد وبناء مستقبل جديد لا يتنكر لمكتسبات العصر، بل يعمل على استيعابها لصالحه، لا يتجاوز المتاح عالميا، بذريعة خلق متاح خصوصي يحفظ الهوية من تقلبات التاريخ قد يكون هذا الوهم صحيحا لو كنا نحن “الغالبين” أي نشكل مركز العالم، أما وأننا محيط أو طرف من الأطراف، فإننا مضطرون إلى قبول ما هو متاح واستثماره لصالحنا.
إن من أعقد الأمور البت في المشكلات الثقافية وعلى رأسها مشكلة الهوية الثقافية فمفهوم الهوية الثقافية مفهوم غامض، لا يتحدد بالإيجاب، بل بالسلب، إن الهوية هي ما يجعلني مختلفا عن الأغيار ومتميزا عنهم، وليس من الضروري أن يكون الاختلاف والتمايز هنا بين مستويين من التطور والتحضر، فحتى بالنسبة لمجتمعات متقدمة، مثلما نلحظ ذلك حاليا في المشهد العالمي، تتبع نفس نموذج التحديث والتقدم وتوجد في نفس المستوى من التقدم، تظل الفوارق والاختلافات الثقافية بينها قائمة، كما تظل هوياتها متباينة.
لذا لا خوف على هويتنا الثقافية من التقدم والتحديث… والعولمة.