الفلسفة وتحولات المجتمع المغربي
د·محمد سبيلا

أيتها السيدات،
أيها السادة،
دخل المغرب منذ العقد الأول من القرن العشرين، مع تعرضه للاحتلال الاستعماري، في مخاض سيرورة تحديثية طويلة الأمد،سيرورة تفاعلت فيها بشكل رفيع صدمتان متداخلتان:صدمة الاستعمار بما تعنيه من زوال السيادة، والانخراط في تبعية سياسية واقتصادية وثقافية عميقة وطويلة المدى، وصدمة الحداثة المباطنة لها بما تعنيه من تحديث اقتصادي وبناء معامل وقناطر ومواصلات وسدود، وإدخال وسائل السفر والاتصال الحديثة، وتنظيم المدن، وإنشاء إدارة عصرية، وإدخال نظام التعليم العصري..
منذ ذلك الوقت لم تعد الحداثة مثالا خارجيا تهفو النخبة المغربية إلى إخراج البلاد بواسطته من تأخرها لتتمكن من مواجهة العدو الخارجي واللحاق بالعصر وإدراك زمن العالم، بل أصبحت إلى حد ما دينامية داخلية تعتمل داخل المجتمع. ومنذ ذلك الوقت المجتمع المغربي مشدودا بين ديناميتين موضوعيتين قويتين: دينامية التقليد بمؤسساته الاجتماعية والسياسية وقيمه الثقافية والذهنية الراسخة من جهة، ودينامية التحديث بمنشآته التقنية ومؤسساته الاقتصادية والإدارية، ومنظوراته الثقافية والفكرية الجديدة. وبعبارة أخرى لقد أصبح المجتمع المغربي مشدودا بتوتر بين دينامية التثاقل والوفاء للذاكرة، وقوة الماضي وبريقه من جهة، ودينامية التجديد والتغيير في أفق تحديثي من جهة ثانية، وهي السيرورة التي تضاعفت بعد إعلان الاستقلال بوتيرة أكبر وبتغير واضح في طبيعة الفاعلين.
من طبيعة تحولات بنيوية كهاته أن تحدث تحولات كمية وكيفية عميقة في كافة البنيات ابتداء من البنيات التقنية، إلى البنيات الاقتصادية، إلى البنيات الاجتماعية والديمغرافية، إلى البنيات السياسية والثقافية.


لقد دخل المغرب إذن منذ مطلع القرن 20 في مخاض تحولات توعية شاملة، متلاحقة، ومتسارعة تراوحت بين العنف اللطيف والعنف الحاد، تحولات كانت تأثيراتها العنيفة تتزايد كلما تعلق الأمر بتفكك للبنيات التقليدية: التنظيم القبلي، وبنيات القرابة، والبنيات العقارية، وأنماط الملكية، والتراتبية الاجتماعية التقليدية القائمة على الحظوة والشرف، وكذا البنيات السلوكية والذهنية والإدراكية ومنظومة القيم المحايثة لها.
اتخذ التحديث منذ البداية طابع سيرورة موضوعية مطبوعة بالكثير من الحتمية والعنف الفيزيائي والرمزي، طالت البنيات التحتية مثلما طالت البنيات الفوقية وذلك عبر ثلاثة أبعاد كان لها مفعول تحويلي قوي :


1 ـ البعد الاقتصادي المتمثل في توسع البنيات، والمؤسسات، والعلاقات، والقيم الرأسمالية، والانتشار التدريجي لثقافة مير كانتيلية قوامها تحويل كل “شيء” إلى بضاعة، أي إلى شيء معروض في السوق قابل للبيع والشراء· فالعلاقات والقيم الرأسمالية تنشر معها بشكل عضوي نموذجا علائقيا آخر هو أولوية القيم التبادلية على القيم الذاتية للأشخاص والأشياء والأفكار· وهذه أول خلخلة تمارسها البنية الاقتصادية والعلاقات الاقتصادية الجديدة على النظام التقليدي القائم على تصور جوهراني للأشياء والأشخاص والأفكار·


2 ـ البعد التقني المتمثل في أن التقنية ليست فقط جملة آلات ووسائل جديدة للتعامل مع الطبيعة والمجتمع، بل إن هاته الآلات والوسائل تحمل في طيتها رؤية جديدة للعالم وثقافة جديدة تدخل في تفاعل صراع مع الثقافة التقليدية السائدة في المجتمع· ومثلما أن العلاقات الاقتصادية الرأسمالية الجديدة تتضمن وتفرض عقلنة أداتية تدريجية للاقتصاد وتبضيعا شاملا، فإن التقنية، بمفعولاتها السحرية، تتضمن وتــفرض بشــكل غيــر واع تحــويل كــل شيء إلـى أداة أي أنهــا تتضمن بعدا تشيئيا وأداتيا (Instrumentaliste reifiant) قويا.


3 ـ البعد الثقافي : وهو بعد لا ينفصل عن البعدين السابقين· فإضافة إلى المضمون الثقافي العضوي الذي يتضمنانه، فإن انتشار الثقافة الحديثة ـ بالمعنى الواسع ـ وبخاصة الثقافة الجماهيرية التي تنشرها وسائل الاتصال الحديثة على نطاق واسع وتغزو بها الحميميات والعقول والنفوس والوجدان والمتخيل التقليدي، بإغرائيتها، وألوانها، وأصواتها، وصخبها، ينشر القيم الفردية والمعايير البضاعية والشيئية، ويرسخها، ويعممها على نطاق واسع·
وبالطبع فإن هذه الفواعل تدخل في صراع مع القيم الراسخة للمجتمع التقليدي، وتدخل معها في عملية معقدة متبادلة من التأثير ومحاولة التفكيك، والإفراغ من المضمون، وقلب الأدوار، واستعارة ملامح الطرف الآخر، حيث تتلبس الحداثة أحيانا بالتقليد لكي تخترقه وتفرض ذاتها عليه، بينما يتلبس التقليد بالحداثة حتى يستمر ويحيا من جديد ويقاوم عوامل التفكيك المداهمة له والتي تتهدده باستمرار.


ونتيجة هذا التفاعل، الذي لا يخلو من صراع وتوتر، هو تداخل القيم، واختلاط الرؤى وتضبب الرؤية، والتفكك التدريجي للروابط الاجتماعية القديمة القائمة على التضامن واولوية الروح والقيم الجماعية
.وإذا كان من اختصاص البحوث السوسيولوجية متابعة هذه التحولات بدراسات ميدانية على كافة مستويات الكل الاجتماعي، فإننا المشتغل بالفلسفة مطالب بالوقوف عند ثلاثة مظاهر أو مستويات من خلال نظرة شمولية:
ـ على المستوى الأكسيولوجي:دخول قيم جديدة كالمردودية والنجاعة، والكفاءة، وتضاؤل أهمية الأصول والمنحدرات، وتوسع حقل الاختيارات أمام الأفراد، وانتشار فكرة المساواة، شيوع وقيم التحرر:تحرر الأفراد والفئات الاجتماعية (المرأة الطفل)، وذلك مقابل القيم القديمة القائمة على تراتبية قوامها أهمية رأس المال الرمزي، والشرف في تحديد المكانة الاجتماعية للاشخاص، وأولوية علاقات القرابة، وأخلاقيات الضمير، والطاعة، والولاء، والاتكال على الأقدار، مع ما يلازم ذلك من اختلاط واضح في سلم القيم، نتيجة تداخلها وتــعارضها أحيانا. وهو ما ينتج عنه حـــالة أقــرب إلـــى تلك التي أسماها دور كهايم : شلل أو اختلاط المعـــــايير والـقيم Anomie أو ما أســمــاه فيبر بتعــدد أو بصــراع الآلــهة Polytheisme، كناية عن الصراع بين الرؤى والقيم المختلفة.


ـ على المستوى الإدراكي أو الابستمولوجي الواسع يحصل تداخل يشوش على محددات الإدراك التقليدي ومحددات الإدراك الحديث للظواهر معا، ويُحدث تداخلا بين الماهيات القبلية والسيرورات، بين الأصل وشروط التكون، بين القدرية والحتمية بين المصير وحرية الاختيار.
هذا المستوى الإدراكي هو أعمق مستويات التحول أولا لحدته وثانيا لبطئه، وثالثا لصعوبة تتبع وتلمس معالمه. وهو تحول يولد اختلالا عميقا في الرؤية ويخلق ما يسميه الفيلسوف الايراني المعاصر داريوش شيغان (في كتابه:”النظرة المبتورة أو المشوهة”Le        regard mutité)  بالسكيز وفرينيا الثقافية أو الفصام الثقافي، حيث تتعايش منظومتان إدراكيتان تعايشا صراعيا يسم نفسية الفرد، وجهازه الإدراكي، ومنظوره الأخلاقي بتوتر عميق سِمته تشقُّق أو انكسار مرايا الرؤية التقليدية، وتضبب مرايا الرؤية العصرية حيث يعيش الفرد، في إطار مجتمع متحول، تداهمه الحداثة بعنف، ممزقا بين نظامين معرفيين ورؤيتين ومرجعيتين معياريتين مختلفتين، مع ما ينتج عن ذلك من قلق لاواعي، وتوتر نفسي وذهني لاشعوري، وتمزق بين منطومتين مرجعيتين متباينتين.


ـ المستوى الثالث الذي يتعين على الفيلسوف الوقوف عنده قليلا هو المستوى الاجتماعي المتمثل في التفكك النسبي للروابط الاجتماعية التضامنية القديمة في نمط العلاقات الدموية أو نظام القرابة، وفي نمط العلاقات الاقتصادية الذي تغزوه الملكية الفردية، والتملك القانوني، والجهد الفردي، وتضاؤل المظاهر الاجتماعية للتعاون والتعاضد، وتآكل القيم التقليدية، وكذا التفكك التدريجي لنمط العلاقات الاجتماعية الأساسية على مستوى القبيلة والعشيرة والطائفة. حيث يحدث انتقال بطئ من أولوية رأس المال الرمزي إلى أولوية رأس المال المالي.
وما يهمنا في رصد هذه العملية هو تهييؤها الشروط الموضوعية والقانونية والنفسية لإمكان انبثاق دينامية الاستقلال النسبي للفرد، وشعوره بخصوصيته، وبمسؤوليته الشخصية، وبمصيره الشخصي، وبحريته.
فالمجتمع الحديث يوفر شروط تحرر الفرد من الروابط والإكراهات التقليدية المتوارثة، ويطرح أمامه طيفا أكبر من الاختيارات وقسطا أكبر من الحريات، وإن كان يعود ليولد وسائل وآليات لضبط هذه الحريات ولإدماجها وترويضها خدمة لنسقه الخاص؛ إلا أن السمة الأساسية الغالبة لدينامية الحداثة في هذا الباب هي توفير شروط استقلالية أكبر للفرد ولوعيه بذاته وبمسؤوليته ولتمتعه بقسط أكبر من حرية الاختيار. وهذا الشرط السوسيولوجي الأساسي لانبثاق الفرد الحر المسؤول هو القاعدة التي ينبني عليها مفهوم الفرد كذات فاعلة   Sujet  في كل المجالات وبخاصة في المجال السياسي كمواطن فاعل وذي حقوق   (Sujet de droits) .


هذه المحاولة لتشخيص التحولات العميقة في المجتمع المغربي باعتبارها اندراجا للمجتمع في سيرورة التحديث، والتي هي محاولة لتقديم خطاطة عامة عن مسارات التحول، وبخاصة على مستوى القيم، والإدراك، والحرية تستلهم العديد من المساهمات السوسيولوجية والفلسفة في فهم الحداثة والتحديث. وذلك انطلاقا من مسلمة قوية مفادها أن ممارسة التفلسف ـ كما أبرز ذلك الفيلسوف الفرنسي Paul Ricoeur مرارا ـ لم يعد من الممكن لها أن تتم اليوم خارج معطيات العلوم الإنسانية. فهذه الأخيرة قد أحدثت تغيرا نوعيا أولا في مفاهيم ومناهج وأدوات فهم الظواهر الإنسانية، وثانيا في مضامين ومعاني ودلالات هذه الظواهر وثالثا في طريقة تناولها. وعلى الرغم من نظرة الحذر التي تنظر بها بعض الاتجاهات السوسيولوجية إلى الفلسفة بسبب من التطلع المشروع للسوسيولوجيا إلى الانتقال من المرحلة الفلسفية أو من المرحلة ما قبل العلمية إلى المرحلة “العلمية”، فإن الفلسفة تجد نفسها مدعوة باستمرار لاستيعاب معطيات العلوم الإنسانية لأن هذه الأخيرة قلبت النظرة كليا إلى الإنسان وإلى الظواهر الإنسانية والاجتماعية، نظرة موضوعية وتاريخية (أو تاريخانية) بعيدا عن أي قدسية أوسر.


الدلالة الفلسفية لقيمة ومكانة العلوم الانسانية والاجتماعية هو النظر إلى الظواهر الاساسية والاجتماعية لا باعتبارها قدرا ومقدورا، بل من حيث هي وقائع لها بنياتها وفواعلها الملموسة وشروط حدوثها وانها مرتبطة بحياة الناس وعلاقاتهم وصراعاتهم ومصالحهم ورغباتهم.
غير أن هناك قدرا من الاختلاف في تناول ظاهرة التحولات الاجتماعية. فالسوسيولوجيا تتحدث عن التحديث Modernisation بينما تميل الفلسفة إلى استعمال مصطلح الحداثة    Modernité. وهذان المفهومان يشيران تقريبا إلى نفس الواقعة لكن من منظورين مختلفين.
فالتحديث يشير إلى الحداثة وهي في حالة الفعل(1)، أي من حيث هي سيرورة تحويل متدرجة في أفق الحداثة.


أما عملية التحديث، سواء نظر إليها في سياق نواتها الفلسفية الأصلية التي هي العقلنة كما في السوسيولوجيا الكلاسيكية وخاصة لدى ماكس فيبر، أو نظر إليها بعيدا عن هذه الخلفية الفلسفية كما تجسد ذلك نظريات التنمية التي تنظر إلى التحديث في إطار منظور وظيفي سوسيولوجي، فإنها عملية تتعلق بثلاث نويات كبرى: عقلنة التدبير الاقتصادي، وعقلنة التدبير الإداري والسياسي، وعقلنة الثقافة ورؤى العالم بالقطاع مع الرؤى السحرية للعالم.
أما الحداثة فهي مصطلح يشير إلى الحالة التي تقود إليها سيرورة التحديث، وهي ـ في معنى آخر ـ نموذج فكري مثالي، وحالة نموذجية يفترض فيها الاكتمال واستيفاء كل العناصر. وهو نموذج يتضمن نظرة جديدة للطبيعة والزمن والمجتمع والتاريخ.
وقد جعلت الفلسفة المغربية من موضوعة الحداثة هاته موضوعتها المركزية بدرجات متفاوتة ومن منظورات مختلفة. فعبد الله العروي يقول في “مفهوم العقل” بأن كل ما كتب هو عبارة عن فصول من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة(2). كما أن محمد عابد الجابري يذكر باستمرار بأن مشروعه الفكري كان دوما “خدمة لمسألة الحداثة”(3) الأول ركز على إبراز الأسس الفكرية للحداثة بينما ركز الثاني على ممارسة نقد عقلي للتراث لبيان سياقاته الايديولوجية والمعرفية وللبحث عن النويات العقلانية الدفينة فيه وهو نفس الأمر بالنسبة للاجيال اللاحقة من المشتغلين بالفلسفة.


إن التفكير في الحداثة هو تفكير في التحولات الكبرى التي شهدها مجتمعنا في شموليتها لا من زاوية قطاعية، بل في شموليتها، وفي التحولات الفكرية الكبرى الملازمة لها، وهو بنفس الوقت تفكير في الأبعاد الفكرية المختلفة للحداثة، وفي بعدها الكوني، ومدى حتميتها، وصلتها بالتراث وبالهوية وفي الأسس الفلسفية للحداثة ذاتها كالعقلانية والنزعة الإنسانية كذاتية وحرية وفي استراتيجياتها الفكرية الكبرى المتمثلة في الانتقال التدريجي في مجال المعرفة من المعرفة التأملية والأسطورية إلى المعرفة العلمية ـ التقنية، وفي فهم الطبيعة من النظرة السحرية إلى المفاهيم الرياضية والهندسية، وفي فهم الإنسان من الجواهر الروحية إلى الدوافع والغرائز، وفي مجال التاريخ من الرؤية السكونية والجوهرية إلى الصيرورة، ومن الجوهرانية إلى التاريخانية، وكذا التفكير في الآثار السلبية للحداثة كغياب المعنى، وانبعاث النزعات العدمية، واستشراء الشيئية.
وهذا التأمل الفلسفي المغربي في الحداثة يتم من خلال استلهام آفاق فلسفية رحبة متنوعة ابتداء من البنيوية والوجودية والتفكيكية والظاهراتية، والبراغماتية والاركيولوجيا والجييالوجيا إلى الاتجاهات ما بعد الحداثية، وهي كلها اتجاهات حاضرة بدرجات متفاوتة في الفضاء الفلسفي المغربي.


والممارسة الفلسفة المغربية في الوقت الذي تعبئ كل جهودها الفكرية لاستيعاب وتمثل هذه الاتجاهات الفكرية فإنها تستشعر كذلك الحاجة إلى إذكاء حسها النقدي تجاه هذه التيارات الفلسفية الغنية لتتبين سياقاتها، وأبعادها الإيديولوجية وارتباطها بالأوضاع الداخلية للغرب ونقاشاته الفكرية، مع الحرص على استلهام نوياتها العقلانية والكونية ذات القدرة التفسيرية.
ولعل أكبر صعوبة تعترض اليوم استلهامنا للتيارات الفلسفية الكونية هو التمييز بين درجة كونيتها ومقدار خصوصيتها، وبين عموميتها ومدى إجرائيتها وقدرتها التفسيرية في حالتنا المغربية خاصة وأن العديد من الاتجاهات والتيارات الفكرية والأدبية في المغرب مهمومة بالدعوة إلى مابعد الحداثة وبنقد الحداثة، وبيان الطابع الإيديولوجي لحكاياتها الكبرى حول العقل، والتقدم، والحرية، والسعادة، والمعنى، هذا في وقت ينفتح فيه مجتمعنا على الحداثة، ويتعرف على مكتسباتها التقنية، والتنظيمية، والفكرية. وهو الأمر الذي يسهم في تضبيب الرؤية والخلط بين الأولويات، خاصة وأن هناك التباسا أساسيا في مصطلح “مابعد الحداثة” حيث توحي صيغته العربية وكأن الحداثة قد تم تجاوزها زمنيا في الغرب، انتقل إلى ما بعد الحداثة وهو أمر غير دقيق لأن “ما بعد الحداثة” هو مجرد “حداثة بعدية” أو لحظة أخرى وسرعة أخرى للحداثة ذاتها حيث أن “ما بعد الحداثة” ليس الا تعميقا لمنطق الحداثة وتخليصا له من بنيته الفوقية الايديولوجية. ولكن كما يقول الاستاذ عبد الله العروي نتلقى الأفكار “دون كبير تمحيص” فما بعد الحداثة تعتبر التاريخ وهما، والمجتمع قهرا، والاقتصاد نهبا وتوحشا، والدولة قمعا، والعقل سيطرة، والوعي أكذوبة… وهكذا يتم تحويل ما بعد الحداثة إلى نقيض كامل للحداثة ومهدم لها(4) هذا في الوقت الذي تتصادف هذه الانتقادات الداخلية للعقلانية ولبعض مظاهر الحداثة في الغرب مع فترة من تاريخ مجتمعاتنا تتسم بانبعاث التقليد وببلورته لوعي واضح بذاته وبمقاصده، وبقدرته على استعمال تقنيات ووسائل ومناهج ولغة ومنطق الحداثة ذاتها إما للطعن فيها أو لمقاومة بعض مظاهرها التي تبدو له سلبية ومتعارضة مع التراث والهوية في تصورهما التقليدي، أو مصادمة للذوق والأخلاق التقليدية.


غير أن ما يميز المدرسة الفلسفية المغربية ذات المنزع العقلاني الواضح هو أنها، حتى ولو اتخذت أحيانا مواقف نقدية تجاه المظاهر السلبية في التراث، وتبديعه للتجدد والتجديد، وتحوله إلى بنية آسنة تحمي أشكال التكرار والاجترار، فإنها لم تتخذ مواقف راديكالية رافضة للتراث. فأغلب الاتجاهات الفلسفية عاملت التراث باعتباره ثقافة راسخة، ونظرة للعالم، وإطارا للحياة يرتبط بنمط الحياة التقليدية، وأنه كل لايتجزأ، فهو يشمل المظاهر الخارجية كالمعمار، وطرق العيش، وتقنيات الإنتاج، وأشكال الحكم. مثلما يشمل التمثلات ويسكن اللغة والثقافة، ورأت هذه الاتجاهات أن من الضروري فحص التراث الثقافي فحصا نقديا، وإبراز نوياته العقلانية ولحظاته المضيئة انطلاقا من فكرة مؤداها أن الحداثة، وخاصة في بعدها الثقافي، إما أن تكون جوانية أو لا تكون.
وقد كان للفلسفة الفضل في قراءة التراث الفكري على وجه الخصوص انطلاقا من مفاهيم ومناهج وأدوات العلوم الإنسانية الحديثة ومن منظور المدارس الفلسفية الجديدة فجددت فهمه وقراءته، وأبرزت أن القراءة الداخلية للتراث انطلاقا من ثقافته ذاتها لن تكون إلا قراءة تمجيدية وتقريظية تفتقد القدرة على تقييمه وتشخيصه وبالأحرى نقده.
قد يقول قائل: وما شأن الفلسفة بكل هذه التحولات في البنيات الاجتماعية والقيم والأفكار؟ أليست وظيفتها الأساسية هي التعرف على المدارس الفلسفية في العالم والتعريف بها ونقلها إلى العربية؟ أو هو كذلك تناول قضايا ميتافيزيقية “فلسفية” كالحقيقة والوجود والعقل والمعنى و… إلخ.


والرد على ذلك أن من أهم التحولات التي شهدتها الفلسفة الحديثة هو الدعوة إلى الاهتمام بالحاضر والآني والمتحول أو بما أسماه ميشيل فوكو انتولوجيا الحاضر· وترجع هذه العناية بالحاضر في تاريخ الفلسفة إلى الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل (1770 ـ 1831) الذي كان أول فيلسوف في العصر الحديث استشعر الحداثة وانتبه إلى ما خلف مصطلح “الأزمنة الحديثة” من دلالات فكرية وفلسفية على التحولات العميقة التي شهدتها المجتمعات الأوربية، مبينا أن العصور الحديثة هي شيء جديد تماما مختلف نوعيا عما سبقها· وهيجل هو الذي نظم الأحداث الكبرى المؤسسة للعصور الحديثة في الغرب والمتمثلة في اكتشاف العالم الجديد، وانطلاق النهضة الأوربية، والإصلاح الديني، نظمها في خيط واحد جامع يؤشر على تحولات نوعية في التاريخ الأوربي. لقد استشعر هيجل، وهو يفكر في التاريخ الحاضر الحي لأوربا في مطلع القرن19، الجدة النوعية الكاملة للعصور الحديثة، وتحدث عن هذا الجديد الذي يحدث بأنه هو “هذا البزوغ الرائع للشمس” قائلا في مقدمة “ظاهريات الروح”:”ليس صعبا أن نرى أن زمننا هذا هو زمن ميلاد، وانتقال إلى حقبة جديدة· لقد انفصل الروح عما كان يعتبر إلى حد الآن عالما له وجوده وتمثلاته الفكرية: إن الروح على وشك ابتلاع كل ذلك… إن اللامبالاة والقنوط، اللذان يجتاحان كل ما تبقى، وكذا الاستشعار الغامض لمجهول قادم، هما بمثابة علامات تبشر بأن شيئا جديدا مختلفا أخذ يتهيأ· إن هذا التفكك… يخطط لبناء عالم جديد”· لقد استشعر هيجل المجدة الخالصة للحداثة، واعتبر الأزمنة الحديثة عصرا تاريخيا يستمد مشروعيته من ذاته ذامشروعية ذاتية كما تحدث عنها كسلطة جديدة لامرئية مؤطرة لكل ما ينتمي إليها.
هــذه التحولات الكبرى بما يصاحبهـا مــــن جـدة وتفكك، وبما ينتج عنـها مــن هــزات وشــروخ Scissions تولد عدم طمأنينة In- quietude وقلقا يرى هيجل أنه هو “مصدر الحاجة إلى الفلسفة”.
وأساس هذه الحاجة إلى الفلسفة في نظر هيجل هو حاجة الحداثة إلى الوعي بذاتها. وبمظاهر حدتها وبأسسها المعيارية فالفلسفة مدعوة إلى أن تتعقل زمنها Penser son temps وأن تترجم عصرها وزمنها إلى أفكار، بل إن هيجل يذهب إلى حد القول بأنه يستحيل على الفلسفة أن تتوصل إلى إدراك المفهوم الذي تدرك به ذاتها خارج مفهوم الحداثة(5). وإليه يعود الفضل في محاولة تقديم أول تشخيص فلسفي للحداثة التي هي برأيه الذاتية الإنسانية من حيث هي حرية وإعمال للعقل(6).


والفلسفة كتفكير في الحاضر أو خطاب حول الحداثة بمعنييها الزمني والفكري أمر نجده اليوم لدى ميشيل فوكو (1926 ـ 1984) الذي تتبع في دراسة له حول فلسفة الأنوار (سنة 1983) جذور فكرة ارتباط الفلسفة بالآن، وبالحاضر حيث بين ارتباطه الشخصي بتقليد نقدي يعتبر الفلسفة تفكيرا في الراهن والآني أو فيما يدعوه بأنطولوجيا الحاضر أو الراهن(7).
إن الفلسفة من حيث هي تفكير شمولي في الحاضر، مؤهلة أكثر من غيرها من العلوم الجزئية التي تعتمد التحليلات القطاعية، وتُغلب النظرة الجزئية، وتغيب (بسبب الضرورات  والاكراهات المنهجية) والصيرورة الدينامية الشاملة فهي المؤهلة لاستجماع خيوط ودينامية التحولات، والبحث عن مدى مشروعيتها وإبراز المدلول الفلسفي القائم وراء التحولات وتلك لقطة قوتها.
أيتها السيدات،
أيها السادة،
نحتفل اليوم بعودة مينيرفا، طائر الفلسفة، يرفرف بجناحيه في رحاب كليات الآداب الجديدة، (كلية آدب بنمسيك بالدرار البيضاء وكلية آداب الفنيطرة، واليوم كلية آداب مكناس)، حتى ولو جاء هذا الطائر متأخرا كثيرا حيث انتظرناه البارحة، وما قبل البارحة، ولكنه واجهنا بالاعراض والصدود. ولذلك فنحن مدعوون للتفكير في أسباب هجرة مينيرفا وصدودها عنا، بل في أسباب طردها وإبعادها وتقليم ريشها سواء عبر تاريخنا العربي الإسلامي أو في تاريخنا المغربي. إننا مدعوون للتفكير بعمق في محنة الفلسفة ومحنة العقل سواء في الشرق العربي الإسلامي أو في الغرب العربي الإسلامي.


وإذا كانت محنة الفلسفة في المشرق معروفة ابتداء من محنة المعتزلة إلـى موقف أبي حامد الغزالي (450 هـ ـ 505 هـ ) من الفلسفة إلى اضطهاد ابن رشد (595هـ ـ 520هـ)، فإن هناك تراثا مضادا للفلسفة والعقل هنا في المغرب أهم معالمه محنة ابن رشد، ومنشور الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الذي يحرم فيه الاشتغال بالفلسفة ويتهم المشتغلين بها بأنهم إنما “يخوضون في بحور الأوهام ويدونون صحفا (…) مسودة المعاني، يوهمون أن العقل ميزانها وأن الحق برهانها” مهددا إياهم في الختام : “فاحذروا·· هذه الشرذمة على الايمان حذركم من السموم السارية في الأبدان· ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه، ومآبه”(8).
كما كان السلطان محمد بن عبد الله قد أصدر في سنة 1203هـ ظهيرا يدعو فيه المدرسين في القرويين إلى التبسيط والتوضيح والابتعاد عن المختصرات الصعبة الفهم وعن الفلسفة والمنطق : “أما من أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق والفلسفة، وكتب غلاة الصوفية، وكتب القصص، فليتعاط ذلك في داره، مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون· ومن تعاطي ذلك في المساجد، ونالته عقوبة، فلا يلومن إلا نفسه”(9) .
تحريم الفلسفة هو جزء من بنيتنا الثقافية العربية الإسلامية، لكن للمغرب خصوصيته في هذا المجال حيث انه يقع في اقصى الطرف العربي للعالم الإسلامي في مواجهة العالم المسحي. فقد ظل المغرب شاشه استقبال للفكر الآتي من الشرق وبحكم موقعه الجغرافي فقد ظل خصما دفاعيا، ولم يكن مصنعا للأفكار بل إن بعده عن المركز ومواجهته للعالم المسيحي جعلا هذا البلد موطن فكر ديني ولغوي دفاعي تكراري واجتراري قائم على التلخيصات والتهميشات، ولم يشذ عن هذا الإطار طيلة تاريخه.


لكن الفلسفة أصبحت منذ إنشاء المدرسة المغربية الحديثة، في القرن الماضي، جزءا من النظام التعليمي العصري، ولعبت دورا كبيرا في تنوير العقول وفتح العيون على العصر.
وبعد الاستقلال ارتبطت الفلسفة تدريسا وإنتاجا بالنضال السياسي من أجل التغيير وشكلت السند والمورد الفكري للقوى الاجتماعية المنادية بالتقدم في مجتمعنا. غير أن هذا الارتباط جر عليها نقمة بعض الاتجاهات التقليدية وبعض مراكز السلطة. حيث تم حذف “معهد العلوم الاجتماعية” وتحجيم الفلسفة وحذف شعبتها في الكليات الجديدة ابتداء من سنة 1981.
إن عودة الفلسفة إلى الجامعة المغربية اليوم هو بمثابة عودة الروح إلى الجامعة، لأن جوهر الجامعة، من حيث أنها المؤسسة الحديثة المؤطرة للمعرفة، هو نشر الفكر الحديث، وإشاعة الحداثة الثقافية وهذه العودة تعبير عن حاجة اجتماعية وثقافية وعن وعي بدورها التنويري، وعن دورها في بلورة وعي حداثي مغربي بالحداثة وبأسسها الفلسفية، وفي الانتقال من فكر التكرار والاجترار والنقل والتذكر والسرد إلى فكر التحليل والتعليل والنقد، ومن الدغمائيات والحقائق القبلية الجاهزة إلى التفكير النقدي المسلح بالمناهج والمفاهيم الحديثة، ومن السياجات الدغمائية التي تحرسها قوى التقليد والمحافظة الواعية بذاتها إلى توسيع دائرة المفكر فيه ليشمل لا فقط دائرة المهمش والمنسى والمقموع بل ليتطرق أيضا لبعض القضايا العقدية والميتافيزيقية الكبرى التي سبق أن طرحتها للنقاش الجرأة الفلسفية للعديد من الفلاسفة المسلمين الذين تطرقوا إلى القضايا عقدية من زاوية فلسفية.


إن الفلسفة المغربية، التي هي إحدى ثمرات انخراط مجتمعنا في الحداثة الكونية، تستمد حياتها ورسوخها من مثل هذه التقاليد الفكرية الجريئة في تاريخنا العربي الإسلامي وكذا من ارتباطها بواقعنا ومن تفكيرها في تحولات المجتمع، وباهتمامها بالشأن العام. فهذا هو ما به تحيا الفلسفة لأنها إن أهملت المجتمع، وأدارت له ظهرها، وانزوت في نقاشات مجردة لاصلة لها بالتاريخ الحي، لأهملها المجتمع مثلما أهملته ولأشاح عنها مثلما أشاحت عنه ولما طالب أحد بإعادتها إلى المدرسة والجامعة وإلى الساحة العمومية.


إن الفلسفة ليست ترفا فكريا وفُضلة عقلية، بل هي عقل وتعقل، تفكير وتفكر، يعبر عن حاجة مجتمع هو في طور التحول، مجتمع ممزق بين ماضيه وحاضره، مجتمع هو في حاجة إلى التفكير في القضايا الكبرى المطروحة على الفكر البشري ومواكبتها من قبيل قضايا الحداثة والتحديث والتحولات المجتمعية الكبرى، والقيم، والعقل، والمعنى، والحقيقة والتقنية، والتواصل، والعولمة وغيرها من القضايا التي يبدو أن الفلسفة، بجانب العلوم الإنسانية الأخرى، مؤهلة للتفكير فيها من متظور شمولي وتاريخي.

عن موقع الاستاذ محمد سبيلا

‫شاهد أيضًا‬

عبد العزيز سارت ينعي المجاهد محمد بن سعيد ايت ايدر

غادرنا إلى دار البقاء، صبيحة الثلاثاء، المجاهد محمد بن سعيد آيت إيدر. و برحيل المجاهد المش…