السلطة هي القوة التي تَفْرضُ على الآخرين السير أو التقيّد بسلوكيات محددة وفق تشريعات أو أنظمة أو قوانين أو عادات وأعراف يحدد المجتمع أو الدولة أهميتها وضرورة التمسك بها في مرحلة تاريخية محددة. فإذا كانت سلطة المجتمع تتمثل بالعادات والتقاليد والأعراف, فسلطة الدولة تتوزع مثلاً ما بين التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة, وغالباً ما ُيضاف لها السلطة الإعلاميّة, وهي سلطة تحاول القوى المتنفّذة حكومية أو غيرها من خلالها دفع الناس للسير في حياتهم وفق هدى أيديولوجيا معينة تنتهجها هذه القوى المتنفّذة.
أما السلطة التي يهمنا الحديث عنها هنا وهي عنوان مقالنا, فهي سلطة المعرفة. والمعرفة في سياقها العام هي مجموعة الرؤى والأفكار والمفاهيم والمبادئ والعقائد الدينية أو الوضعية التي تعبر عن قيم أمة ما أو مجتمع ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخية محددة. بيد أن هذه المعرفة ليست مجردة, وإنما هي مشخصة ولها حواملها الاجتماعية التي تعمل على نشرها وتعميمها بكل الوسائل المتاحة لديها, وكذلك العمل على تطبيقها في الواقع وفق الظروف الموضوعية والذاتية المتوفرة لدى هذا الحامل الاجتماعي.
وإذا كانت السلطات السابقة في نسقيها الاجتماعي والدولتي تظل محكومة في إدارتها وتنفيذها بقوة المجتمع والدولة, فإن سلطة المعرفة غالباً ما تظل سائبةً في فضاءات معرفية عامة ليس لها حدود جغرافية, اجتماعية كانت أو دولتية محددة, كونها نتاج فلاسفة ومفكرين ورجال دين, أو غيرهم ممن يشتغل على المعرفة بكل أنساقها, وهي في مثل هذا الوجود والانتاج معاً, قد تجد لها الحاضنة الاجتماعية أو السياسية (أحزاب ودول),وحتى الأكاديمية كالجامعات ومراكز البحوث وخاصة الفلسفية والعلمية منها.
إن لسلطة المعرفة هذه قضاياها الايجابية والسلبية معاً. وإيجابياتها تكمن برأيي في تعدد انتماءاتها العقدية والمنهجية, وبالتالي تفسح في المجال واسعاُ لطلاب المعرفة كي يطلعوا على هذه العقائد والمناهج الفكرية المطروحة واختيار ما يجد المهتم منهم ما هو الأقرب لاهتماماته ومصالحه الخاصة والعامة من جهة, ثم الفسح في المجال واسعاً أيضاً لخلق تبادل في الأفكار المطروحة والتحاور حولها للوصول إلى قواسم مشتركة عند المتحاورين أفراداً أو جماعات أو أحزاباً أو مراكز بحوث أو حتى دولاً عندما تكون هذه الدول محكومة من قبل قوى اجتماعية (حكومات) تشتغل على أيديولوجيات محددة ليبرالية كانت أو اشتراكية أو قومية وغيرها من جهة ثانية.
أما سلبيات هذه السلطة المعرفية, فتاتي من خلال اختراقها لبنية عقل الكثير من الأفراد والكتل الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك دون امتلاك القدرة على فرز ما هو صالح من هذه الأفكار لخصوصيات الدولة والمجتمع في مراحل تاريخية محددة, وهنا تتحول هذه الأفكار إلى حصان طروادة يراد منها بشكل مقصود أو عفوي تخريب المجتمع أو الدولة واضعافهما, بل خلق ضياع فكري لدى المتلقي لها فرداً كان أم كتلاً.
لنلاحظ اليوم أمام التطور الهائل للثورة المعلوماتية, وما تحققه وسائل التواصل الاجتماعي من تفاعل فكري ومعرفي بين الشعوب, كيف راحت تنتشر مدارس فكرية عديدة على مختلف أنساق المعرفة والمناهج بين الأفراد وخاصة غير المختصين بالمعرفي.
ففي ساحاتنا العربية رحنا نلمس دعوات سياسية لقوى وأحزاب ودول لتبنّي الماركسية, أو الليبرالية أو القومية أو الدينية, وعلى المستوى المنهجي الفكري رحنا نلمس انتشاراً للبنيوية والظاهراتية, والوجودية والتفكيكية والوضعية والوضعية الجديدة. وربما حتى الدارونية الاجتماعية. وعلى المستوى الفني والأدبي, راحت تنتشر بين أدبائنا ومفكرينا إضافة للواقعية والواقعية الاشتراكية والرومانسية, مدارس ما بعد الحدثة كالسوريالية والتكعيبة والرمزية والتعبيرية وغيرها.
إن هذا الانتشار غير المسبوق لهذه المدارس والمناهج الفكرية بأنساقها المتأتى عليها, أضافت إحراجاً جديداً أمام خلق رؤى فكرية عقلانية مطابقة لواقنا وقادرة على المساهمة في تجاوز تخلفنا. بل راحت هذه المعرفة (الهجينة – النغلة), البعيدة عن نتاج واقعنا بالأساس, تمارس في الحقيقة سلطتها على متبنيها من الأدباء والفنانين والمثقفين أو من يشتغلون على الفكر بشكل عام والفلسفة بشكل خاص إلا ما حفظ ربي.
إذن على هذه الأرضية الفكرية الهجينة, تأتي الصراعات الفكرية بين الكتاب والأدباء والفنانين أنفسهم, وعلى هذه الأرضية ذاتها تأتي سلطة العنف ضد المختلف بين الكتل الاجتماعية التي نهجت السياسة أسلوبا لتسييد رؤاها وأيديولوجياتها على الآخرين.
ملاك القول:
إن المعرفة إذا لم تنهج حواملها الاجتماعية العقلانية النقدية في اختيار مواقفها الفكرية المطابقة لواقعها المعيوش, فهي ستصنع – أي المعرفة – بسلطتها من حامليها محاكين لفكر الآخر وقضاياه, ومن يحاكي الآخر دون النظر إلى خصوصيات واقعه, هو ليس أكثر من ممثل فاشل.
د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.