النسبية منهج عقلاني نقدي في التفكير
إذا كان الإطلاق في المواقف الفكرية, يعني الثبات والجمود أو الموت, وبالتالي عدم القبول بالمراجعة أو التعديل أو التغيير ولو قيد أنملة بالموقف المتخذ, فهذا يعني ايضاً عدم القبول بالرأي الأخر, وغالباً ما يتوقف على هذا التمترس بالرأي تكفير الآخر وزندقته وتخوينه, وربما يصل الآمر إلى حد سجن المختلف وتعذيبه أو حتى تصفيته جسديا, من باب الحفاظ على ما تَحَوَلَ من مواقف فكرية عند الإطلاقين إلى مقدس لا يمكن المساس به أو انتقاده أو تغييره أو مراجعته كما أشرنا قبل قليل, بغض النظر هنا عن دوافع الإطلاق بالرأي, دينية كانت أو سياسية أو ذات مصالح أنانية ضيقة.
إن رفض الآخر تحكمه بالضرورة دوافع مصلحية يريد حواملها الاجتماعين من وراء هذا الرفض, إما التفرد بغنائم ما اجتماعية او سياسية او اقتصادية من جهة, أو نتيجة لدرجة الوعي المتخلف التي وصل إليها الحوامل الاجتماعية للرأي المطلق, أو نتيجة إجراء مسح عقول لهم مورست عليهم بفعل تصور أيديولوجي مغلق يدعي بأنه هو من يمتلك الحقيقة المطلقة وغيره لا. وفي كل الحالات يأتي النفي لمن يقف ضد الحقيقة المطلقة وأصحابها.
أما القول بالنسبية. فهذا موقف عقلاني نقدي من قبل المتحاورين تجاه الظواهر أو المسائل المتحاور حولها. على اعتبار أن النسبية هي موقف منهجي يؤمن بنسبية الحقيقة شكلا ومضمونا. ومن يؤمن بالنسبية يؤمن بالرأي والرأي الآخر, ولديه القدرة على مراجعة أفكاره دائما والعمل على خلق توازن بين حركة الواقع وتطوره وتبدله, وبين البنية الفكرية التي يحملها أو يقبل بها, لذلك تظل أفكاره قابلة للنقاش والتعديل والمراجعة. وعلى هذا الأساس دعونا نتعرف على هذه النسبية:
النسبية في جوهرها تعني الحركة والتطور والتبدل في الظواهر, اجتماعية كانت أو سياسية او اقتصادية أو ثقافية. والنسبية تقوم على أساسين هما:
أولاً النسبية المطلقة: وهي نسبية تقر بأن أي ظاهرة في الطبيعة أو المجتمع, هي ظاهرة تقوم على الحركة, أو تسكنها الحركة, والحركة تولد داخلها تناقضات بين مكوناتها ستؤدي إلى تجاوز ما اتلفه التغير أو الحركة ذاتها من داخل الظاهرة أومن خارجها, على كون الظاهرة ليست بنية معزولة عن عالمها الخارجي, بل هي بنية لها محيطها الذي تؤثر فيه ويؤثر فيها.
ثانيا النسبية النسبية: وهي من حيث المبدأ لا تخرج عن جوهر النسبية المطلقة من حيث تحكم الحركة في الظاهرة, ولكن الفرق بين النسبيتين برأيي, أن النسبية المطلقة تتعلق بالوجود المادي (الأنطولوجي) للظاهرة, أما النسبية النسبية فتتعلق بالوجود المعرفي (الابستمولوجي) الذي يتعامل مع الظاهرة. فالحقيقة (الظاهرة) وفق هذا الوجود المعرفي تقوم على معرفة ناقصة, والمعرفة الناقصة تتوقف على درجة ثقافة المتحاور واهتماماته والتوجه الأيديولوجي الذي يتبناه ومصالحه, فهذه عوامل كلها تلعبا دوراً في تقويم الظواهر عند المتحاورين. ولنعطي مثالاً على ذلك:
لو اجتمع مجموعة أفراد ذوي اهتمامات مختلفة في غرفة عند صديق ووجدت أمامهم مزهرية جميلة, لنظر كل منهم إليها من حيث اهتماماته بالضرورة. فالفنان سينظر إليها من حيث رؤيته الفنية, الوانها وامبلاجها وترتيب الزهو داخلها.. الخ. وتاجر البلور سينظر إلى نوع بلورها وجودته وعن سعرها ومصدر توريدها.. الخ. والإنسان العادي ستحقق عنده حالة الإدهاش الفني المجرد من أي قيمة فنية اكاديمية أو قيمة سلعية. هذا ونستطيع القول من جهة اخرى: إن كل منهم سيراها بصورة تختلف عن الآخر من حيث موقعه في الجلسة وزاوية نظره.
هكذا نرى إذن أن النسبية في شكليها المادي والفكري, سترفض الإطلاق ومحاربة الرأي الأخر والاستهانة به أو العمل على اقصائه وتهميشه.
النسبية في المحصلة منهج حياة يسعى إلى التعامل مع الظواهر بعقلانية, أهم ما تجسده هذه العقلانية, هو الايمان بالآخر وأن الحقيقة ملك للجميع طالما أن الهدف الأساس من البحث عنها هو مصلحة الجميع ومن أجل الجميع حاضراً ومستقبلاً.
كاتب وباحث من سورية