Owaid50@maktoob.com
By mary klages
From Continuum Press, January 2007
ما بعد الحداثة, مفهوم معقد, حيث يبقى التعقيد قائماً في تقديم تعريف دقيق ومحدد لهذا المفهوم أو المصطلح, كونه قد ظهر أو تجلى في دراسات أو مجالات دراسية أكاديمية كثيرة ومتنوعة شملت, الفن , هندسة العمارة, الموسيقى , السينما, الأدب , السوسيولوجيا, الاقتصاد, الأزياء, التكنولوجيا…وغيرها, لذلك من الصعوبة بمكان تحديد موقع مفهوم ما بعد الحداثة, هل هو معاصر ؟, أم قديم؟, بل أن الصعوبة نجدها أيضا في قدرتنا على تحديد بداية هذا المفهوم .
ربما يكون الطريق الأكثر وضوحاً في تحديد بداية التفكير أو النظر بمفهوم أو ظاهرة ما بعد الحداثة, يأتي مع التفكير بموضوع الحداثة ذاتها, وهو التيار الذي ظهرت أو خرجت من عباءته ما بعد الحداثة, علما أن الحداثة في الحقيقة امتلكت وجهين أو أنموذجين من التعاريف كلاهما متعلق بمفهوم ما بعد الحداثة .
الأول : وقد جاء من الاتجاه الجمالي الذي غالبا ما نعت أو ارتبط بالحداثة , وهذا الاتجاه تلامس بشكل حاد مع أفكار الغرب المتعلقة بالفن في القرن العشرين, علما أن آثار هذا التيار أو الاتجاه نجد إرهاصاته الأولية في القرن التاسع عشر.
والحداثة المعاصرة كما هو معلوم, هي على الأغلب, تيار يصب عموما في الفنون المرئية أو البصرية, مثل الموسيقى, الأدب, المسرح, وهي فنون ترفض مقاييس العصر ( الفيكتوري )الذي يؤكد على ضرورة تحديد ماذا يجب أن يصنع الفن؟ , وكيف يستهلك ؟ , وما هي أهدافه ؟ . علما انه في فترة صعود الحداثة ما بين / 1910- 1930 / تقريبا, نجد أن معظم الشخصيات الكبيرة المهتمة في الحداثة الأدبية التي اعتبرت من مؤسسي حداثة القرن العشرين أمثال 🙁 Woolf, Joyce, Eliot, Pound, Stevens, Proust, Mallarme, Kafka, Rilke), قد ساعدت بشكل متطرف مثلا على إعادة تحديد ماذا يجب على الشعر والرواية أن يكونا؟, بل وماذا يقدما أيضا؟ .
الثاني : وقد جاء من الاتجاه الأدبي , حيث نجد أن المميزات الأساسية للحداثة هنا تتضمن التالي :
1= التأكيد على الانطباعية والذاتية في الكتابة ( والفن البصري أيضا ) , ثم التأكيد على كيفية إمكان أن تأخذ الرؤيوية, وقراءة الذات, أو الملاحظة نفسها في الأعمال الأدبية, بدلا من التركيز على ما هو ملاحظ , أو معطى بشكل مباشر للأديب أو الفنان.
2= دعوة تيار الحداثة هنا للوقوف بعيدا عن الأهداف الظاهرية, وضرورة الإمساك قدر الإمكان بالشخصية الروائية الثالثة العالمة بكل شيء, مع التأكيد على وجهة نظر الرواية, و الجوانب الأخلاقية فيها .
3= بروز الضبابية في حالات التمايز بين الأنواع الأدبية , حيث بدا الشعر هنا أكثر وثائقية , والنثر أكثر شعرية .
4= جاء التأكيد هنا أيضا على تشضي الظواهر أو الأشكال, وعشوائية (الكولاج) للمادة المختلفة, ورفض استمرارية السرد الروائي .
5= التأكيد على الانعكاسية, أو الوعي الذاتي عند إنتاج الأعمال الأدبية أو الفنية, على اعتبار أن كل قطعة منتجة تلفت الانتباه لوضعها كمنتج شأنه شأن أي شيء ينتج ويستهلك في طرق خاصة.
6= رفض الأشكال الجمالية المتقنة الصنع, مع تفضيل الأشكال المتطرفة, و التأكيد أيضا على رفض العدد الأكبر من النظريات الجمالية التقليدية, والتركيز على ما يدعوا إلى استخدام العفوية في الكشف الإبداعي .
7= رفض التمايز بين الثقافات ( العالية ) و( المتدنية ) أو الشعبية , فكلا الثقافتين عند اختيار مواد الإنتاج الفني أو الأدبي يستخدم هذه المواد في الإنتاج, وأساليب العرض, والتوزيع , والاستهلاك.
إن مفهوم مابعد الحداثة في سياقه العام يشبه حداثة القرن العشرين ويتضمن الكثير من أفكارها التي جئنا عليها أعلاه .فتيار ما بعد الحداثة يرفض الحدود بين الأشكال العالية والهابطة للفن , كما يرفض حالات التزمت الداعية إلى التمييز بين الأنواع الأدبية, ويؤكد على الآثار الأدبية والفنية الساخرة, الكولاج , المعارضة, التهكم,عدم الجدية, المزاح, الفعل الانعكاسي أو ( الانعكاسية ), الذاتية عدم الاستمرارية ( وبخاصة في التراكيب الروائية ), الغموض, المحاكاة, التشضي أو ( التفكيكية ), ثم التأكيد أيضا على بناء ومركزة المواضيع اللا إنسانية .
نقول: في الوقت الذي راح فيه تيار ما بعد الحداثة يتقاسم أو يتشارك في قسم كبير من هذه الصفات أو الميزات مع تيار حداثة القرن العشرين المأتي عليها أعلاه, فهذا يعني في المحصلة انه راح يبتعد أيضا عن تيار الحداثة التقليدية في الكثير من النقاط, ففي الوقت الذي نجد فيه الحداثة التقليدية عند ميلها لعرض المشاهد الجزئية ( التفكيكية ) والذاتية في التاريخ الإنساني, نجد في المقابل ان هذا العرض للجزئيات بالنسبة لما بعد الحداثة شيئا تراجيديا… شيئا يدل على الفاجعة والندب والخسارة. ثم في الوقت الذي نرى فيه بعض الحداثيين التقليدين يعملون لدعم الفكرة التي تقول إن العمل الفني يستطيع دعم الوحدة والانسجام, وتحقيق الهدف الذي أصبح غائبا في معظم الحياة الحديثة أو المعاصرة, وأنه – أي الفن – سوف يعمل على إنجاز ما عجزت عنه المؤسسات الإنسانية الأخرى, نجد في المقابل أن ما بعد الحداثة هنا لم تفجع على الفكرة التجزيئية أو التفكيكية, وعلى الوقتية أو الظرفية, أو الفوضى بل راحت تعمل أو تشتغل على كل ذلك . وهي تتساءل , هل العالم بدون معنى ؟ , ثم تجيب عن تساؤلها قائلة: لا تدعنا ندعي أن الفن يستطيع عمل معنى, بل دعنا نلعب مع الهراء !!.
نظرة أخرى حول العلاقة مابين الحداثة وما بعد الحداثة تساعدنا على توضيح التمايزات بين التيارين, حيث يرى بعض المهتمين بهذا الشأن من الكتاب والباحثين أن الحداثة وما بعد الحداثة هما في المحصلة تشكيلات ثقافية تجمع بشكل خاص معطيات أو محطات من الرأسمالية , عمل الكاتب والباحث Frederic Jameson على تحديدها بثلاث محطات أساسية أنتج منها تجارب ثقافية خاصة تشير إلى نوع الفن والثقافة المنتجة .
المحطة الأولى : وهي محطة السوق الرأسمالية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر في أوربا الغربية عموما , وفي بريطانية والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص ( وكل تأثيرات محيطاتها ) . هذه المرحلة ترافقت مع التقدم التكنولوجي بشكل خاص, أي مع زمن الآلة البخارية, وما رافقها فنيا من جماليات ارتبطت بالمدرسة الواقعية.
المحطة الثانية : ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين, حيث عرفت هذه الفترة بفترة الرأسمالية الاحتكارية, وهذه ترافقت بدورها مع الثورة الكهربائية وآلة الاحتراق الداخلي, وفنيا مع معطيات الحداثة .
المرحلة الثالثة : وهي المرحلة التي نحن فيها الآن, أي مرحلة الشركات المتعددة الجنسيات والمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي ( أي المرحلة التي يؤكد فيها على أوضاع التسويق والبيع والاستهلاك البضاعي ), هذه المرحلة ترافقت مع تكنولوجيا الذرة والاليكترونيات, و فنيا وأدبيا مع معطيات ما بعد الحداثة
مع هذا التعريف أو التوصيف الذي قدمه ( Jameson ) لما بعد الحداثة عبر أساليب الإنتاج أو التطور الذي حدث على التكنولوجيا, وما رافق هذا التطور من تغيرات أصابت الفن والأدب كما تبين لنا أعلاه , يأتي هنا تعريف آخر لما بعد الحداثة أيضا مرتبطا بتاريخ السوسيولوجيا أكثر من ارتباطه بتاريخ الأدب والفن.
إن اقتراب مفاهيم ما بعد الحداثة من المصطلح الاجتماعي كليا ووضعه في نطاق المواقف الاجتماعية/ التاريخية , جعل تيار ما بعد الحداثة على ما يبدو أكثر وضوحا عند مقارنته بمفهوم الحداثة, حيث يتبين لنا هنا أن مفهوم ما بعد الحداثة يصبح في الواقع أقرب للحداثة منه إلى ما بعد الحداثة .
على العموم إن الحداثة تشير إلى اتجاهات جمالية واسعة راحت تنتشر في القرن العشرين, والحديث يشير أيضا هنا إلى انطلاق أفكار فلسفية وسياسية وأخلاقية دعّمت أسس وجود الجمال للحداثة , والحديث كمفهوم, هو دائما أقدم من الحداثة كمفهوم أيضا ,ومصطلح الحديث تم الحديث عنه سوسيولوجيا أول مرة في القرن التاسع عشر لتوضيح حالة التمايز بين العهد السابق الذي نعت بالعهد القديم, والعهد الحالي, ومع ذلك, فالفلاسفة والمفكرون المهتمون بهذا الشأن الثقافي يتساءلون دائما متى بالضبط بدأت فترة الحداثة ؟ , وكيف التمييز بين ما هو حديث وغير حديث ؟
يبدو أن فترة الحداثة انطلقت مبكرة, وهذا ما أكده الكثير ممن أرخ لها, ولكن على العموم إن عهد الحداثة كما يقول بعض المؤرخين ارتبط مع التنوير الأوربي الذي بدأ بشكل فاعل في منتصف القرن الثامن عشر, وهناك من المؤرخين الذين تتبعوا عناصر التفكير التنويري, يقولون أن بدايته تعود لفترة عصر النهضة, أو لفترة أيكرمن ذلك بكثير. بيد أن الكثير ممن اشتغل على هذه المسائل يستطيع في الواقع القول بأن التفكير التنويري بدأ مع القرن الثامن عشر, وتحديدا منذ عام / 1750 / , وأن الأفكار الأساسية للتنوير تعتبر بشكل دقيق هي ذاتها الأفكار الأساسية للحركة الإنسية, هذه الأفكار التي يمكننا الإشارة إلى أهمها هنا وهي :
1= التأكيد على الثبات , التماسك , معرفة الذات, أو ما يسمى بالوعي العاقل المستقل ذاتيا, والكوني, والذي لا يوجد شروط فيزيائية, أو فروقات أو اختلافات كبيرة جداً تؤثر على كيفية عمل هذه الذات .
2= إن هذه النفس أو الذات تعرف نفسها , وأن العالم عبر العقل والعقلانية, قد َثَبُتَ كأعلى صيغة أو شكل للفعالية العقلية, وكصيغة ذاتية فقط .
3= إن أسلوب المعرفة قد أنتج من قبل العقل الذاتي نفسه, وهو ( العلم ) الذي يستطيع دعم الحقائق الكونية المحيطة بالعالم دون اعتبار لأوضاع الفرد العارف .
4= إن المعرفة المنتجة من قبل الِعلم تكون ( حقيقية ) ومطلقة .
5= إن معرفة الحقيقة أُنتجت بالعلم, ( بالمعرفة العقلية الذاتية نفسها ) الذي سوف يقود باتجاه التقدم والكمال, وكل الهيئات والخبرات الإنسانية يمكن أن تفسر أو تحلل بالعلم ( العقل الذاتي ) وتسير نحو التحسن .
6= إن العقل هو الحكم النهائي في تحديد ماهي الحقيقة, , وما هو الأصح والجيد وما هو القانوني وما هو الأخلاقي. والحرية هنا اشتملت على إطاعة القانون الذي يراعي المعرفة التي اكتشفت بالعقل .
7= في النظام العالمي , إن الحكم بالعقل, يعتبر حقيقة تدل دائما على الشيء الجيد والصحيح والجميل, وهذا يحول دون أن يكون هناك صراع ما بين ما هو حقيقي وما هو صحيح .
8= إن العلم وفق هذه المعطيات سيقف بالضرورة كمثال أو أنموذج لكل الصيغ المعرفية ذات الطابع الاجتماعي النافع. فالعلم في حقيقة أمره محايد, وذاتي , وهؤلاء العلماء الذين أنتجوا المعرفة العلمية عبر إمكانياتهم العقلية المجردة وغير المتحيزة, يجب أن يكونوا أحرارا في إتباع فوانيين العقل, وأن لا تؤثر في مواقفهم الحيادية اهتمامات المال والسلطة .
9= اللغة , أو الأسلوب الانطباعي الذي استخدم في إنتاج ونشرا لمعرفة , يجب أن يكون عقلانيا أيضا, ولكي يكون عقلانيا, يجب على اللغة أن تكون شفافة, وتعمل فقط لتمثيل العالم العياني الحقيقي الذي يلاحظه العقل المنطقي. وهنا يجب أن يكون الثبات والعلاقة الموضوعية بين المواضيع المشاهدة في الواقع أو العيانية, والكلمات التي تستعمل لتسميتها أو ترميزها .
هذه هي بعض المعطيات الأساسية للحركة الإنسية, أو لما سمي أيضا بالحداثة… هذه المعطيات قادرة في الحقيقة وإلى حد كبير أن تبرر وتوضح بشكل عملي كل بنانا أو تراكيبنا الاجتماعية ومؤسساتنا بما فيها الديمقراطية , القانون, العلم , الأخلاق , والجماليات .
على العموم , إن تيار الحداثة في سياقه العام إذا ما قيس بتيار ما بعد الحاثة يعتبر قريبا من التنظيم , والعقلانية, والانسجام, وهو يسعى لخلق النظام من الفوضى, على افتراض أن ذلك الخلق يكون أكثر عقلانية, وباعثا ومعينا على خلق مساحة أخرى أوسع للتنظيم , وذلك كون المجتمع الأكثر تنظيما, ( عقلانية ) هو من سيعمل أكثر. والمجتمعات الحديثة أو المعاصرة تظل دائما ملاحقة أكثر من غيرها بمستويات وأشكال عديدة من التنظيم, وهي تعمل بشكل مستمر على مقاومة أي شيء يدعي الفوضى التي ربما تعطل التنظيم أو النظام. من هنا نجد أن المجتمعات الحديثة أو المعاصرة تعتمد على تأسيس ذلك التناقض الثنائي بين ( النظام ) و ( الفوضى ) , لذلك هي تؤكد دائما على تفوق ( النظام ), ولتحقيق ذلك , يتطلب منها أن تمتلك أشياء تمثل ( الفوضى ), وهذا يعني , أن على المجتمعات الحديثة خلق حالات ( الفوضى ) باستمرار – وبخاصة في المجتمعات الغربية – هذه الفوضى التي أصبحت بالضرورة الطرف الآخر في طبيعة معادلة التضاد الثنائي المشار إليها أعلاه , أي نظام / فوضى . ومن هنا يقال إن كل شيء في المجتمعات الحديثة راح يحمل جزءا من الفوضى بالضرورة.
إن الطرق التي ذهبت فيها المجتمعات الحديثة لخلق تلك التصنيفات التي اتسمت بالنظام أو الفوضى يجب عليها أن تعمل بجد لإنجاز الاستقرار, الأمر الذي دفع أحد منظري ما بعد الحداثة وهو : ( Francois Lyotard ) في أحد مقالاته المتعلقة بما بعد الحداثة ليساوي مسألة الاستقرار بالشمولية أو بالنظام الشمولي , وهذا ما أكد علية أيضا ( جاك ديدرا) الذي ربط فكرة الشمولية بالنظام التام .
إن الشمولية , والاستقرار, والنظام , ناقشها (Lyotard ) على أنها مصانة في المجتمعات الحديثة أو المعاصرة عبر الرؤى الشمولية التي يمثلها على المستوى الأدبي ماسمي ( grand narrative ) أو (master narratives ) أي ماسمي بـ (الروايات العظيمة ) , وعلى المستوى السياسي بـ ( الآيديولوجيا الشمولية ) لتي تحاول نقل وتفسير كل شيء في المجتمع. فالرواية العظيمة في الثقافة الأمريكية ربما تكون قصة الديمقراطية, وهي صيغة الحكم الأكثر تنويرا و( عقلانية ), هذه الديمقراطية التي تستطيع أن تؤدي إلى السعادة العالمية كما تدعي هذه الرواية .
إن كل نظام يمتلك معتقداً أو أيديولوجيا, هو يمتلك ( رواية عظيمة ) وفقا لرؤية ( Lyotard ) , وهذه (الرواية العظيمة ) نجدها في الماركسية أيضا حيث جاء فيها أن الرأسمالية سوف تنهار من نفسها, وأن عالم مجتمع ( اليوتوبيا ) المساواة المطلقة سوف يتحقق . ( إن القول بأن الماركسية تدعي بفكرة المساواة المطلقة, هو قول لا يمت إلى الماركسية بصلة, وهو تجني على الفكر الماركسي – المترجم )
إذن , إن ( الرواية العظيمة ) هي في المحصلة نوع من النظريات الخيالية أو الآيديولوجيا الخيالية, وهي في تطبيقاتها العملية والنظرية ليست في الأمر أكثر من أيديولوجيا تقوم بتفسير أيديولوجيا أخرى .
لقد ناقش ( Lyotard ) معظم وجوه المجتمعات الحديثة بما فيها العلم كصيغة أولية للمعرفة, معتمدا على تلك الروايات العظيمة, فوجد أن ( ما بعد الحداثة ) هي ليست أكثر من نقد لهذه الروايات العظيمة, وإدراك يخدم في نهاية المطاف التناقضات وعدم الاستقرار اللذين راحا يتجذران في كل تنظيم أو خبرة اجتماعية .
إن تيار ما بعد الحداثة في الوقت الذي يرفض فيه الروايات العظيمة, فهو يعمل في الحقيقة على تفضيل الروايات ( الصغيرة ), التي تروي الأحداث المحلية , أي هو يرفض المفاهيم الكبير ذات الطابع الكوني ويتبنى المفاهيم الصغيرة أو المفاهيم التي تتناول جزئيات الحياة, وذلك على اعتبار أن ما بعد الحداثة هي دائما مع المسائل الموضعية والمؤقتة والطارئة والمرحلية , أي هي مع ( التفكيكية ) , لذلك هي لا تدعي بأنها تتعامل مع القضايا ذات الطابع العالمي والحقيقي والعقلاني والمستقر .
في الفقرة التاسعة المتعلقة بسمات التفكير التنويري التي أشرنا إليها أعلاه, والتي تشير فكرتها إلى أن اللغة يجب أن تكون شفافة, فهذه الرؤية في الواقع لاتقد م اللغة إلا كونها رموزا للأفكار أو الأشياء, ولا يمكنها أن تمتلك القدرة على الفاعلية أكثر من ذلك. فالمجتمعات الحديثة تعتمد أساسا على الفكرة التي فيها يشير الدال على المدلول ,على اعتبار أن الحقيقة هنا قد استقرت في الدلالة .
على أي حال, في مفهوم ما بعد الحداثة, نجد هناك فقط الدلائل , أما الفكرة الدالة على أي حقيقة بارزة فتختفي, ومع اختفائها يختفي أيضا جوهر الفكرة ذاتها التي تقول: إن الدال يدل على المدلول. ففي مجتمعات ما بعد الحداثة نجد هناك فقط المظاهر الخارجية التي تفتقد العمق أو الجوهر.
بتعبير آخر, في مجتمع ما بعد الحداثة لا يوجد هناك أصول أو جذور للظاهرة المعبر عنها فنيا أو أدبيا, هناك أشكال أو نماذج , أو ما يدعى بالصور الزائفة simulacra) ) فقط . فلو أخذنا على سبيل المثال فن الرسم أو النحت فسنجد هنا أعمالا أصيلة , أو ربما آلاف الأعمال الأصيلة, بيد أن الأصالة هنا لا تتحدد بجذورها وبعمقها الإنساني أو بقيمتها التنويرية, وإنما تتحدد وبشكل خاص (بالقيمة النقدية ), وهذا ما نجده على سبيل المثال لاالحصر عند مقارنتنا لمفهوم الأصالة في الأعمال الفنية ما بين التسجيلات الموسيقية المعاصرة مثلا, واللوحات الزيتية في الرسم لكبار الرسامين الكلاسيكيين , ففي التسجيلات الموسيقية المعاصرة تُفتقد الأصالة, وربما تُستهلك هذه المقطوعة الموسيقية أو الأغنية خلال أسابيع أو أشهر أو عدة سنيين في أقصى الحالات, بينما نجد الأصالة قائمة في تلك الواحات الفنية التي تعلق على الجدران وتحفظ في الأماكن السرية أو المحاطة أمنيا .
نعم , إلى حد ما هناك فقط توجد صور أو أشكال مجسدة فنيا, ففي مرحلة ما بعد الحداثة راحت تقدر فيها قيمة اللوحة الفنية – على سبيل المثال – بملايين الدولارات, في الوقت الذي افتقدت فيه هذه الأشكال أو الصور أو اللوحات أصالتها وجوهر إبداعها لا لكونها تناولت أشكال الظواهر فحسب, بل كونها فقدت شعبيتها أيضا وأصبحت خاصة لمن يمتلك ثمنها, أي لمن يمتلك الجيب المليء .
على أية حال إن المعرفة في مجتمعات الحداثة تأتي من أجل المعرفة نفسها , فالمرء على سبيل المثال يكسب المعرفة هنا عن طريق التعلم كي يصبح واسع المعرفة… كي يصبح شخصا مثقفا أو متعلما, هذه هي الفكرة الليبرالية عن تعلم الفنون في المجتمعات الحديثة , أما في مجتمع ما بعد الحاثة, فالمعرفة في الواقع أصبحت عملية بحت, فأنت تتعلم أشياء ليس من أجل معرفتها, بل لتحويل هذه المعرفة إلى وسيلة أو مهارة. فتعليم السياسة للفرد مثلا , يؤكد على المهارات والتدريبات بدلا من تأكيده على تعلم قيم ومثل إنسانية وإبداعية لم تكن معروفة له من قبل, وهذا ما ينطبق عليه المثل القائل لحملة الشهادات العلمية ( ماذا سوف تعمل بشهادتك العلمية ؟)
إن المعرفة في مجتمعات ما بعد الحداثة لم تتميز بفائدتها ( كمعرفة عملية ), وإنما تميزت بمسائل توزيعها وتخزينها وتنظيمها بشكل مختلف عما هي عليه في المجتمعات الحديثة , فوجود تكنولوجيا لاليكترونيات والكمبيوتر في مجتمعات ما بعد الحاثة قد أوجد ثورة في نماذج إنتاج المعرفة وتوزيعها واستهلاكها ( البعض يقول : إن أفضل ما وصف به مجتمع ما بعد الحداثة هو ظهور تكنولوجيا الكومبيوتر التي انطلقت بشكل فاعل عام ” 1960 ” كقوة مسيطرة على معظم أوجه حياة المجتمع ) .
في مجتمعات ما بعد الحداثة, إن أي شيء, لا يكون صيغا متميزة و قابلا للانتقال والتخزين في الكومبيوتر, – أي يتحول إلى شيء قابل للترقيم – , فسوف يتوقف عن أن يكون معرفة . فوفقاً لهذا المعطى , فإن عكس ( المعرفة ) لن يكون ( الجهل ) كما كان مقررا في الحركة الإنسية الحديثة , وإنما ( الضجيج ) هو من سيكون عكس المعرفة. فأي شيء في الواقع لا يعلن أهليته كنوع من المعرفة هو في حقيقة أمره ( ضجيج )… هو شيء غير متميز داخل هذا النظام .
يقول (Lyotard ) إن السؤال المهم لمجتمعات ما بعد الحداثة هو, من يقرر ماذا تكون المعرفة ؟ , وماذا يكون الضجيج ؟ , ومن الذي يعرف ما ذا نحتاج لنقرر قرارات حول المعرفة لا تشتمل هنا قابليات الحركة الإنسية القديمة التي تفرض المعرفة كحقيقة (سجية تكنولوجية ) أو إصلاح وعدالة ( سجية أخلاقية ) , أو حالة جمالية ( سجية إبداعية ) ؟, إن ما ناقشه (Lyotard ) أو أراد قوله على الأغلب في هذا الاتجاه هو أن المعرفة تتبع أنموذج ( لعبة اللغة ) .
إن هناك العديد من الأسئلة التي تطرح حول موضوعة ما بعد الحداثة , بيد أن هناك سؤالا هاما في الحقيقة من بين هذه الأسئلة , يتضمن آراء تطرح بكل بساطة مثل : هل سيكون هذا التيار باتجاه التشضي , الانطباعية , الوقتية, الشكلانية, وفوضوية أي شيء جيداً كان أم سيئاً ؟ . وهناك العديد من الأجوبة أيضا تجيب على هذا السؤال. ففي المجتمعات المعاصرة نجد في الحقيقة الرغبة في العودة إلى عهد ما قبل مرحلة ما بعد الحداثة , أي إلى ( الحركة الإنسية – التفكير التنويري ), بل هناك ميل للتواصل مع وشائج سياسية ودينية ورؤى أو نظريات فلسفية لها توجهات محافظة في الحقيقة, فواحدة من تجليات مرحلة ما بعد الحداثة هي ظهور التطرف الديني , كصيغة مقاومة تستجيب مع مفهوم ( الرواية العظيمة ) للحقيقة الدينية , والتطرف السياسي أيضا, هذا التطرف ربما نجده الآن أكثر وضوحا في سياسات المحافظين داخل الحكومة في الولايات المتحدة الأمريكية , مثلما وجدنا التطرف الديني الإسلامي في الشرق الأوسط , الذي تصدى مثلا للعديد من الكتب التي تعبر عن مرحلة ما بعد الحداثة مثل كتاب ( آيات شيطانية ) للروائي ( سلمان رشدي ).
إن هذا الترابط بين مقاومة تيار ما بعد الحداثة والميل نحو النزعة المحافظة داخل تيار ما بعد الحداثة, ربما يوضح إلى حد بعيد لماذا يقر تيار ما بعد الحداثة التفتيتية, والتعددية, وامتلاك القدرة على جذب الليبراليين والراديكاليين معا .
على المستوى الأخر, يبدو أن تيار ما بعد الحداثة يَقدم على عرض بعض البدائل لتشارك الحضارة الكونية قضايا الاستهلاك, حيث نجد البضائع وصيغ المعرفة تعرض بالقوة في هذه السوق الكونية بعيدا عن التوجهات أو الرغبات الذاتية , هذه البدائل المقترحة أو المقدمة في تيار ما بعد الحداثة , ركزت على ضرورة أن يكون كل عمل أو نضال اجتماعي ذا طبيعة محلية, ومحدوداً, وجزئياً , وإلى حد ما عليه أن لا يفقد نشاطه وفاعليته.
إن تيار ما بعد الحداثة وفق هذه المقترحات, يسعى في المحصلة إلى إبعاد تفكير (الروايات العظيمة ) التي تقول مثلا ( الحرية لكل الطبقات العاملة ) على سبيل المثال لاالحصر, والتركيز على الأهداف المحلية .
إن الآراء السياسية لما بعد الحاثة تقدم نظرية تسعى للارتباط بالأوضاع المحلية التي تمتاز بالنسبة لهذه الآراء بالليونة وغير معروفة سابقا أو متوقعة, إضافة لتأثرها بالميول والرغبات الكونية . لذلك من هنا يأتي شعار سياسات تيار ما بعد الحداثة ليقول : يجب عليك أن ( تفكر عالميا ) , ( وتعمل محليا ) ولا تغضب من أي رواية عظيمة, أو نظرية شمولية .
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.