في إحدى المدن الهامشية الصغيرة في المنطقة المغاربية، كان الطفل حسون يعيش مع أسرته في سكن هش، لا تتوفر فيه أدنى شروط الصحة والعيش الكريم، جدرانه مكونة من القصب المغطى بالطين المبلول والمعجون بالتبن (مركب للبناء المؤقت)، وسقفه مظلل بالقصدير الذي يقي من تسرب المياه إلى داخله. إنه فضاء المعاناة، الذي تشتد فيه الحرارة صيفا، ويكثر فيه صوت زمهرير الرياح و”ضجيج” زخات الأمطار شتاء. أما بابه، فكان يطل على زنقة، مرتبطة بعدة زنق، كلها ممتلئة بالوحل والنفايات وبحيرات المياه التي تخلفها الأمطار ومصبات المياه العادمة. إن ضيق المنافذ لولوج السيارات إلى داخل هذا الحي البدائي، واستحالة دخول شاحنات رجال المطافئ وسيارات الإسعاف إليه، ونتيجة لتكرار حدوث الكوارث التي لم تستثني أي أسرة من قاطنيه، اضطر الرجال والنساء والشباب والأطفال للتجند بشكل دائم لحماية وإنقاذ المتضررين. فمستوى حرصهم على الرفع من يقظتهم ليل نهار كان انشغالا مؤرقا، بحيث كانوا يخصصون حيزا من ساعات يومهم للتدريب على مواجهة كل أنواع المصائب المحتملة، والتي تسببها في الغالب النيران والمياه وسقوط الأسقف وتفجيرات قارورات الغاز.

أسرة حسون كانت تتكون من عشرة أفراد، أمه وأبوه، وثمانية أبناء، سبعة منهم ذكور، وهو أصغرهم، تتوسطهم أخت في سن الوردة المتفتحة. لقد كانت هذه الأخيرة غاية في الجمال بالرغم من حللها القديمة والرثة. ونظرا لشدة الحراسة المحكمة التي كان يتكلف بها إخوانها السبعة بالتناوب، كان شباب الحي المراهقين يصطفون على جدار مستوصف قريب من منزلها، لا لشيء سوى للحملقة الشهوانية فيما وهبها الله من زخرفة وجاذبية من أصبع رجليها إلى آخر شعرة في رأسها. كانوا في بحث مستمر على منافذ تصويب الأنظار إليها، بحيث حرصوا كل الحرص على تتبع خروجها ودخولها من وإلى المنزل، إلى أن أصبحوا على دراية تامة بمواقيت مهامها الاعتيادية من شروق الشمس إلى غروبها.

أما المحطات اليومية لالتهام الطعام، فلم تكن تخضع لمقياس زمني، بحيث كانت تبتدئ منذ الساعات الأولى بعد الفجر، وتنتهي في منتصف الليل. فهناك من الأبناء الذكور من كان يستيقظ ليلا للبحث عن أي شيء يسد به رمقه. أما عندما يستيقظون في الصباح، يلتهمون كل ما يجدونه أمامهم من طعام، وغالبا ما كانوا يتركون أمهم على لحم بطنها. أما الأب، فقد كان يواجه شراهة وجشع أبنائه بتناول وجبات خاصة في مطعم باجلول. في الصباح، تعود على تناول صحن من “البيصارة”، أي الفول (من فَصِيلَةِ الْقَطَانِيَّاتِ)ُ المَطْبُوخ والممزوج بزيت الزيتون الحرة. أما في وسط النهار، فكان الصحن الواحد من القطانيات الأخرى (العدس، الحمص، الفاصوليا، …) يكفيه لسد رمقه، وبعد سقوط الظلام، ينتظر باجلول إلى حين الانتهاء من عمله، ليتناولا معا طبقا متنوعا من بقايا الطعام، ليستسلما للحديث حول إبريق الشاي الصيني.

نتيجة لمعاناة زوجته التي كان يحبها كثيرا، وبفعل إلحاح الأبناء على طلب الطعام في أي وقت، بحيث يردد كل واحد منهم من حين لآخر عبارة “أمي أنا جائع جدا”، اضطر الأب إلى البوح لأبنائه بقساوة الأوضاع وعجزه عن إطعامهم، ليطالبهم بمغادرة المدرسة، والخروج إلى العمل لمساعدته على توفير الشروط الدنيا للعيش المشترك، وإلا سيطردهم إلى الشارع بصفة نهائية. لم يتردد الأبناء في التفاعل إيجابيا مع قرار أبيهم. لقد كانوا دائما يفكرون في مصارحته في هذا الموضوع بالذات. لقد كانوا عرضة للتهكم من طرف الأقران وللعقاب اليومي اللفظي والجسدي الذي يمارسه عليهم أساتذتهم. إن قساوة ردود أفعال الطاقم التعليمي لم تترك لهم أي فرصة للتفكير في تحدي أوضاعهم المعيشية. إن فضاء منزلهم المزري والمنحط، الذي لا يتلقون فيه ليل نهار، إذا استثنينا ما يتمتعون به من حنان الأم والأب، أي تشجيع أو قيمة تربوية أو تعليمية، حول قرار أبيهم إلى هدية، ومنفذ للنجاة من مخالب فضاءات فصولهم المدرسية. إن شدة تعرضهم للعقاب بشكل متكرر، جراء عدم قدرتهم على مواكبة أقرانهم في الدراسة، سهل تسرب التشاؤم والاشمئزاز إلى نفوسهم كلما حان وقت التوجه إلى المدرسة. حتى الأب، الذي كان متشبثا بتعليمهم من أجل إنقاذ أنفسهم وتمتيع والديهم في الكبر، استسلم لضغط الظروف القاهرة.

بعد مغادرته لأسوار مدرسته، كان حسون يستيقظ باكرا كل صباح، ويترك وراءه حربا ضروس يقودها أبوه وأمه من أجل إيقاظ إخوانه الذكور النائمين، الذين التهموا اليابس والأخضر من الطعام ليلا. أما حسون، بفضل نباهته ووعيه العميق بقساوة الأوضاع، وبمعاناة أبيه وأمه اليومية، فقد التزم سلوك كسب محبة وعطف الناس وخدمتهم بكل صدق وأمانة. وهو خارج البيت باحثا عن رزقه، وبفضل معنوياته العالية التي ساعدته دائما على هزم كل المظاهر الكابحة لإرادة العطاء المنتج، كان نشيطا للغاية، ولا يستهدف إلا الأنشطة والأعمال التي ستمكنه من ربح عطف الناس بدون انتظار المقابل. فبالرغم من لباسه الرث، كان محياه بشوشا، ومهذبا، وظريفا، وكلامه مؤثرا على محيطه. فكلما رأى عجوزا يريد قطع الطريق، كان يهرع اتجاهه، ويأخذه من يده، ويساعده على الوصول إلى الضفة الأخرى بسلام مقدما له التحية. وكلما رأى امرأة تحمل أثقالا، كان لا يتردد في مساعدتها، بعدما يقنعها بكلامه الموزون، وتعبيرات محياه البريئة، أنه مصدر ثقة، ولا يطمع من وراء ما يقوم به إلا نيل رضا الله عز وجل والفوز بحسناته.

لقد استمر على هذا الحال لمدة تفوق السنتين، وأصبح معروفا بوده وحسن أخلاقه، إلى درجة كان يحظى بعطف وحنان كبيرين من أهل مدينته الصغيرة المهمشة. لقد مكنته حصيلة أعماله اليومية من كسب حب الناس وتعاطفهم الكبير معه، واعتراف والديه بكدحه وإصراره المتواصل على فعل الخير، والحديث عنه أمام إخوته كقدوة في مجال الاعتماد عن النفس والتوكل على الله. لكن، بالرغم من تحسن مستوى عيش أسرته بفضله، لم يكن يشعر بالاطمئنان، بحيث كان يبحر من تارة لأخرى، بمنطق طفل في عمر الورود والأزهار، في بحر سهو وسهاد. فرضا والديه عليه وحب الناس لا يكفيانه، مقارنة ما تتطلبه الذات، وهي تترعرع مع مرور السنين، من حاجيات ومقومات الحفاظ على الكرامة.

هكذا، عندما وصل إلى سن الثاني عشرة من عمره، سيطر الحزن على أعماقه، إلى درجة أصبح ينتابه إحساس بالضياع كلما انتهى من عمله اليومي في الأفران والأسواق وحمل الأثقال وتنظيف المحلات والسيارات…… فموازاة مع تفاقم هذا الإحساس لديه، كان شديد الحرص على كظمه وإخفائه، حفاظا على مكانته الإنسانية لدى سكان مدينته، وعلى مشاعر والديه. وهو منعزل يفكر في واقعه ومستقبله، تذكر أحد أساتذته، الذي كان يعامله كتلميذ نبيه وذكي، بالرغم من عدم التزامه اليومي بالقيام بواجباته المدرسية، وما يسببه ذلك من ضعف في النتائج المحصل عليها في كل دورة.

وفي صبيحة اليوم الموالي، اتجه إلى المدرسة، وجلس بعيدا عن بابها الرئيسي، ينتظر خروج الأستاذ الذي يحبه كثيرا. وبعد فترة ليست بالطويلة، رآه مقبلا نحو سيارته، ليتجه نحوه جريا، مقدما له التحية والاحترام. تفاجئ الأستاذ بوجود حسون أمامه بمحياه البشوش، الذي تتدفق منه في نفس الوقت سمات الإنسانية والدونية وعدم الرضا عن النفس، ليسأله في برهة: ” ابني حسون، ماذا تفعل هنا؟”، ليجيبه بدون تفكير: “أنتم أحسن أساتذتي، ولجأت إليكم طالبا النصح والمساعدة إن كان ذلك ميسرا لكم”.

انبهر الأستاذ من القدرة التواصلية التي لمسها في تلميذه، الذي كان أصدقاؤه في الفصل يتهكمون عليه كلما عجز عن تقديم الإجابات الصحيحة لأسئلة أساتذته، فقال له:” مرحبا يا حسون، أنا أتتبع يوميا أمورك في المدينة وحب الناس لك، وكنت أنتظر هذه اللحظة. فأنا رهن إشارتك، قل ما عندك”. انجرفت الدموع من عينيه، ليصارح أستاذه بحزن أعماقه :” أنا اليوم بخير، أساهم بكل ما لدي من قوة من أجل ضمان عيش الكرامة لأبي وأمي وإخوتي. لكن ضميري يؤنبني في كل لحظة، ويسائلني بإلحاح معذب عن ما أعده لمستقبلي ومراحل عمري المتقدمة”.

احتار الأستاذ أمام نضج هذا الطفل النابغة، ليواجهه بعبارات التفاؤل: “إن ما برهنت عليه من جهد وصدق، وما عبرت عنه من حب وصدق في خدمة الناس، ونلت من خلاله إعجابهم ودعمهم المتواصل، لا يقدر بثمن. فعلا لقد تفوقت في أصعب امتحان في الحياة، وتمكنت من مراكمة رأسمال ثمين. إن أوضاعك الحالية لا ينقصها إلا تجديد التفكير بمنطق يستحضر الذات ومردوديتها المعرفية والمادية”.

أجابه حسون بابتسامة هذه المرة: “إنه الجواب الذي أبحث عنه منذ أن نفذ الأرق إلى أجفاني. فوصولي إلى سن مفترق الطرق وما انتابني من هواجس وكوابيس في شأن المستقبل وتقلباته ومتطلباته المعقدة، جعلني أعترف لنفسي أن القدرة على إضاءة الطريق أمامي بشكل ساطع لا يمكن أن تنبع إلا من الروح الطاهرة والصادقة التي تميز شخصية أستاذي في مادة العلوم”.

ازداد الأستاذ إعجابا بكلام الطفل اليافع، وهو ينم بكلامه إلى العقلانية والتفكير العلمي، فأضاف: “هل لديك رغبة وطموح للعودة إلى المدرسة بعقلية التحدي؟ لدي غدا اجتماع بمندوبية وزارة التربية والتعليم، ويمكن أن أعرض حالتك بالتفاصيل الدقيقة، مدافعا عن أحقيتك في متابعة دراستك، وما عليك إلا أن تعبر لي الآن عن شحنة قوية ومقنعة لهزم كل العراقيل التي يمكن أن تواجهك في الحياة كيف ما كانت حدتها وطبيعتها.”

أشرق وجه حسون لسماعه هذا الخبر، فارتمى على يد أستاذه ليقبلها، ليقابل الأستاذ توهجه العميق، وغبطته الهستيرية التي زادت محياه جمالا وبشاشة، بعبارة “استغفر الله، أنت يا ابني إنسان يستحق كل خير، وسأضع نفسي رهن إشارتك، لأعينك على تحقيق مبتغاك المشروع. وعليك أن تفكر جيدا في أوضاعك الاجتماعية، وكيفية التكيف إيجابيا معها بالشكل الذي يزودك دائما بالطاقة الإيجابية الكافية لضمان استقرارك مع أفراد أسرتك”.

منذ ذلك الحين، عاد حسون إلى المدرسة ، غير مبال بسنه وضخامة جسمه مقارنة مع تلامذة مستواه، ليعتكف، منذ إعلان قبوله، على تحقيق التراكمات المعرفية يوميا حريصا على إغناء رصيده اللغوي بالعربية والفرنسية والإنجليزية. كان يعمل أكثر من خمسة عشرة ساعة في اليوم، موزعا مجهوداته بين مساعدة أسرته بأنشطته المعتادة، والاهتمام البالغ بدراسته. لقد تعود على الحصول على المراتب الأولى دراسيا بحصيلة ممتازة جدا منذ السنة الأولى من عودته.

لقد أصر على الكد والكدح وقهر النفس إلى أن أصبح طبيبا خبيرا في الجراحة، يحاضر في مجال تخصصه في كل جامعات العالم بكل اللغات تقريبا. مباشرة بعد شعوره بتحسن أوضاعه المادية، فكر في إخوته وتعليمهم رغم كبر سنهم، مركزا على توفير الشروط التي ستسهل مساعدته لهم على اكتساب المعارف التدبيرية والتمكن من المؤهلات الضرورية لقيادة وإنجاح أي مشروع اقتصادي يتماشى وميولاتهم النفسية. لقد انخرطوا في مؤسسات الدعم التربوي ومنظمات محو الأمية، ليتمكنوا بعد أربع سنوات بفعل مثابرتهم من الحصول على شهادات التأهيل المهنية في تدبير المشاريع وأنماط التدبير العصرية. فما حققوه من نجاح كان كافيا للاستفادة من دعم أخيهم ودعم المؤسسات التمويلية الوطنية والأجنبية، لينتهي بهم المطاف بتأسيس شركة “إخوان حسون للتصدير والاستيراد”. أما أخته الجميلة الجذابة، التي كانت محط أنظار شباب الحي المراهق، فقد تزوجت أحد زملاءه، وأصبحت مديرة أعمالهم البحثية والعلمية. أما الوالدين، بعد أدائهما لفريضة الحج، استقرا في فيلا واسعة، وتكلفت أحد الشركات المتخصصة برعايتهما.

إن تجربته الناجحة في الحياة، والتي انطلقت من الصفر وما تحمله من مآسي وأحزان، رسخت في ذهنه أن بتراكم المعارف يوميا في ذهن الأطفال، منذ نعومة أظافرهم، يمكن للأوطان المشرقية والمغاربية تحقيق المستحيلات في مجال النهضة والرقي وأنسنة العلاقات الإنسانية ورقي الحضارة العربية على أساس العلوم والتسامح والتضامن والدفاع على القضايا العادلة للأفراد والجماعات. إنه الاقتناع الذي دفعه إلى تخصيص جزء هام من وقته وعمله وماله للعناية بطفولة الأسر الفقيرة وتوعية الأجيال بأهمية البحث المتواصل عن الدعائم المقوية لإرادة التنقيب عن أسرار الكون، وبالتالي إدراك عظمة الخالق ومنزلة العقل لديه. لقد أخذ على عاتقه، كلما حل بفضاء علمي أو سياسي أو جمعوي، التطرق إلى تجربته، حاثا الآباء والأمهات وأولياء التلاميذ والتلميذات على الحرص على تعويد الأطفال والشباب على العمل الجاد، وأن قهر النفس في الصغر في العمل المنتج معرفيا هو الآلية الوحيدة لخلق رجال الغد لوطنهم ومجتمعهم، وأن لذة الراحة الحقيقية والدائمة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد التعب في العمل المدر للمنفعة.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…