‘الربيع العربي’ والإسلام السياسي
 

في الجزء الثاني من دراسة حملت عنوان ‘الربيع العربي والإسلام السياسي’، يشير المفكر السوري صادق جلال العظم إلى أن أطراف الإسلام السياسي داخلة في صراع مرير ومديد وحاد جدا.

العرب صادق جلال العظم [نُشر في 26/07/2013، العدد: 9277،

الإسلام السياسي هو إيديولوجية تعبوية شديدة التأثير مستمدة ومُشكلّة، بصورة انتقائية وجزئية، من بعض نصوص الإسلام المقدسة، ومن عدد من مرجعياته التراثية، ومن عدد من سوابقه التاريخية، ومن حكاياته المتداولة أبا عن جد، ومن حاضر العجز الإسلامي المزمن ومن هامشية العالم الإسلامي والعالم العربي في مجريات التاريخ الحديث والمعاصر. ومن المهم جدا عدم الخلط أبدا بين الإسلام السياسي كما وصفته، وبين التدين الشعبي التلقائي والعفوي للمسلمين عامة، وهو التديّن الذي يتمحور في جوهره حول العبادات والمعاملات لا أكثر.

الإسلام السياسي

ليس الإسلام السياسي واحدا موحدا، في الواقع العكس تماما هو الصحيح، فأنا أجد أن أطراف الإسلام السياسي اليوم داخلة في صراع مرير ومديد وحاد جدا، على ضبط معنى الإسلام نفسه، وتحديد تعريفه، والهيمنة على فحواه، وطبيعة تطبيقاته. وأضيف هنا أن هذا الصراع المستمر للسيطرة على معنى الإسلام وتحديده ليس ببعيد على الإطلاق عن الربيع العربي ومساراته، أو عن الثورة الشعبية في سوريا ومآلاتها.

أما الأطراف الرئيسية الداخلة في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه، كما تمكنت من رصدها وتصنيفها، فهي على النحو التالي:

أولا، أنظمة سياسية وحكومات وأجهزة دولة ومؤسسات دينية رسمية تديرها نُخب من رجال الدين، تعمل كلها على الدفاع عما يمكن تسميته هنا بـ “إسلام الدولة الرسمي”، وعلى صياغة تعاليمه وتوجهاته صياغات مناسبة وفقا للظروف والأحوال المتبدلة، وعلى نشره وبثه عبر الوسائل المتوفرة للدولة وأجهزتها. ونجد النموذج الأعلى لهذا النوع من الإسلام في إسلام البترودولار لدولتين مثل المملكة العربية السعودية وإيران، وهو إسلام سياسي مدعوم جيدا جدا ليس محليا وإقليميا فقط، بل ودوليا أيضا، وفي شتى أنحاء العالم، مدعوم بالدولة المعنية، وبأجهزتها الأمنية المتنوعة، وبقوة أموالها الوفيرة وإغراءاتها.

معروف أنّ العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار الإيراني هي “ولاية الفقيه”، في حين أنّ العقيدة الأساسية لإسلام البترودولار السعوديّ تقول: “القرآن دستورنا”، بما يعني أننا لسنا بحاجة إلى أيّ دستور مهما كان نوعه، لأنّ الحكم المطلق هو الأفضل والأنسب للإسلام الحقيقيّ والأصيل.

ولا أعتقد أنّي أبالغ حين أقول إنّ كلّ دولة من دول العالمين الإسلامي والعربي اليوم، قد طوّرت لنفسها نسخة مناسبة، وطبعة ملائمة، من إسلام الدولة الرسميّ هذا، تستعملها في خدمة مصالحها الحيوية وغير الحيوية، داخليا وخارجيا من ناحية أولى، وفي مناوأة وإحباط المصالح المشابهة لدول أخرى منافسة لها، أو متخاصمة معها، من ناحية ثانية.

الإسلام الأصولي

الطَرَف الثاني في هذا الصراع على ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه وتفسيره وتأويله، نجده على الجانب الآخر البعيد من إسلام الدولة الرسمي، وأعني بذلك الإسلام الأصولي الطالباني التكفيري الجهادي العنيف، بأجزائه المتكثرة وفئاته المتنوعة وتنظيماته المتفرعة، وعقيدته الأساسية هي: “الحاكمية”، ومنهج عمله شبه الوحيد، تقريبا، هو “التكفير والتفجير” (كما يقولون هم) بلا مقدّمات، وبلا نظر إلى العواقب، أو النتائج مهما كانت. هذا هو الإسلام الذي احتلّ الكعبة سنة 1979 بقيادة جهيمان العتيبي، واغتال الرئيس أنور السادات سنة 1981، وخاض معارك إرهابية دموية خاسرة في سوريا ومصر والجزائر، وهو الإسلام الذي نفّذ ضربات 11 أيلول – سبتمبر سنة 2001 داخل الولايات المتحدة الأميركية، إنه إسلام يئس إلى حدود العدمية من بلوغ أية أهداف أو تحقيق أية برامج بأي أسلوب أو منهج غير أسلوب ومنهج التكفير والتفجير الإرهابي الانتحاري شبه الأعمى، ولتكن النتائج مهما تكن، حتى لو انعكست تدميرا على الإسلام عموما، وعلى الإسلام التكفيري نفسه تحديدا. إنه الخيار الشمشوني الصارخ يأسا وعدمية: “عليّ وعلى أعدائي يا ربّ “.

حزب الله وحماس

ما هو موقع إسلام حزب الله اللبناني، وموقع إسلام حماس الفلسطينية، من إسلام التكفير والتفجير هذا؟

السؤال مطروح، محليا ودوليا، بسبب شبهات تقول إنّ العمليات الانتحارية/الاستشهادية التي اشتهرت بها حماس، مثلا، وعمليات خطف الرهائن من المدنيين والأبرياء التي نفّذها حزب الله في ثمانينات القرن الماضي في لبنان، وغيرها من العمليات الخارجية للحزب، كمثل آخر، تحمل صلات قربى ما إلى ذهنية الإسلام التكفيري التفجيري إيّاه. وبالفعل، فقد بدا للحظات وكأنّ العمليات الانتحارية / الاستشهادية هي المنهج الوحيد الذي بقي لحماس، تماما كما حدث للإسلام الطالباني – القاعدي الذي لم يعد عنده من أسلوب عمل غير أسلوب التكفير والتفجير.(…)

“بيزنس” إسلام

الطرف الثالث المنخرط في الصراع الجاري على معنى الإسلام وتعريفه، وأقصد إسلام الطبقات الوسطى والتجارية، إسلام البازار والأسواق المحلية والإقليمية والمعولمة، إسلام غرف التجارة والصناعة والزراعة، إسلام المصارف وبيوتات المال المسماة إسلامية، وإسلام الكثير من رؤوس الأموال الطافية والباحثة، بيقظة عالية، عن أية فرصة استثمارية سريعة ومجزية في أيّة ناحية من نواحي الكرة الأرضية اليوم، وإلى الحد الذي تشكل فيه بورجوازيات البلدان الإسلامية عموما، والعربية تحديدا، العمود الفقري لمجتمعاتها المدنية، فإن هذا الإسلام الجيد والمفيد “للبيزنس” (Good for Business Islam) يكون هو، أيضا، إسلام المجتمع المدني فيها.

إنّه إسلام معتدل ومحافظ، يتمحور حول عمليات البيزنس بأشكالها كافّة، له مصلحة حيوية في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وهو بالتأكيد غير مهووس بالمشركين والكفار والمرتدين والمجوس والملحدين والزنادقة والمنافقين والروافض والنواصب وأحفاد القردة والخنازير، أو بالحدود وقانون العقوبات الجسدية. إنه إسلام يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام وإلى التشدد في الشأن الشخصي والفردي والعائلي والخاص. ولذا يجب تمييزه بدقة عن إسلام الحكم المطلق من ناحية، وعن إسلام التكفير والتفجير، من ناحية ثانية.

يعبّر الباحث والمفكر الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد عن بعض التفاؤل العربي العام، ولو البسيط، في هذا النوع من الإسلام، بعد أن يموضعه في “تلك الفئات الاجتماعية الصاعدة من مجموع الـ 250 مليون نسمة في الوطن العربي التي تريد أن تعيش بسلام مع نفسها ومع الآخرين، فالفئات الوسطى التي تشتغل وتعم، هي التي يمكن أن تنشئ فكرا جديدا، إرهاصاته بدأت، فكرٌ لا يصارع العالم ولا النفس، بل يعيشُ في مصالحه معهما”.

أما النموذج الأعلى لإسلام البيزنس هذا، فنجده في حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا اليوم، وفي طبيعة مشاريعه وإصلاحاته وطموحاته وسياساته الداخلية والخارجية على المستويات كافة.

يصف الحزب المذكور عقيدته الأساسية بـ “الديمقراطية المحافظة” في إشارة واقعية جدا منه إلى أن القاعدة الشعبية والانتخابية الواسعة لحكمه موجودة في الأناضول الأوسط، وهي المنطقة الصاعدة بسرعة فائقة اقتصاديا وإنتاجيا وتجاريا وعولميا وبزنسيا في الوقت الحاضر، والمحافظة سياسيا واجتماعيا ودينيا في اللحظة ذاتها.

النموذج التركي

من علامات النجاح البارزة التي تسجل لإسلام حزب العدالة والتنمية، أن نزعته المحافظة لم تبدّد نفسها – كما جرت العادة – في سطحيات “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في الملبس والمأكل والمشرب والمذهب والمسْبَح والمسلك اليومي للناس، بل اهتمت بحكمة كبيرة بالمحافظة المتأنية على مؤسّسات الدولة التركية الكمالية والعلمانية، وعلى دستورها الأساسي، كما تطورت ونمت كلها، وكما خدمت المصلحة القومية التركية على امتداد القرن العشرين.

ولا يبدو أن هذا النوع من الإسلام سيفرّط للحظة أو يتلاعب بخفّة بمكتسبات حديثة هائلة ومنجزات عصرية نوعية كبيرة حققتها تركيا المعاصرة.

معروف كذلك أن إسلام النموذج التركي ترك آثاره البالغة على تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة مثلها مثل تيارات أخرى في حظيرة الإسلام السياسي، كانت تكره التجربة التركية السابقة كرها شديدا بسبب من كماليتها المعروفة، وعلمانيتها المتقدمة، وتصفيتها لمؤسسة الخلافة، وتوجهها الغربي – الأوروبي الحداثي، بالإضافة إلى علاقاتها القوية بإسرائيل.

أما الآن فالسؤال الذي أخذ يطرح نفسة على الإسلام السياسي العربي عموما، وعلى ضوء ما آلت إليه تجربة الإسلام السياسي التركي في الجمهورية الكمالية العلمانية المحتقرة إسلاميا سابقا، هو: لننظر أين هو الإسلام السياسي التركي اليوم، وأين هو الإسلام السياسي العربي اليوم أيضا، لننظر في ماذا يرفل الإسلام السياسي التركي الآن، وفي ماذا يتخبط الإسلام السياسي العربي في الوقت الحاضر؟.

وبالنتيجة أخذت مناقشات نقدية واسعة، ومراجعات كبيرة، ونزاعات حادة، تتفاعل في أوساط تيارات الإسلام السياسي العربي، في محاولة منها للتعامل مع هذا الوضع التركي الجديد والتكيف معه. سأذكر على سبيل المثال، أولا مشروع إصلاح المجتمع والدولة والاقتصاد والقضاء في مصر، الذي أطلقته جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة في شهر آذار – مارس سنة 2004 تحت عنوان “مبادرة الإخوان المسلمين للإصلاح الشامل في مصر”، وثانيا، المبادرة المشابهة لإصلاح المجتمع والدولة والاقتصاد وغيره في سوريا، والتي أطلقتها الجماعة من لندن في شهر نيسان – أبريل سنة 2005.

لا أعتقد أن الخطاب النوعي الجديد الذي انطوت عليه كل من هاتين المبادرتين كان ممكنا، أو كان يمكن أن يصدر من دون نموذج الإسلام السياسي التركي، ومن دون ما آلت إله تجربة هذا الإسلام المرنة مع الدولة العلمانية، ومع الديمقراطية الانتخابية، ومع المجتمع المدني، ومع الحداثة عموما في تركيا.

تخلى المشروعان المذكوران للإصلاح الشامل في مصر وسوريا، كليا، عن الخطابات والدعوات الإخوانية المعهودة من نوع: “القرآن دستورنا”، “إعادة إحياء مؤسسة الخلافة”، “الإسلام هو الحل”، “التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية” (أي قانون العقوبات) وما إليه لصالح خطاب يحاكي بالتفاصيل إجراءات حزب العدالة والتنمية التركي، ويقلد دعواته ومشاريعه وإصلاحاته وسياساته وقيمه، حتى أنك تظن للحظة، وأنت تقرأ بعض فقرات مبادرتي “الإصلاح الشامل” في مصر وسوريا، كأنك أمام نص منتزع من أحد كتب ديديرو (Diderot) أو مونتسكيو (Montesquieu)، ودون أن يعني ذلك بأني أصدق كل ما أقرأ.

نهاية الإسلام السياسي

حسّونة المصباحي

بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001، أصدر المفكرّ والباحث الفرنسي المعروف جيل كيبال، المتخصّص في الإسلاميّات، كتابا حمل عنوان: “الجهاد.. توسّع وانحدار الإسلام السياسي”، وفيه طرح فكرة تقول إن الضّربة القاسية التي وجّهها بن لادن إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة لا يمكن اعتبارها انتصارا للحركات الإسلاميّة المتطرّفة التي اختارت الإرهاب سلاحا ضدّ أعدائها، وإنما هي كاشفة بالأحرى عن ضعف، يشي ببداية انحدار هذه الحركات. ويتمثّل هذا الضّعف في عدم قدرة بن لادن وجماعته على التغلغل في الجماهير العريضة، وحشدها. من هنا ندرك سبب لجوئهم إلى العنف والعمليّات التي تثير صخبا إعلاميّا هائلا غير أنّها تظلّ مع ذلك غير فاعلة في الواقع السياسي سواء في العالم العربي الإسلامي أم في الغرب. وقد أثارت فكرة جيل كيبال جدلا واسعا في أوروبا وأميركا. وكان المعارضون لها كثيرين. وهؤلاء اعتبروا أن جيل كيبال مخطئ في تحليله باعتبار أن الحركات الإسلاميّة المتطرّفة تزداد تغلغلا يوما بعد يوم في الأوساط الشعبيّة، وحتى في أوساط الطبقات المتوسّطة والبورجوازية مقدّمين دلائل كثيرة سياسيّة واجتماعية تثبت ذلك.

واليوم، وبعد أن أصدر كتابا جديدا عن” ثورات الربيع العربي”، عاد جيل كيبال ليطرح نفس الفكرة وقد ازداد اقتناعا، ووثوقا بها وبصحّة تحليله. وهو يقول إن الإسلام السياسي يشهد الآن صراعات ونزاعات تدلّ على أنه شرع في الهبوط وفي الإنحسار. فقد انقسم الذين يمثّلونه إلى قسمين: قسم يريد أن يلعب لعبة الديمقراطيّة ويدعو إلى المساهمة في الانتخابات بشكل جدّي. ويمثّل هذا القسم أردوغان في تركيا وبن كيران في المغرب على سبيل المثال لا الحصر. أمّا القسم الثاني فيمثّله دعاة العنف والجهاد المسلّح من أمثال جماعة القاعدة الذين لا يزالون متشبّثين بأطروحات قائدهم بن لادن. ويشير جيل كيبال إلى أن النزاعات بين الإسلاميّين ازدادت حدّة بعد أن استلموا السّلطة في كلّ من تونس وليبيا ومصر، خصوصا بين الذين يعتقدون أنه يتوجّب فرض الشريعة وبين الذين يبدون نوعا من التردّد في ذلك. وكان الخطأ الفادح الذي ارتكبه مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر هو أنهم لم يدركوا أن الذين صوّتوا لهم في الانتخابات لم يفعلوا ذلك محبّة فيهم وتقديرا لهم ولبرامجهم السياسيّة والاقتصادية، وإنما لأنهم كانوا يبتغون تغييرا حقيقيا يطوي صفحة الماضي ويضع حدّا للاستبداد. لذلك خرج المصريّون إلى الشوارع من جديد بعد أن تيقّنوا أن أحلامهم وأهدافهم تتناقض تماما مع أحلام وأهداف مرسي وجماعته الذين راحوا يفعلون ما يشاؤون وما يريدون وكأنّهم أبديّون.

ويضيف جيل كيبال قائلا إنّ الذين سيسعون من جماعة الإسلام السياسي إلى اللّجوء إلى العنف والقوّة لمواجهة خصومهم والمعارضين لهم سوف يجرّون أنفسهم والحركات والأحزاب التي يقودونها إلى الفشل الذّريع، إذ أن الجماهير العربيّة لم تعد تقبل بذلك بعد الانتفاضات التي أطاحت بأنظمة قمعيّة في تونس ومصر وليبيا واليمن. وعندما اغتيل القيادي اليساري التونسي شكري بلعيد سارت في جنازته جماهير غفيرة أشاعت الارتباك والذعر لدى حركة النهضة والموالين لها من الأحزاب ألأخرى. وكان ذلك دليلا، بحسب جيل كيبال، على أن “المجتمعات العربيّة تذوّقت طعم الحريّة وأصبحت المطالب الديمقراطيّة في قلب هذه المجتمعات.

الإسلام السياسي لن ينتصر في سوريا

 

المسألة هنا ليست مسألة صدق أو تصديق، بقدر ما هي تحري الأسباب التي جعلت الإخوان وغيرهم من تيارات الإسلام السياسي، يتراجعون عن خطابهم التقليدي وشعاراتهم السابقة، والاتجاه نحو خطاب جديد يستعير، بشكل أو بآخر، من القيم والمفردات المحسوبة على الليبرالية والعلمانية والحداثة، عموما، ليبدو وكأن هذه القيم حققت انتصارا ما على الأيديولوجيا الإخوانية القديمة، وتعاليمهم الموروثة وأجبرتهم على تعديلها باتجاه مغاير. خطاب جديد

ألحظ، هنا، تصريحا دالا لزعيم حزب النهضة في تونس السيد راشد الغنوشي، يقول فيه إن النهضة في الحكم اختارت السياسة وليست الإيديولوجيا. اختيار السياسة ونبذ الإيديولوجيا هنا يعني، في هذا السياق، الالتصاق بالخطاب الإخواني النوعي المستحدث، واستبعاد الخطاب التقليدي القديم من نوع «إحياء الخلافة» و «الإسلام هو الحل» وما إليه، على أساس أن ذلك كله هو أيديولوجيا لا أكثر. خيار الإيديولوجيا كان سيعني فرض متطلبات تلك الإيديولوجيا على المجتمع بالقوة والتعسف والإكراه، مما سيؤدي حتما إلى إعادة تجديد الاستبداد وحكمه وتجديد مقاومته أيضا. لا أعتقد أن هذا النبذ للإيديولوجيا، والتوجه نحو السياسية بدلا عنها، لدى قوة رئيسية من قوى الإسلام السياسي العربي، كان ممكنا من دون النموذج الإسلامي التركي المحدث، ومن دون تجارب سياسية إسلامية فاشلة سبقت.

إعادة تأهيل إسلام الدولة

كان لابد للإسلام السياسي، بفروعه الثلاثة المذكورة والمتصارعة، من أن يقتحم ساحات الربيع العربي في كل بلد من بلدانه، وبخاصة في سوريا الثورة. ولا يمكنني قول الكثير في هذا الشأن، لأن المعركة مازالت محتدمة، والنزاع على أشده في بلدان الربيع العربي جميعا، والتنبؤ بمآلات هذا الصراع وبعض احتمالات نتائجه مسألة متعذرة، لذلك سأكتفي بعدد من الملاحظات الأولية:

واضح أن الإسلام السياسي الإخواني الذي طفا على السطح في كل من مصر وتونس، يجد نفسه، اليوم، في وضع لا يحسد عليه من التخبط والتعثر والتناقض والإخفاق والغضب الشعبي المتصاعد، كما يواجه إحراجا كبيرا في كيفية تعامله مع النوعين الآخرين من الإسلام السياسي، ومع متطلبات كل منهما المتناقضة، وأقصد إسلام البترودولار الرسمي، بنموذجيه السعودي والإيراني من جهة، وإسلام التكفير والتفجير بنموذجه الجهادي الجوال والعابر للحدود، والمتمركز في المناطق النائية.

فأصحاب إسلام التكفير والتفجير من الجهاديين، هم في العمق إخوة وإخوان ضلّوا الطريق، ومن هنا الصعوبة والإحراج في التعامل معهم. ففي مصر مثلا، لا أحد يعرف، حتى هذه اللحظة، إلى أين وصلت التحقيقات الرسمية في مقتلة أغلقت الدائرة على نفسها، هذا، على الرغم من الوعود التي قطعت على أعلى المستويات وأمام جماهير غفيرة، بكشف الحقائق بأسرع وقت، ومحاسبة المسؤولين عما حدث وإلى آخر ذلك من وعود حكامنا المعهودة.

أما أصحاب إسلام البترودولار الرسمي فهم، أيضا، إخوة وإخوان، لكن من النوع ثقيل الظل، إلى درجة لا تحتمل بسبب ثرائهم الفاحش، وحشريتهم الزائدة، وتدخلهم في كل صغيرة وكبيرة دون استئذان.

لكن على الرغم من الإحراج الناشئ بسببهم، فالإسلام السياسي الحاكم في بلدان الربيع مضطر إلى تحمل هؤلاء الإخوة والإخوان، بكل غلاظاتهم، نظرا للحاجة الماسة إلى ما هو موجود عندهم وغير موجود عندنا.

أرى في مصر اليوم محاولة لإعادة تأهيل إسلام الدولة الرسمي مجددا ومعدلا، بما يتفق مع متطلبات المرحلة الانتقالية الحالية. لكن الملفت للنظر أن المحاولة تصطدم بمقاومة شديدة من جانب قطاعات كبيرة وفاعلة في المجتمع المصري، بالإضافة إلى قوى شعبية واسعة. هذا، على الرغم من الخطابات الدينية والفقهية والشرعية الكثيرة العاملة على تسويغ المحاولة وتمريرها.

مفهوم مشوه للديمقراطية

لمّا نفد صبر الرئيس المعزول محمد مرسي، وتراكمت عليه الأعباء إلى درجة لا تحتمل، أصدر إعلانه الدستوري الشهير الذي أعطى فيه لنفسه سلطات مطلقة، وحصانات تجعله هو وقراراته فوق أي نوع من أنواع المساءلة أو الطعن، أي سلطات وحصانات من نوع «لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون». كانت النتيجة أن انتفض نصف مصر، على أقل تقدير، في هبّة رفض لما بدا أنه استعادة من جانب الرئاسة لنوع من الحكم المطلق، باسم كون الرئيس منتخبا بالأكثرية.

بعبارة أخرى، نحن أمام مفهوم ناقص ومشوه للديمقراطية حيث تكون الديمقراطية ليست أكثر من حكم الأكثرية (ومن قال إن الأكثرية لا تستبد) مع النسيان المتعمد بأن الديمقراطية هي، أيضا، حفظ حقوق الأقلية السياسية بأن تعيد تنظيم نفسها لتتحول إلى أكثرية سياسية انتخابية، في المرة القادمة. هبة مصر هذه بينت للعالم كله أن مصر اليوم ليست مجرد إخوان وسلفيين وجهاديين وتكفيريين وإسلاميين، بل هي أيضا مجتمع مدني ديناميكي متحرك وفاعل وصاحب موقف. حتى الدستور المصري الذي سلقه حكم الإسلام السياسي الربيعي – كما يعبر المصريون – لم ينجح في الاستفتاء إلاّ بهامش ضيق نسبيا، كما أن القاهرة – وما أدراك ما القاهرة – اقترعت ضده. كما يحتاج أي حكم في مصر إلى عبقرية فائقة حتى يصطدم بالأزهر والكنيسة في لحظة واحدة، ناهيك عن المؤسسة العسكرية والقضائية والاتحادات المهنية والنقابية والطلابية في البلد.

الثورة هي السياسة

أما في سوريا الثورة اليوم، فإن إسلام البترودولار الرسمي بنموذجيه السعودي والإيراني موجود بقوة، كما أن إسلام التكفير والتفجير موجود بقوة، أيضا، بالإضافة إلى ما تبقى من الإسلام الرسمي لنظام الأمر الواقع، والذي اضطر مؤخرا إلى إعلان الجهاد المقدس، والدعوة إليه لحماية نفسه ونظامه، على الرغم من الادعاء بأنه العلمانية الوحيدة في المنطقة. كما أن الإسلام البيزنسي على النهج التركي موجود هو الآخر، وإن كان في حالة كمون نسبية في الوقت الحاضر، وبانتظار فرصه الباهرة القادمة في المستقبل القريب.

حدسي هو أن سوريا بعد الثورة لن تقع في قبضة أي من الإسلامات السياسية التي تتصارع الآن للفوز بها، فبعد مرحلة قلقة من الفوضى والاضطراب المتوقعة ستعود سوريا، على الأرجح، إلى مزاج التدين الشعبي العفوي والتلقائي والسمح الذي عرفت به سوريا المعاصرة وعرف به شعبها منذ عهد الملك فيصل.

من ناحية ثانية، عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار والبناء، أعتقد أن رأس المال السوري والبورجوازية السورية عموما سيتقدمان بقوة لقيادة مسيرة الإعمار والاستثمار فيها، مما يعني أن الإسلام الذي سيطفو على السطح سيكون الإسلام البيزنسي، إسلام رجال الأعمال وأصحاب المشاريع والشرائح التجارية والصناعية، وهو غير الإسلام السياسي الذي يتخوف الجميع منه بسبب تصلبه وتشدده خاصة في أتون المعركة. الثورة هي السياسة بأشكال أخرى وأدوات أخرى. أما منهج التكفير والتفجير فهو قتال وقتل لا نهاية لهما، ولا سياسة فيه، ولا أفق له سوى الموت والعبث.

أعتقد أن الإسلام الشعبي التلقائي والإسلام السياسي البيزنسي قادران على استيعاب تيارات الإسلام السياسي الأكثر تعنتا وأصولية، والمتحدرة كلها من إسلام التوتر العالي، الذي يطبع مرحلة الثورة بطابعه. لا أعتقد أن سوريا مرشحة لسيادة ذلك النوع من الإسلام الذي يمنع التعليم ويحرق المدارس ويغلق الجامعات ويعطل المعاهد ويحرم المرأة من التعليم والعمل المنتج.

كما لا أعتقد أن سوريا ستقع في قبضة أي من الإسلامات المتصارعة فيها وعليها الآن، وهي بالتأكيد لن تقع في قبضة إسلام ولاية الفقيه، أو إسلام الحاكمية، أو حتى إسلام المرشد، كما يقولون في مصر.

حين توصلنا الثورة في سوريا إلى صناديق الاقتراع بأمان نسبي، لا أرى أن أيا من تيارات الإسلام السياسي في سوريا سيتمكن من اكتساح نتائج الانتخابات، على الطريقة التونسية أو المصرية، يتطلب هذا كله حماية مدنية الدولة من احتمالات وإغراءات عودة الحكم العسكري، بخاصة أن سوريا اعتادت على حكم الجيش لمدة نصف قرن، كما اعتاد العسكر على حكم سوريا للمدة ذاتها.

كما يتطلب أيضا حماية علمانية الدولة في مواجهة خطر قيام قوى أو تيارات أو تنظيمات أو أحزاب تحمل إيديولوجيات شمولية دينية، أو غيرها، بعيدة كل البعد عن التنوع الكبير للمجتمع السوري، والتعددية الدينية والمذهبية والأثنية والثقافية التي يتصف بها، وبحيث لا تقوم مثل هذه القوى بالتسلط على الحكم والدولة، فتعود سوريا إلى استبداد لا يختلف عن استبداد حكم الحزب الواحد، والرأي الواحد، والقائد الواحد، وما شابه ما عاشته سوريا لمدة طويلة.

في الواقع، إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لسوريا الجديدة هو أن تقع مرة أخرى فريسة لديكتاتورية عسكرية مغلّفة بالتعصب الديني والانغلاق العصبوي الطالباني، علما بأني لا أرجح مثل هذا المآل لبلدي.

هذا هو اجتهادي. ومن اجتهد وأخطأ له أجر ومن اجتهد وأصاب له أجران.

* مفكر من سوريا أستاذ في جامعة هارفارد، والنص ينشر بالاتفاق مع مجلة «دمشق» الأدبية الفكرية

عن موقع جريدة العرب

‫شاهد أيضًا‬

بيـــان المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم (ف.د.ش): يرفض الزيادة الهزيلة في الأجور التي اقترحتها الحكومة على المركزيات النقابية، ويشجب بأقصى عبارات الاستنكار الإجهاز الممنهج على مجانية التعليم العمومي من خلال القانون الإطار

  تدارس المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العضو في الفيدرالية الديمقراطية للشغل في اجت…