مرت 45 سنة على يوم الخميس 18 دجنبر 1975 الذي شهد اغتيال الشهيد عمر بنجلون. قبل اغتياله كان عمر، في منتصف ذلك اليوم قد جلس بين أفراد هيئة التحرير، سأل عما إذا كانت لدى أحد ما فكرة أو رأي أو اقتراح لمقال أو افتتاحية، اقترح أحد الصحفيين تناولا صحفيا لخبر نشرته وكالة المغرب العربي للأنباء عند إنزال عتاد حربي ورجال غير صحراويين من طرف قوارب جزائرية في ميناء الكويرة، نوقشت الفكرة من طرف الجميع، ثم طلب عمر من أحد الصحفيين أخذ ورقة وقلم، وأخذ يملي عليه وهو ينظر تارة إلى وجه الصحفي وتارة إلى وجوه الصحفيين الآخرين وكأنه يحاول قراءة ما يدور في خلد كل واحد، أنهى المقالة ثم قال بعد ذلك «يظهر أنه ليس لي ما أفعله هنا، علي إذن أن أذهب»، ثم أخذ جرائده، ركب سيارته الرونو 16 ببياضها الرّمادي، واتجه نحو منزله الذي وصله حوالي الثانية والنصف بعد الزوال، هناك التحق به بعض المناضلين، دار الحديث وانتهى، كان على فتى «عين بني مطهر» أن يرافق والدته إلى منزل أحد أقاربه، كانت الساعة تشير إلى الثالثة وعشر دقائق عندما وقف عمر أمام باب السيارة ليفتحها، عندما فاجأته ضربة قوية بقضيب حديدي استدار على إثرها وهو آيل للسقوط، تلت الضربة طعنة في الصدر ثم طعنة في الظهر· فَرَّ المعتدي (المعتدون) وقد ترك خلفه جثة الشهيد عمر مسجاة على الأرض.
بالدائرة الثانية للأمن الاقليمي بالدار البيضاء، كان مفتش الشرطة سعيد مصطفى، ضابط الشرطة القضائية مساعد وكيل الملك، في مقر عمله، عندما أخبره (المارّة) بوقوع جريمة قتل قبالة المنزل رقم 91 بشارع كامي دي مولان (المسيرة حاليا). لم تمر سوى 10 دقائق على الجريمة الشنعاء حتى كان الضابط ومساعده في عين المكان، كانت الجثة ملقاة على الارض بالقرب من السيارة رقم 40.97.56 ، التحق به أفراد الشرطة القضائية فتم وضع حزام خاص حول مكان الجريمة بالشارع المشجر، كان جثمان الشهيد ملقى على ظهره ورأسه متجها نحو الشارع، بذلته الرمادية وقميصه ملطخان بالدماء من جراء الطعنات، وكانت حاملة المفاتيح على شكل حرف «0» بالفرنسية ـ تسبح في بركة دم متجمد.
تفاصيل الجريمة
في تلك الاثناء، تقدم المفتش «بنملحة» العامل بالأمن الاقليمي رفقة السيد حفاظ علال بن صلاح القاطن بعمالة الدار البيضاء، ورفقتهما شاب في حوالي العشرين من عمره وقد قيدت يداه، أخبرالمفتش المكلف بأن هذا الشخص هو المتهم وأنهما كانا شاهدي عيان على الاغتيال.
بعد استنطاقه صرح المعتقل بأنه يدعى سعيد بن احمد ادريس، مغربي مزداد سنة 1954 بأولاد سعيد بسطات، أقر المجرم بجرمه ولم يصرح بالدافع الذي دفعه الى ارتكابه في الحين، كما اعترف بأنه ألقى بسلاح الجريمة أثناء هروبه دون أن يتذكر على حد زعمه، مكان إلقائه.
في تمام الساعة الثالثة و35 دقيقة وصل رئيس الأمن وعامل الدار البيضاء اللذان عاينا وفاة الشهيد عمر واستمعا الى اعتراف قاتله.
كيف تم القبض على المجرم الاول: كان السيد حفاظ علال بن صلاح، البالغ 41 سنة وقت الجريمة، يعمل طباخا بـ «غولف آنفا»، بعين الذئاب، يوم 18 دجنبر1975، غادر مقر عمله في الساعة الثالثة بعد الزوال كالعادة، متجها نحو منزله بحي «بين المدون» بالبيضاء عبر شارع روزفلت ثم شارع كامي دي مولان (المسيرة). وبعد أن اقترب من محطة البنزين «طوطال» الموجودة في ملتقى زنقة «بواسي» وشارع كامي دي مولان، بحوالي 30 مترا، لاحظ شخصا غريبا يقتفي خطوات الشهيد عمر بن جلون ـ والذي لم يتعرف عليه آنذاك حسب تصريحه ـ الذي كان متجها نحو سيارته، ولما شرع الشهيد في فتح باب السيارة انهال عليه الشخص المذكور بقضيب حديدي على رأسه، شرع السيد حفاظ علال في الصياح، أطلق المعتدي ساقيه للريح، حاملا معه أداة الجريمة، اتجه المجرم ناحية مقر الدائرة الثانية، يتبعه شخص آخر نزل من شاحنة هو وسائقها.
التحق الشاهد بالمطاردة، قبل أن يلتحق بهم شخص آخر تبين فيما بعد أنه رجل شرطة، وصل الجميع الى مكان خلاء، أحاط المطاردون بالمجرم الذي رفض تسليم نفسه للشرطي مهددا إياه بالحجر، وفي «هذه اللحظة ـ يقول الشاهد ـ توجهت الى المعتدي لكي يسلم نفسه، وبما أنني كنت خلفه فقد استدار نحوي مما سمح للشرطي بالهجوم عليه فاشتبكا في عراك ثنائي، فتدخلت بدوري لمساعدة الشرطي والقبض على المعتدي».
ومن جهته قدم الشرطي بنملحة بوشعيب الشهادة التالية: «غادرت منزلي في الساعة الثالثة و15 دقيقة باتجاه مقر عملي، وأنا بشارع كامي دي مولان شاهدت شخصا هاربا وخلفه شخص ثان فيما كانت شاحنة لم أسجل رقمها ـ خلفهما، لما اقترب الجمع مني، سمعت من الشخص المطارد بأن الهارب هاجم شخصا آخر وقد تركه مسجى أرضا، امتطيت دراجتي النارية وطاردت الهارب الذي توجه نحو شارع دانطون واستطعنا محاصرته، تخلصت من دراجتي واتجهت نحو الهارب الذي بدأ منهكا وبمجرد اقترابي منه، حمل حجرا وقذفه باتجاهي، ولما تبين له أنه أخطأ الهدف واصل هربه، وكان كلما توقف لاسترجاع أنفاسه يرميني بالحجر أصابني واحد منه في رجلي إصابة خفيفة» إلى أن توجه العامل بغولف آنفا بالحديث إلى المجرم ثم هاجمه الشرطي واستطاع ضبطه، ثم أوقف سيارة نقله فيها إلى مكان الجريمة، صرح رجل الأمن كذلك بأن >سائق الشاحنة والشخص المرافق له ذهبا إلى حال سبيلهما دون إشعار» وأضاف بأنهما رفضا طلبه بنقل المجرم على متن شاحنتهما (!)
بيت القاتل
في الوقت الذي كانت مواكب المناضلين تحج إلى بيت الشهيد، كان رجال الشرطة يفتشون جحر المجرم· في الساعة الرابعة والنصف من زوال ذلك اليوم، اقتاد العميد بنغموش عبد اللطيف، مرفوقا بمساعديه، المجرم سعيد احمد بندريس الى دكانه بحي سيدي معروف بالبيضاء، وهناك قام رجال الامن بتفتيش «المحل»، وتم حجز عدة كتب ذات طابع ديني منها منار الاسلام، وجاهلية القرن العشرين والمخلص المفيد ومجلة المجتمع وصفحتين من جريدة العلم (ع 8894 الصادر بتاريخ 75/10/30) ومنهاج المسلم.
وبعد الانتهاء من البحث بالدكان في الساعة الخامسة، توجه رجال الشرطة بمعية المعتدي سعيد الى منزل هذا الاخير بحي افريقيا زنقة 32 رقم 20 بالبيضاء، ومن الاشياء «الهامة» التي عثر عليها رجال الامن صفحة كراس سجلت عليها أسماء ثمانية أشخاص هم أوزوكلا، ولد خلطي، خزار، عبد المجيد، حليم، حسن، أحمد، أحمد، كما تم حجز 16 مفتاحا (!!) لائحة الاسماء هذه هي التي ستكون موضع البحث والتحقيق إضافة الى أسماء أخرى سيأتي وقت ذكرها
المجرم الاول سعيد احمد بعد مرور أربعة أيام (!) استمعت الضابطة القضائية يوم 22 دجنبر 1975، في الساعة الخامسة والنصف مساء إلى المعتدي سعيد أحمد بن دريس الذي ألقي عليه القبض من طرف الشهود ورجل الأمن بنملحة «ابتداء من يناير 1975 – يقول القاتل – بدأ النعماني عبد العزيز يتقرب إلي ويحضر معي الى الدروس الدينية المسائية في مختلف المساجد ولا سيما بأحياء بوشنتوف والحي المحمدي ومسجد السنة».
هل كانت الصدفة وحدها التي جعلت النعماني يبدأ في استقطاب سعيد بن ادريس في يناير 1975 في تزامن مع فترة انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي (13/12/11 يناير 1975) والذي لعب فيه عمر بنجلون دور الدينامو النضالي، أهي صدفة مفكر فيها جيدا؟
لن يكون الجواب بالإيجاب بعيدا عن الصواب، عندما ستظهر قرائن أخرى بخصوص «مصادفات» أخرى لها رائحة الدم والخديعة· المهم – هنا – أن النعماني بدأ في شحن القاتل، ودعوته إلى تجنيد شباب آخرين، وتسليمه كتبا دينية تساعده على (الالتزام) وبما أن المدعو النعماني كان يتابع دراسته بكلية الطب بالرباط، فقد اقتصرت زيارته لأخيه على نهاية الاسبوع >ومع بداية رمضان، من تلك السنة، يقول القاتل، بدأ يحدثني عن أشخاص ملحدين (!) أو شيوعيين ينتقدون الدين الاسلامي ولا يؤمنون بالله ناعتا إياهم بالخونة، ثم فجأة اقترح علي إن لم يكن من اللازم تأديبهم جسديا، فأجبته بتأديبهم بعد انذارهم مسبقا وتحذيرهم، رد علي بأنه سيتكلف بتنبيههم كتابيا قبل تأديبهم. قدم لنا عبد العزيز (النعماني) هذين الشخصين باعتبارهما من خيرة المسلمين مرشدين ومعلمين، حدثانا عن وحدة وانسجام المجموعة الاسلامية واحترام المواعيد، كما عينا عبد العزيز النعماني رئيسا لمجموعتنا مكلفا بتسيير اللقاءات ونقل التعليمات في المستقبل».
ويستفاد من تصريحات ابراهيم كمال لدى الشرطة أن التنظيم العام هو الشبيبة الاسلامية «التي أسست لأهداف دينية، لكن مطيع وكمال قررا استغلالها للهجوم على شخصيات سياسية لا تشترك معها في التوجه الايديولوجي». أما مطيع فقد قررالعمل الشخصي بعد عدة نقاشات عاصفة مع قادة الاتحاد الاشتراكي (الاتحاد الوطني سابقا)، وقد كان عبد الكريم مطيع قد انقطع، حسب شهادة الأخ مصطفى القرشاوي عن الحزب ونشاطاته نهائيا سنة 1967.
وذكر مصطفى القرشاوي في تصريحه للشرطة بتاريخ 23 دجنبر 1975 أحد لقاءاته بعبد الكريم مطيع بهدف تسليط الاضواء على شخصية هذا الاخير، وجاء في أقوال الأخ القرشاوي أن عبد الكريم مطيع زاره في نهاية شهر نونبر 1974، بعد الإفراج عن الأخ القرشاوي بشهرين أو ثلاثة، وكان بمعية صديقين آخرين، وخلال هذا اللقاء، انتقد مطيع التوجه الاشتراكي للحزب وسياسته انتقادا حادا، وما كان من القرشاوي إلا الرد عليه، وسرعان ما تكهرب الجو عندما بدأ مطيع يكيل النعوت الجارحة في حق بعض القادة الاتحاديين. كما أن مطيع- يقول الأخ القرشاوي- وجه تهديدات مبطنة إلى قادة الاتحاد، ومما أذكره أنه قال بأن اليوم الذي ستتم فيه تصفية عناصر قيادية لحزبنا، قادم لا محالة- ولما سألته إن كان يتحدث باسمه الخاص أو باسم تنظيم معين أجابني «افهمها كيف بغيت».
خطة وتفاصيل عملية الاغتيال
بعد أن تم القبض على سعيد أحمد بن ادريس، كشف عن انتمائه «الحركي» لمجموعة دينية يرأسها عبد العزيز النعماني، ثم كشف عن أسماء أعضاء الخلية الآخرين، وهم خزار مصطفى بن محمد وخشان عبد المجيد بن عمر واوزوكلا عمر بن محمد وحليم عمر بن محمد ومستقيم محمد بن محمد والعمري احمد بن بوشعيب وشوقي محمد بن عبد الله، إضافة الى النعماني عبد العزيز وكندي حسن واشعيب احمد وجبير حسن.
عقدت عدة اجتماعات في منزل جابر حسن وبدأ النعماني يحرض المجموعة ضد عمر بنجلون، وتم تحديد المجموعة التي أسند إليها تنفيذ العملية، في كل من خزار مصطفى، خشان عبد المجيد اوزوكلا عمر وسعيد أحمد وحليم عمر وكندي حسن وأحمد الرصاص، كلف عمر حليم بتتبع خطوات الشهيد عمر، وقد حكى عن ذلك بقوله: «ليلة الثاني من عيد الأضحى لتلك السنة وحوالي الساعة الخامسة و45 دقيقة زارني سعيد أحمد في بيتي وأهاب بي للاستعداد لعملية أخرى مشابهة للأولى، وقد نصحني بأن أصحب معي غطاء ليليا (مانطا) والالتحاق به في بيته الذي دلني على عنوانه قبل ذلك التاريخ· وضعت الغطاء في حقيبة (ساك) بحوزتي ثم التحقت به حيث وجدته صحبة خشان عبد المجيد، صاحب الدراجة النارية التي جاء سعيد أحمد على متنها، وبعد بضع دقائق من وصولي التحق بنا خزار مصطفى بمنزل سعيد الذي أخذ الكلمة وأخبرنا بتصفية عمر بنجلون»·
تكلف عمر حليم بتتبع خطوات عمر، وتسجيل كل حركاته وسكناته، هكذا وبعد أن قضى الأربعة ليلة الأحد/ الاثنين ببيت المجرم سعيد، غادر حليم عمر حوالي الساعة السابعة صباحا و15 دقيقة، ليتربص بالشهيد أمام بيته بشارع كامي دي مولان، بعد أن كان سعيد قد دله عليه قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام، وصل >زطاط< الجريمة الى المكان المخصص له للتربص، وجد سيارة الشهيد عمر الرونو 16 واقفة أمام الباب· حوالي الساعة التاسعة من ذلك الاثنين غادر، عمر بيته، وركب سيارته متجها نحو قلب البيضاء عبر شارع سكناه، ثم شارع الزرقطوني قبل أن ينعطف يمينا ويوقف السيارة أمام المطبعة· دخل عمر إلى مقر الجريدة وظل حليم عمر يترصده الى حدود الساعة الواحدة بعد الزوال عندما غادر عمر عمله متجها نحو منزله، دخل الدار، في حين بقيت عين يهودا ساهرة أمامها تحدوها الضغينة، اللهم إلا بعض اللحظات الكفيلة بشراء «كاسكروط» من أحد البقالة المجاورين، وفي حدود الساعة الواحدة و45 دقيقة، خرج عمر من جديد، وتقفى خطوه حليم عمر الى أن وصل مكتب المحاماة بشارع باريس، وظل هناك الى أن دقت الساعة السادسة، تفاصيل ذلك الاثنين رواها اوزوكلا عمر، العاطل، بدقة أكبر: >افترقنا يوم الاحد بعد اجتماعنا وتواعدنا على اللقاء يوم الاثنين 12 دجنبر 1975 في الساعة الخامسة مساء بدكان سعيد أحمد الإسكافي بحي سيدي معروف، يومها وصلت متأخرا قليلا عن الموعد، وجدت كلا من سعيد احمد وخشان عبد المجيد وخزار مصطفى الذين آخذوا علي تأخري، أمرني سعيد أحمد بركوب الحافلة بمعية عبد المجيد خشان وتوجهنا الى المحطة الاخيرة بدرب غلف حيث وجدنا حليم عمر على متن دراجة هوندا وادريس الإسكافي راكبا دراجة زرقاء جديدة، امتطيت دراجة حليم وركب خشان دراجة ادريس الإسكافي، توجهنا جميعا الى مكان بالقرب من مدرسة توجد بدورها على بعد بضعة أمتار من منزل عمر بنجلون وهناك وجدنا عبد العزيز النعماني مرفوقا بخزار مصطفى وسعيد أحمد وحسن النجار وأحمد (السودور) لامني عبد العزيز على التأخر ثم كلف حليم عمر بالتوجه الى القرب من منزل عمر والتأكد من وجوده: في تلك الاثناء أهاب بنا عبد العزيز للاستعداد للانتقال الى الفعل الملموس (!) كنت وسعيد أحمد بقضيبين حديديين فيما كان خشان عبد المجيد وخزار مصطفى بسكينين، أما حسن وأحمد وادريس فقد كان دورهم البقاء على أهبة لضمان فرارنا على متن دراجاتهم بعد اغتيال عمر بنجلون، بعد مرور بعض الوقت عاد عمر حليم وأخبرنا بأن عمر بنجلون غائب عن بيته، وكانت الساعة قد قاربت السادسة مساء< وفي الثامنة من ذلك اليوم، أعاد القتلة الكرة مرتين، لكن البصر عاد إليهم خاسئا وهو حسير· ويعود حليم عمر الى بيت سعيد أحمد، ويجتمع رفاق الجريمة على ضلالتهم، قضى المجموعة ليلتها في البيت السئ السمعة، وفي الغد الثلاثاء، عاد حليم عمر الى ترصده·
فوجئ حليم بعدم وجود السيارة، فاتجه الى مقر الجريدة ثم الى مكتب شارع باريس دون ان يسعفه الحظ، وظل يبحث وينتظر الى أن عاد إلى شارع كامي دي مولان ووجدها أمام بيت عمر بن جلون نفس الطريق، نفس المراقبة الى أن غادر عمر مكتبه في الساعة السابعة مساء قافلا الى بيته، ورجع راصده الى حجر الجريمة· يوم الاربعاء 17 دجنبر 1975 صباحا، عاد حليم الى ترصد الشهيد، لم يجد سيارته لا أمام البيت ولا أمام المطبعة ولا أمام المكتب، استبد به القلق الإجرامي وظل يبحث من جديد، الى أن عاد الى شارع دي مولان حوالي الساعة الثانية والنصف بعد الزوال، فوجدها أمام البيت وعمر على وشك ركوبها باتجاه زنقة الجندي روش حيث الجريدة، في الرابعة من نفس اليوم خرج عمر ففقد المتربص خطواته، إلى أن رآه يعود الى بيته في الساعة السادسة إلا ربعا.
التنفيذ كانت الساعة حوالي الثالثة عندما غادر عمر البيت، ثم تقدم نحو سيارته ليفتحها، تقدم منه سعيد أحمد (الإسكافي) من الخلف وانهال عليه بضربات قوية على رأسه، باغتت الضربة عمر الشهيد، فالتفت ليتبين مصدرها، لكنه سقط وظهره الى الارض، حاول أن يدافع عن نفسه بقدميه، وقتها تقدم منه خزار مصطفى وطعنه في صدره طعنتين، ويحكي القاتل تفاصيل الطعنة وما تلا ذلك بالقول: ” صرخ عمر بنجلون وحاول الاشتباك مع سعيد (سعدان) أحمد، فجاء دوري فطعنته طعنتين، وبعدها مباشرة أطلقت ساقي للريح وبيدي سكين الجريمة” ثم تقدم خشان الذي استعمل سكينا أصغر طعن به الشهيد في ظهره· وصل المجرم الهارب الى ملتقى شارع الفيلودروم، فاصطدم بسيارة خضراء اللون، وسقط أرضا، لكنه قام من جديد وواصل هروبه باتجاه الملعب الشرفي، وهناك التحق به حليم عمر ونقله على متن دراجته، لكنه أحس بآلام في يده اليمنى، فاتجه به حليم الى سباتة بسوق كوريا، وهناك نقله الى المسمى حرشي ميلود بن دحمان، >الطبيب< التقليدي بالسوق، كذب المجرمان وقالا بأن الإصابة كانت نتيجة سقوط من أعلى الأدراج الإسمنتية (الدروج) فحص «الطبيب حرشي ميلود يد المجرم وتبين له بأن الإصابة بالغة فنصح حليم عمر بنقل رفيقه الى المستعجلات، في تلك اللحظة أغمي على المصاب، فصب عليه الماء ثم ضمَّد يده الى أن استرجع قواه ووعيه، فركب المجرمان الدراجة النارية واتجها الى منزل السائق حليم ومن ثمة توجها الى بيت القاتل خزار الذي أخذ جلبابا من البيت ثم قصدا بيت المسمى العمري (أحمد بن بوشعيب من مواليد 56 بأولاد سعيد) في «براكة» بسيدي عثمان وهناك اعتقلتهم الشرطة· نفذت الجريمة، فيما كان حليم عمر، وكندي حسن وأحمد السودور يراقبون المكان وينتظرون المنفذين على متن دراجاتهم، ويقلونهم الى جامع السنة، حيث كان عبد العزيز النعماني· غير أن وصول الشاهد حفاظ علال، أفسد هروب القاتل سعيد، الذي ألقي عليه القبض في الحين، بينما استطاع الخمسة الآخرون الفرار بعد أن تخلصوا من سلاح الجريمة· في نفس اليوم، بدأ اعتقال المجرمين (المنفذين)، أحمد سعيد (أوسعدان) وأوزوكلا، وخزار مصطفى وعمر حليم وخرشان عبد المجيد وبقي كندي حسن واشعيب احمد في حالة فرار? وقد ورد في محاضر يوم الجريمة واليوم الموالي لها (75/12/19) أن اسماء، النعماني ومطيع وكمال ابراهيم، وردت في تصريحات المعتقلين، لكن أول سؤال في القضية، يتعلق بالضبط باعتقال هؤلاء الثلاثة، إذ لم يصدر الأمر بالبحث والقبض على المذكورين إلا بعد مرور أزيد من 48 ساعة على تنفيذ الجريمة، كما هو حال عبد العزيز النعماني الذي ورد اسمه على لسان جميع المعتقلين، والذي لم يصدر الأمر باعتقاله من طرف الادارة العامة للأمن الوطني إلا يوم 20 دجنبر 1975، الى حين تمكنه من الفرار، كما تمكن عبد الكريم مطيع وابراهيم كمال الوارد اسماهما في التحقيقات· شخصيات سامية مر شهر تقريبا على تنفيذ العملية قبل أن يتم اعتقال >الحاج< ابراهيم كمال الذي تواتر الحديث عنه من لدن العديد من المعتقلين في ملف الجريمة، وقد وردت على قاضي التحقيق إرسالية من رئاسة الفرقة الجنائية الثالثة، مؤرخة بـ 5 يناير 1976، تخبره فيها بإلقاء القبض على كمال ابراهيم بن عباس >نظرا لوجود قرائن خطيرة ومتواترة من شأنها اتهامه، وجاء في محضر الشرطة (76/1/7) بأن كمال من مواليد الدار البيضاء سنة 1931 متزوج بامرأتين، يمارس مهنة التدريس، وقد ألقي عليه القبض أثناء عودته الى المغرب بعد رحلة قام بها الى إسبانيا بمعية المدعو مطيع· وقد أعطى عدة تفاصيل عن الشبيبة الاسلامية وعلاقته باغتيال الشهيد عمر، ويستنتج من تصريحاته أمام الشرطة أنه >ومطيع قررا استغلال الجمعية لمهاجمة شخصيات سياسية لا يقتسمان معها توجهها الإيديولوجي أو يتهمانها بتغذية مشاعر غير إسلامية< ولعل أخطر ما ورد في أقواله هو ان >مطيع استغل بذكاء السياق العام المتسم بالعداء للإيديولوجيات الماركسية والماوية للبحث عن دعم وسند لجمعيته، وهكذا استفاد بمساعدة مادية ومعنوية من بعض الشخصيات السامية التي كانت تدعم نشاطاته المختفية< قضية الطردين الملغومين وقضية عمر في تقرير هيئة الانصاف والمصالحة تلقت الهيئة مذكرة من حزب الاتحاد الاشتراكي يطلب من خلالها التحري بخصوص محاولة الاغتيال التي تعرض لها عضوان من أعضائه من خلال توصلهما بطردين ملغومين صباح يوم 13 يناير 1973· ويستفاد من المذكرة أن توصلهما بطردين ملغومين صباح يوم 13 يناير 1973· ويستفاد من المذكرة أن الطرد المسلم لمحمد اليازغي قد انفجر بين يديه متسببا في اصابته بجروح خطيرة بينما لم ينفجر الطرد المسلم لعمر بنجلون. تمكنت الهيئة من خلال الاطلاع على الوثائق المتعلقة بهذه القضية من الوقوف على العناصر التالية: التزامن الدقيق لعملية التوصل بالطردين بالرغم من تباين تواريخ ارسالهما، من الرباط بالنسبة لمحمد اليازغي، من الدار البيضاء بالنسبة لعمر بنجلون، استهداف شخصيتين سياسيتين واعلاميتين· تزامن وقائع التوصل بالطردين مع تنفيذ الاعدام في حق الضباط المتورطين في المحاولة الانقلابية لسنة ·1972 ومع أن الهيئة لم تتمكن من الوقوف على عناصر إثبات قاطعة، فقد تكونت لديها قناعة ترجح تورط اجهزة أو مسؤولين امنيين في محاولة تصفية محمد اليازغي وعمر بنجلون· اغتيال عمر بنجلون يستفاد من المذكرة التي توصلت بها الهيئة من الحزب الذي ينتمي إليه، ومن خلال جلسة العمل التي عقدتها مع أفراد من عائلته،
ان الضحية قد اغتيل بالسلاح الابيض في الشارع العمومي على مقربة من بيته في مدينة الدار البيضاء يوم 18 دجنبر 1975، وكان قد تعرض بسبب نشاطه السياسي والنقابي لعدة مضايقات ومتابعات وصدرت في حقه عدة أحكام قضائية منها حكم قاض بالاعدام، كما تمت محاولة تصفيته يوم 13 يناير 1973 بطرد ملغوم تمكن من إبطال مفعوله· بعد تنفيذ الجريمة مباشرة تم إلقاء القبض، بمساعدة مواطنين على أحد القتلة، ثم اعتقل عدد اخر من منفذي الجريمة، فاعلين اصليين كانوا أو مشاركين·
وقد استغرقت المحاكمة زمنا طويلا وعرفت عدة وقائع تبين خلالها ان الشخص الذي لعب دورا أساسيا في تدبير الجريمة وارتكابها لم يقدم إلى العدالة بالرغم من صدور خبر رسمي حول ضبطه، وبالرغم من وجود قرائن حول تواجده داخل التراب الوطني لمدة طويلة بعد ارتكاب الجريمة· كما تبين ان وثائق رسمية قد اختفت من الملف القضائي دون ان تجري المحكمة بحثا في الموضوع، بل ودون ان تستجيب لطلب فتح تحقيق· ويستخلص من ذلك ان التحقيق المجرى في القضية والمحاكمة المنظمة بشأنها لم يكونا مطبوعين بالحياد والتجرد اللازمين، الشيء الذي أدى إلى اقتصار المحاكمة والعقوبة على منفذي الجريمة دون مدبريها، وبالتالي إلى بقاء حلقات مفقودة وملتبسة في القضية رغم بت القضاء فيها· وإن هذه الوقائع والمعطيات تشكل في حد ذاتها قرائن قوية ومتكاملة ومنسجمة على وقوع تدخل مس بسير القضاء وأثر بشكل سلبي على اجراءات البحث والتحقيق والحكم في القضية·
لماذا لم يقدم عبد العزيز النعماني للمحاكمة؟
في أسفل صفحتها الأولى وعلى ستة أعمدة، كتبت جريدة «المحرر» يوم 12 دجنبر 1979، العنوان التالي مرفقا بصورة لعصابة القتلة: «هؤلاء منفذو جريمة اغتيال الشهيد عمر بنجلون، فأين مدبروها؟» العنوان كان واضحا، ويخص القناعة التي لا يرقى إليها شك، والتي عبر عنها بيان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي في الذكرى الأولى لاغتيال الشهيد عمر بنجلون: «إن الحقيقة في قضية اغتيال عمر بن جلون لا يمكن أن تظهر إلا إذا وضعت القضية في إطارها الحقيقي، إطار الجرائم السياسية، فمادامت القضية لم توضع في هذا الإطار، فإن الحقيقة ستعد مبتورة».
ومن الحقائق التي أريد لها أن تظل مبتورة من ملف القضية، إبعاد المتهم عبد العزيز النعماني عن المحاكمة، رغم اعتراف كافة أفراد العصابة بالدور المحوري الذي لعبه في التحريض على اغتيال الشهيد· في الملتمس الكتابي الذي تقدم به دفاع الطرف المدني، تم التأكيد على حقيقة اعتقال عبد العزيز النعماني سنة 1977، وهو على أهبة مغادرة المغرب نحو إسبانيا، واستغرب الدفاع كيف لم يتم تقديم المتهم لا لقاضي التحقيق ولا للمحكمة، رغم كونه موضوع أمر قضائي بإلقاء القبض منذ بداية التحقيق·
وحول هذا الموضوع، وجه الفقيد عبد الرحيم بوعبيد رسالة الى رئيس غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، يؤكد فيها «اعتقال عبد العزيز النعماني من طرف الشرطة»، وتضيف الرسالة: «وقد أخبرت بهذا الحادث من طرف السلطات العليا في بلادنا المكلفة بمتابعة المجرمين والسهر على أمن المواطنين< واعتبر الفقيد عبد الرحيم بوعبيد ان إلقاء القبض على النعماني: >كان من شأنه أن يوضح ما كان وما ظل غامضا ومتسما باللبس وبعدة احتمالات»، واختتم الفقيد رسالته الى المحكمة بهذه الفقرة الغنية الدلالات: «إن عدم مثول المسمى عبد العزيز النعماني أمام محكمتكم يجعل من هذه المحاكمة، محاكمة تدعو الى السخرية والهزل، ذلك أن الاشخاص الذين أمروا بارتكاب هذه الجريمة الشنعاء لم يقدموا للمحكمة حتى تتوفر للقضاء كل العناصر الضرورية للكشف عن الحقيقة وإصدار حكم عادل في هذه القضية< وتجدر الإشارة كذلك الى أن جريدة «المحرر»، كانت قد أخبرت بإلقاء القبض على المسمى عبد العزيز النعماني بعددها الصادر يوم 16 يناير 1977، دون أن يصدر أي تكذيب لهذا الخبر من طرف السلطات المختصة، بسبب هذا، اعتبرت الاطراف المدنية أن عدم مثول المسمى النعماني أمام المحكمة، «يشكل عرقلة خطيرة لسير العمل القضائي وإهانة للعدالة، ويجعل من هذه المحاكمة في شكلها الحالي محاكمة صورية».
وقد طالب الاستاذان محمد الناصري وعبد الرحيم برادة في الملتمس الكتابي بإيقاف مناقشة جوهر القضية حتى تقديم المسمى النعماني أمام المحكمة· صدق حدس الفقيد عبد الرحيم بوعبيد حين اعتبر في رسالته الى المحكمة أن مجريات البت في جريمة اغتيال الشهيد عمر «يجعل من هذه المحاكمة، محاكمة تدعو الى السخرية والهزل»، ذلك «أن الاشخاص الذين أمروا بارتكاب هذه الجريمة الشنعاء لم يقدموا إلى المحاكمة».
نشرت بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ : 18/دجنبر /2020