حوار مع مصطفى لمودن الفاعل التربوي والثقافي من مدينة سيدي سليمان
حاوره الكاتب والمهندس الحسين بوخرطة
إن المغرب، بخصوصيته السياسية والثقافية، يعتبر قطر دولة، من الأقطار الإقليمية والجهوية، الذي يتنبأ له المنتظم الدولي بإمكانية النجاح في ترسيخ مقومات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. إن التميز بهذا الرهان لا يمكن الحديث عنه وإقراره إعلاميا إلا بتعبيد الطريق بشكل نهائي لمسار تحقيق التراكمات في هذا المجال بالعمل على واجهتين أساسيتين، الأولى تتجلى في الاستجابة لحاجة الوطن إلى تفاعل قوي ومنتج بين التربية والتعليم والثقافة، والثاني في حاجة تخصيب العمل السياسي بمنطق بناء يتيح تعميم الآليات الكفيلة بربط انتقاء مناصب المسؤولية ومصادر القرار ومحيطهما الفاعل سياسيا وإداريا بالكفاءة والمسؤولية والخبرة والتجربة وحب الوطن. فإذا كانت الأولى تفرض الحاجة إلى ارتقاء القراءة والكتابة إلى مستوى انشغال دائم وأساسي في حياة الأجيال المتعاقبة، فإن الثانية تتطلب المرور إلى مرحلة سياسية متطورة تربط بين هاجس استمرارية الدولة وربط تلاحمها مع المجتمع بالقدرة على تحقيق نجاعة التدبير التنموي الدائم في إطار نسق التقائية قوية بين السلطة المركزية بأبعادها السيادية والسلطتين الترابيتين اللامتمركزة واللامركزية بأبعادها التنموية (الجماعة والإقليم والجهة).
فموازاة مع هذه المطالب الملحة، لا أحد يجادل أن البلاد في العهد الجديد قد قطعت أشواطا واضحة في عدة مجالات حيوية، وأن الفضل يرجع في ذلك إلى كون التراب الوطني يزخر بالكفاءات والفعاليات في مختلف المجالات والمستويات الترابية إلى درجة سمحت نسبيا بتكريس نوع من التفاعل المجتمعي المتوازن في الواقع الترابي بين المركز والهوامش، تفاعل أضعف عقدة الرباط والدار البيضاء، وبخس حلم النخب إلى الانتقال إليهما، لتتاح الفرص المتعددة والآفاق المتنوعة في عدة مجالات. إنه البروز الذي أتاحه توسيع هوامش الفعل المؤسساتي والإعلامي أمام نخب المدن والقرى البعيدة.
في نفس الوقت، أمام الإرهاصات المشوبة بالتفاؤل في بناء غد أفضل، لا زالت البلاد تعاني من ضعف الأداء التنفيذي والانتداب الترابي بفعل وجود خلل في آليات التنخيب لمناصب المسؤولية، وملامسة نوع من التقاعس في الحسم في آليات تقوية التقائية الإرادات الإصلاحية المندمجة مجاليا وقطاعيا، التقائية تجعل الجماعات الترابية أكثر التصاقا بهدف تحويل العقلانية المرسخة للمدنية إلى صفة دائمة للدولة المغربية من خلال جعل شعار “تحدي القراءة والكتابة بمختلف اللغات” إلى واقع ملموس ودائم في أوساط الطفولة والشباب والكبار.
في هذا السياق، لا يمكن تغييب صفة البروز الثقافي والأدبي والفكري والإعلامي والعلمي والإداري لعدد كبير من الفاعلين ترابيا، منهم الأستاذ مصطفى لمودن الذي أحاوره اليوم وآخرين كثر، بروز فاعل وذي مردودية نافعة تتم إثارته ليس من أجل التباهي، بل هو اعتراف بما يبذل من جهد في خدمة المجتمعات الترابية خارج وظائفهم الرسمية، وما يعبرون عنه بشكل دائم من حب للوطن. إنه الجهد الذي لا يمكن اعتباره إلا ترجمة للتشبث بواجبات الانتماء إلى المغرب الأقصى الذي حافظ على خصوصيته الحضارية، وطورها باستمرار حتى في المراحل الهائلة التي كان محاطا بالمخاوف والتحديات الصعبة، جهد يبذلونه، بدون انتظار المقابل مصحوبا بتضحيات مادية ومعنوية، بمعية فعاليات أكثر بروزا محليا ووطنيا. إن هذا الاعتراف، وضرورة البوح به بالصدق المطلوب، ما هو إلا طموح في تحقيق توسيع مجال الفعل الثقافي الاعتيادي الترابي ليشمل كل الطاقات الأدبية والفكرية والمهنية والفنية والإعلامية، وبالتالي الوصول إلى ترجيح كفة الكفاءة والمسؤولية في الفعل التنموي لتضمن قوة فعل صامدة أمام الزوابع والمكائد المفتعلة، قوة لا يمكن أن يعرقلها أي اختلاف في الرؤى حتى ولو كانت إيديولوجية.
لهذه الاعتبارات، وأخرى عديدة، وجدتني مضطرا للبوح الصريح والواضح بانشغالي منذ سنوات بطرح إشكالية ترسيخ العقلانية متشبثا بأمل تحقيق حلم الحسم النهائي في صفة المدنية والحداثة بالنسبة لبلادنا، إشكالية يرتبط مآلها والإجابة على فرضياتها المعقدة بطبيعة جدلية التعليمي والتربوي والثقافي.
طموحا في إشراك الفعاليات المحلية من مدينة سيدي سليمان في مناقشة هذا الموضوع كورش مفتوح، الذي أعتبره حيويا وجوهريا في حياة الشعوب، أستضيف هذه المرة، كما أشرت إلى ذلك أعلاه، الأديب والمثقف مصطفى لمودن. إنه مدرس، حاصل على الإجازة في الفلسفة، يكتب القصة والرواية وقصص الأطفال، فاعل جمعوي.. من مؤلفاته،”نزيل في التراب”؛ مجموعة قصصية، “شاي وشجون”؛ مجموعة قصصية، “خيول لا تصهل”؛ رواية. أما القصص الخاصة بالأطفال فتنشر أحيانا على مجلة “العربي الصغير” “الكوتية”.
إن تقاسمنا فكرة تركيز النقاش حول الحاجة إلى تقوية علاقة المدرسة والتعليم والتربية والسياسات العمومية بالقراءة، وتنوع الرؤى، وتشخيص الصعوبات، واقتراح الحلول.. ووجهات نظر في الشأن الثقافي على المستوى الوطني والمحلي، هو نابع من اعتقاد مشترك بكون التعليم المدني المثبت لمكانة العقل عند الأجيال، واقتران ذلك بتحويل هدف ترسيخ التسامح إلى واقع في ثقافة وحياة الأمة المغربية، يبقى مرهونا إلى حد بعيد بتطعيم الإرادة السياسية رسميا، وباستعجال، بتحويل القراءة والكتابة إلى انشغال دائم عند الأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة المختلفة والمتنوعة، وارتقائه إلى مشروع قار، ثابت وواضح المعالم، يتم تحيينه وتطويره حسب التحولات الكونية في إطار نسق مؤسساتي وطني بمؤهلات لا تسمح بالتقاعس أو البطء في إيصال وثيرة تراكم الجهود الإدارية والتمثيلية إلى مستوياتها القصوى، محتكمة في ذلك لمنطق معبر عن درجة عالية من الاستحقاق لرفع تحدي الوصول إلى ريادة وطن وأمة، ذات خصوصية إقليمية وجهوية في مجالي العقلانية والحداثة.
السؤال الأول: هل تعطش الطفل أو الشاب لكتابة القصة القصيرة يمكن أن يحوله بفعل التراكمات التعبيرية والبلاغية واللغوية إلى كاتب محترف؟
الجواب: علينا أن نتأكد أولا من هذا “التعطش”، هل هو متوفر فعلا، إذا كان كذلك، فالباقي يسهل. لعل الهاجس الذي يجب أن نستحضره أولا، هو كيف نوجه الطفل والشاب ليقرأ.. أن يكتشف القراءة بما تحمله من لذة، وتكوين، واختصار التعرف على العالم والذات والمجتمع.. بعد ذلك، قد تظهر الرغبة في الكتابة، أو تبزغ موهبة.. وليس بالضرورة أن يقود التكوين في اللغة إلى تشكيل كاتب(ة) في مجال معين. التكوين ضروري، ولكن لصقل الموهبة..
السؤال الثاني: هل يرتبط إتقان كتابة القصة القصيرة، تقنيا ولغويا، بمرحلة عمرية منهجية يتعود من خلالها الطفل على القراءة ؟
ما هي التقنيات المنهجية لهذا التعويد وما دور الأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة في تحقيقه؟
الجواب: في حالات نادرة يمكن للطفل أن يكتب القصة بالمواصفات المتعارف عليها، إلا إذا توفرت موهبة خارقة، وتعوّد على القراءة منذ “نعومة الأظافر”! يمكن أن يجرب، ويخطو، وبعد صبر ومثابرة وتدريب، قد يصبح قادرا على الكتابة في مجال القصة.
وأعتقد أنه إذا توفرت بعض الشروط، يمكن أن يكتب الإنسان أدبا خارقا في سن العشرين..ليست هناك وصفات سحرية لإنتاج الكتّاب، ولكن الأساسي هو التحفيز الذكي والخفي، حيث إن الموهبة مقرونة بالرغبة، وذلك يرتبط بتحقيق ذات الفرد وسط محيط معين.. ثم أن يجد المعني التشجيع والاعتراف..
يمكن للأسرة أن تلعب دورا مهما في “تخريج” أديب، هي شبه مقامرة، حيث ليس الأمر برغبة أحد، ولكنه مقرون بنزوع ذاتي من أجل الإبداع والتواصل مع الآخرين بتلك الطريقة.. قد يكون المبدع في مجال الأدب غير “سوي”، أي ليس كالآخرين.. وهنا المفارقة. وأصلا يجب طرح تساؤل ضروري؛ لماذا الكتابة؟ الجواب عند المعني بالأمر فقط.
كما يمكن للمدرسة أن تقوم بنفس الدور أو أكثر، مادامت مؤسسة للتنشئة والتربية، ومادامت تجمع الأقران، ولعل تنافسهم فيما بينهم قد يكون حافزا للبعض على المضي في الكتابة.
كيف ذلك؟ هذا سؤال مهم، يرتبط بغايات المقرر والمنهج، طريقة تعامل المدرسين وقناعاتهم وخبراتهم.. لكن مدرسة بدون مكتبة منفتحة على المتعلمين، ودون أنشطة موازية في مجال الفن عموما، لا يمكن الحديث في مثل هذا الوضع عن أي أفق ناجح كي يتوفر كاتب(ة) أو أكثر انطلاقا مما في مدرسة تعاني عدة مشاكل ونواقص.
بعد تغيير مقرر ومنهجية تدريس العربية والفرنسية في الابتدائي مؤخرا، حيث تم التركيز على تداول اللغة واستعمالها عوض الاهتمام بالقواعد، يمكن انتظار شيء ما، غير أن النقص في مجال التكوين للأساتذة، وعدم الانفتاح على القراءة والأدب بصفة عامة، قد يحوّل تلك الدروس إلى عمل ببغائي روتيني سطحي.
وينتظر المدرسة الكثير كي تصلح أعطابها المتراكمة..
السؤال الثالث: لا خلاف أن اكتساب اللغات وتعابيرها الجذابة وبلاغتها المقنعة هي الآلية الوحيدة لتسويق المعارف بمختلف أنواعها والمنتوجات الاقتصادية من جهة، وتعميم القيم الإنسانية بروحها الفكري والثقافي من جهة أخرى. سواء كان الهدف من الغنى اللغوي اقتصاديا أو قيميا إنسانيا أو ذاتيا يسعى من وراءه المرء إلى إبراز موقعه الثقافي الشرعي مجتمعيا، هل مؤسسات التنشئة ببلادنا تعطي لهذا الرهان أولوية في مشاريع المجتمع والدولة لتنشئة الأجيال؟ وهل للمثقفين انشغالات مشتركة في هذا المجال?
الجواب: يصعب أن أجيب عن ما لا علم لي به، وما فوق طاقتي.. غير أن أهم مبتغى لتدريس اللغة والتمكن منها عبر مراحل وبطرق بيداغوجية، هو تحصيل إمكانية التواصل.. ولهذا معنى واسع، سواء في ما يخص التعرف على الثرات، وهو مجال مثقل بالمؤثرات على الحاضر والمستقبل. أو التواصل مع المحيط بأشكاله، بما في ذلك المساهمة في إنتاج شيء مادي أو معنوي.. ناهيك عن التنشئة أو ما يشار إليه بالقيم. فاللغة هي الأساس لإيصال المفاهيم، ثم للتأثير على السلوك. ولكن اللغة لا تكفي وحدها في هذا المجال، بل يتطلب الأمر “نماذج” تحيا وتعيش بيننا، يمكن البناء على منوالها، وإلا تحولت “التنشئة” إلى لَغْـوِ وملهاة.. وحتى نبقى في المجال الذي بدأنا فيه حديثنا، وهو الكتابة؛ فلا تستقيم بدون التمكن من اللغة.. وطبعا ليس الاكتفاء بلغة وحيدة. إن تعدد اللغات مكسب وانفتاح ورافد..
السؤال الرابع: ما تقييمكم لما يعرف وزاريا بتحدي القراءة العربي بجوازاته الخمس ومعيار قراءة خمسين كتاب أو قصة أو رواية؟
الجواب: المسابقة من وضع ورعاية دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تشمل العالم العربي بكامله (لمن يرغب من الدول)، تجد التشجيع من طرف السلطات التربوية المغربية، والمسابقة تدخل فعلا في إطار “التحدي”، أي إنجاز ما هو أصعب، خاصة وأنها تهم الأطفال واليافعين، ولا يمكن أن تنجح سوى بمساهمة المدرسة وهيأة التدريس وأستاذ(ة) مشرف. وسبق قبل سنتين أن وصلت إحدى تلميذاتي إلى المرحلة النهائية على المستوى الوطني، وقد عاشت التلميذة تجربة لن تنساها، وستظل محفزة لها على القراءة، وما حققته كان تتويجا مستحقا لمجهود لا يستهان به.. لكن، لظاهرة هذه المسابقة التي يتم التخطيط لها والإقبال عليها وجْهٌ آخر.
أولا، في ظل وضع المدرسة كما هي عليه، ليس لها كثير تأثير على إعداد المترشحين وتأهيلهم إلى مواقع متقدمة.. إنما يكون جل الفضل للأسرة، هي مَن توّفر الكتب، وترعى الطفل. أما المدرسة، فلا يمكنها ذلك مطلقا، لعدة اعتبارات، منها عدم توفر الكتب اللازمة التي تحقق شرط المشاركة، عدم توفر الوقت والحصص الخاصة بذلك، فحتى الأستاذ(ة) المشرف يجد صعوبة في المواكبة والتأطير داخل المؤسسة.
غير أن هذه الجائزة، يجب أن تكون محفزة لنا لننظم مسابقات مماثلة وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا، تشمل عدة فئات عمرية، مع توفير المجال والكتب والوقت ضمن الزمن المدرسي الفعلي. وأن يكون للمسابقة غرض تربوي وتكويني وليس بالضرورة مجرد التسابق على نيل جائزة يقابلها مقدار مالي مهم.
السؤال الخامس: المؤسسات هي انعكاس للوعي المجتمعي. كما يمكن للدولة، بمنطق استباقي، أن تعبر عن إرادة قيادة التغيير بتحولاته المطلوبة بخلق مجتمع قارئ، أو تختار التقاعس في ذلك. في وضعنا المغربي، هل لديكم نظرة تشخيصية للأوضاع، تستحضر المكونات المجتمعية أفرادا وجماعات ومنظمات، ترجح كفة التفاؤل في خلق أجيال قارئة ومبدعة فكريا وفنيا بآليتي اللغات وتقنيات التواصل والتفاوض؟ هل تعبيد سكة التقدم المعصرن للدولة بأجيال الشعب المغربي الصاعدة يمكن أن يتحقق بضغط مجتمعي لوحده، أو بتفاعل تعاوني مندمج مع المؤسسات، أو يحتاج إلى دولة قوية تبلور منطق التغيير على أساس هاجس الاستمرارية؟
الجواب: الجواب عن هذا السؤال يهم القائمين على شؤون التعليم. فهم الأدرى بالأمر حينما يضعون المقررات والمناهج، ويحددون الأولويات.. كما سبق أن ذكرتُ تعرِفُ المدرسة عدة معوقات هيكلية، من ذلك عدم توفر المكتبات، وحتى إن توفرت ليست هناك طريقة للاستفادة منها، بسبب كثرة المواد التي تشحن الزمن المدرسي برمته، حتى إنه لا يوجد وقت للأنشطة الترفيهية ذات المنحى التربوي، رغم بروز تغيّر طفيف في المقرر مؤخرا، وهو تخصيص حيز للتعبير الشفهي وتقديم “المشروع” الشخصي للمتعلم(ة)، والذي يمكن أن يتحول الى مشروع فريق بعد جلاء جائحة كورونا.. ورغم ذلك، سيبقى هناك نقص عند المدرسة على تشجيع القراءة، مادام غير منصوص على ذلك ضمن استعمال الزمن وقائمة المواد.. لهذا، لما جاءت مسابقة “تحدي القراءة” ظهر أن هناك فراغ مهول، لولا ما وفرته الأسر لأبنائها وبناتها الذين تخطوا المراحل ووصلوا الى النهائيات على المستوى الوطني أو النهائي في دولة الإمارات. غير أن موضوع القراءة لا يجب أن ينحصر في المدرسة رغم أهميتها، ولكن يهم متدخلين آخرين كذلك، كل حسب تخصصه، كوزارة الثقافة والشباب والرياضة، الإعلام، الجماعات المحلية، المجتمع المدني.. الخ. ما طرحتَهُ حول مساهمة “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” فكرة مناسبة، غير أن “المبادرة” حسب علمي تدعّم ما تشاء حسب أولوية خاصة، وإذا كانت الثقافة تدخل في اهتمامها، يمكن للمجتمع المدني أن يتقدم بمشاريع، حينذاك سنرى هل يمكن دعم الثقافة والمقروئية.
السؤال السادس: ما تعقيبكم على العبارة التالية: “الطفل بريء وصفحة بيضاء وتعويده بالشغف المطلوب على القراءة والكتابة مرتبط أشد الارتباط بالتربية بالقدرة، أي قدرة الكبار في الأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة”؟
الجواب: دائما الطفل يأتي وِفق الطبيعة، أي هو كائن يأتي إلى العالم ليتعلم، الطفل ابن بيئته، طبيعي أن يكون أولا تحت رحمة والديه، أي هما مَن يرسّخان لديه أولا عادات إيجابية أو سلبية، وبالتالي فمسؤولية الأسرة تظل ثابتة في التنشئة الاجتماعية والثقافية للطفل. من هنا يطرح التساؤل التالي؛ أي أسرة نريد لأي طفل؟ ما معناه أن الأسرة هي السابقة في الوجود والمسؤولية، وبالتالي يجب أن يحصل الوعي بالمسؤولية تجاه الأبناء لدى الآباء والمقربين. غير أن واقع الحال شيء آخر. إذا كانت الغالبية العظمى من الآباء تسعى لخير الأبناء، فكيف يكون ذلك؟
لا توجد توجيهات نموذجية، ولكن المستوى الثقافي والمادي للأسرة يكون له تأثير إيجابي على التنشئة، في حالة التتبع والمراقبة، وتوفير الحاجيات الضرورية.. بشرط تحديد الأهداف بدقة، وتتبع مسار تربوي مناسب. وهذا لا يعني أنه لا حظّ للفقراء في النجاح والتنشئة المناسبة، بل بالعكس، قد نجد عند أبناء هذه الفئة رغبة أكبر للتحدي. ولكن الصعوبات التي تعترضهم لا يمكن إغفالها.. هل جميع الأسر تتوفر على مكتبة وحاسوب وارتباط بشبكة الانترنيت…؟ وعلى فضاء مناسب للأطفال داخل المنزل؟
السؤال السابع: ألا ترون أن مجتمعنا يحتاج رعاية مؤسساتية لتأهيل الأسرة وارتقاء مؤسسة الزواج بمنطق إنتاج أجيال الكفاءة والمهارة؟ ماذا تقترحون في هذه النقطة بالذات؟
الجواب: نعم، ذلك هو المطلوب، حتى لا نبقى ندور في حلقة مفرغة. ولعل ما يراكمه التعليم وهو يتوسع ليشمل تقريبا جميع فئات المجتمع، يمكن أن يحقق تراكما في هذا الشأن، رغم بعض السلبيات التي تسجل على مجال التعليم عموما.
كما أن تحصيل المرأة (الأم) على مستوى تعليمي مناسب، كفيل بإيجاد القطيعة على مراحل مع مجموعة من السلبيات التي يعرفها المجتمع. وطبعا يمكن لبعض المؤسسات أن تساهم في معاونة الآباء على تفهم أبنائهم، والسير معهم بمهل كي يكونوا نساء ورجال الغد المقتدرين..
يمكن لمؤسسات عمومية أن تقوم بذلك، شريطة توفر الإرادة والخطة والكفاءات البشرية، ويمكن ذكر كل الإدارات الحكومية التي تعنى بالمرأة والطفل.. كما يمكن التطرق لأمر مغيب للأسف، وذلك نتيجة تراكم توجهات سلبية، أعني به غياب الجماعات المحلية المنتخبة في مجال التربية والثقافة، لا تقوم بدورها نهائيا، يمكن أن نقارن بمسؤوليات الجماعات المنتخبة بمختلف درجاتها في فرنسا.. وطبعا، فهي هناك تتوصل بحقوقها المالية من المداخيل الضريبية، والمنتخبون يتحملون مسؤوليتهم أمام الشعب والقضاء والإدارة الوصية.
ويمكن ذكر الإعلام بأشكاله، فرغم أن هناك مجهودات على مستوى بعض الإذاعات والقنوات التلفزية، غير ذلك لا يصل إلى المستوى المطلوب في ظل الخصاص الهائل.
السؤال الثامن: ـ هل هناك تميز للمؤسسات التعليمية بشقيها التربوي/التعليمي والتدبيري بإقليم سيدي سليمان بشكل عام وعاصمته بشكل خاص في التعاطي مع قضايا الطفولة خاصة الحق في تنمية مهارة القراءة والكتابة؟
الجواب: يصعب أن أدلو برأي قاطع في هذا الشأن، حيث لا أتوفر على معطيات، ولست في موقع المسؤولية.. ما يهم الشأن التعليمي في ما يخص القراءة، يكاد أن يكون شاملا؛ لنبدأ بسلك الابتدائي، وقد تحدثت سابقا عنه، يعرف مشاكل بنيوية، منها عدم توفر الزمن للقراءة الخاصة في الكتب والمجلات، واستغلال ذلك في المسار الدراسي. عدم توفر المكتبات، وحتى إن وجدت ببعض المؤسسات، فلا توجد طريقة مناسبة لاستغلالها، يبقى بعض المدرسين، يقومون بمبادرات لتشجيع القراءة، كلٌّ على مستوى قسمه.. أمّا ما يتم الحديث عنه من دور “الأندية” التربوية، فمجرد كلام وحبر على الورق..
ربما يبقى سلك الإعدادي والثانوي أحسن حالا، بتوفرهما على بعض البنيات، وأحيانا تكون بعض “الأندية” نشيطة نسبيا، وبعض المرّات تنظم مؤسسات تعليمية في الإقليم أسبوعا ثقافيا وتربويا، وسبق أن حظيت بدعوات كريمة للإشراف على ورشات في كتابة القصة، ورأيت ذلك..
لكن، للأسف، لا يوجد من يشرف على ما هو ثقافي انطلاقا من المديرية بتصوُّرِ مقنع، للتعاون مع “الأندية” وتنظيم الأوراش، والاستفادة من الكفاءات التي يتوفر عليها الأساتذة، وتنظيم مسابقات وأنشطة ثقافية مختلفة.. يكون حصادها يوم تتويج المتفوقين على المستوى الإقليمي.
السؤال التاسع: ـ لقد واكبتكم طوال مساركم التعليمي والثقافي والإعلامي عدة برامج ومخططات لإصلاح التعليم. هل تلامسون على المستويين الرسمي (المؤسسات) والمجتمعي (الفعاليات ونخب التنشيط المجتمعي) أن هناك تطور نظري (البرامج) وميداني (التنفيذ) في منطق الفعل العمومي يسعى إلى تحقيق “المجتمع المغربي القارئ”؟
الجواب: انخرطت في هذا القطاع منذ 1985، واكبت عدة تحولات، لعلها لامست الكمّ، سواء من حيث توفير البنية الأساسية، من مؤسسات ومقررات وكتب مدرسية.. وتوفير الأطر من مدرسين وإداريين ومفتشين.. لكن، ظل الكيف مغيّبا، لعل حداثة المدرسة عندنا والتي انطلقت بطابعها الوطني الرسمي بعد الاستقلال مباشرة، وتأخرنا كثيرا في التعميم. وبذلك مازال ينتظرنا الكثير على مستوى الجوْدة، مع الحفاظ على المكتسبات. ولعل المدرسة والتعليم عموما يعاني نتيجة “توافقات” معلنة أو غير معلنة، لهذا نجد ثقلا لحضور الماضي وطابع الوعظ في المقررات، عوض الانفتاح على متطلبات العصر، وما ينتظر الجيل الحالي من رهانات كثيرة.
على مستوى دعم القراءة، لا أظن أنه وقع تقدم في هذا الشأن على مستوى دعم “القراءة الخاصة” غير المرتبطة بالمقرر، وهذه معضلة كبيرة، سوى ما تقوم به بعض الجمعيات هنا وهناك، تبقى نادرة وليست ذات تأثير كبير..
السؤال العاشر: ما تقييمكم لأداء وزارة التعليم الحالية، التي واكبت آفة الكورونا بإكراهاتها، و”تحدي القراءة المغربي المفترض”؟
الجواب: سؤال مهم وجدير بالنقاش، حيث لا أحد في حدود علمي أثار الموضوع بجدية تقتضيها الظرفية. ويمكن الحديث عن الإجراءات المتخذة في عموميتها أولا. فبعد اختيار “التعليم عن بعد” الذي كان حلا اضطراريا، ظهرت الكثير من سلبياته، وبعد استئناف السنة الدراسية، ظهر أن التعليم الحضوري (ربما) هو الأهم والأنفع، وأنا مع هذا التوجه، خاصة بالنسبة لسلك التعليم الابتدائي، والذي يتطلب التعامل المباشر للأستاذ مع المتعلم(ة)، وكان ضروريا اتخاذ الاحتياطات، باللجوء إلى التفييء والتناوب.. وهذا أتاح الفرصة لتعليم لم يسبق أن طبّق، وهو التعامل مع قلة مناسبة من التلاميذ، تترواح ما بين 15 و22 متعلم (ة).. ولكن، مِن سلبياته، السير البطيء للدروس، حيث يدرس المتعلمون نصف حصة، وما يسمى “التعلم الذاتي” غير ممكن في الغالب.. وما كان ليحدث مشكل لولا الإبقاء على مواعيد “المراقبة المستمرة” كما هي! مما يثير فعلا الاستغراب..
الأمر الثاني، يتعلق بالقراءة عموما، يمكن الحديث عن نفس الشروط التي ظلت كما هي في علاقتها بالمقرر المثقل بالمواد الكثيرة. أما على مستوى “تحدي القراءة”، أي المشاركة في المسابقة، فسيبقى نفس الشرط، وهو إشراف مدرس(ة) على الفرز المحلي، ومنه إلى الفرز على مستوى الإقليمي، ثم الجهة، فالمسابقة الوطنية، إذا رغب المسؤولون في الانخراط هذه السنة كذلك.
السؤال الحادي عشر: لقد تعاقب إلى اليوم ثلاثة مسؤولين على السلطة الإقليمية لوزارة التربية والتعليم بسيدي سليمان(سيدتان والمدير الحالي). باستحضار تجربتكم وخبرتكم، ما تقييمكم لحصيلة كل واحد منهم في مجال التعاطي مع جدلية التعليمي والتربوي والثقافي على مستوى إقليم سيدي سليمان؟ هل من تراكمات في هذا المجال الحيوي، أم أن هناك إرهاصات واضحة للبدء في هذا المشروع؟
الجواب: يصعب أن أعطي تقييما موضوعيا في شأن لا أتوفر فيه على المعطيات، غير أن مديرية التعليم بسيدي سليمان، حديثة التشكل، وبالتالي مرت بمرحلة التأسيس والهيكلة. ويمكن الآن الحديث عن النتائج المستخلصة بعد انقضاء مدة ليست بالقصيرة. لكن، يستحيل اقتطاع “جزيرة” سيدي سليمان من المعطى الوطني بإيجابياته وسلبياته..
بصفة عامة يمكن ذكر بعض الملاحظات؛ لحد الآن لا زالت مديرية التعليم بدون مقر خاص بها، حيث اقتطعت لها جزءً من مدرسة، ونقلت بعض المهام لمدرسة أخرى بعد إغلاقها. كما أنها (المديرية) لا تتوفر على قاعات للعروض والندوات، وتستعمل قاعة أعراس لحفل التميز السنوي! لا يعرف بالضبط كيف تقع تعيينات داخلها.. ولا أرى أن للمديرية مشروعا ثقافيا تنجزه أو تشرف عليه، فقط ما تجتهد فيه بعض “الأندية” وبعض المؤسسات التعليمية.. ويمكن للمديرية أن تنجز الكثير في هذا المجال، منه إصدار موقع إلكتروني، يبرز كفاءات المدرسين والمتعلمين، واجتهاد المؤسسات التعليمية، كما يمكن أن يكون الموقع مرجعا تواصليا على مستوى الإقليم، يهم الأساتذة والأولياء والمؤسسات التعليمية، وكل من يرغب في الإطلاع على ما يقوم به قطاع التعليم..
بالنسبة لي، فضلت المغادرة والتقاعد قبل الأوان بسنوات كثيرة، ولعل في ذلك إجابة عن بعض التساؤلات..
السؤال الثاني عشر: هناك من يدفع أن جزء من الضغط على فرامل العرقلة للمسار الإصلاحي للتربية والتعليم يتحمله رجال التعليم أنفسهم؟
الجواب: لا يمكن الحديث عن منظومة التربية والتعليم بفصل الطاقم البشري عنها، وأي تقييم في هذا الشأن، وحتى يكون موضوعيا، يقتضي توفير الحقوق وضمانها، إلى جانب القيام بالواجب والإبداع فيه بتفان، الأمران متلازمان، وأي اتهام للمدرسين في شأن فرملة مفترضة للمسار الإصلاحي، يتطلب توضيح ذلك، وذكر التفاصيل، وليس أي اتهام مجاني. ولكن، ليكون دور المدرسين إيجابيا، لا بد من تلقيهم تكوينا مناسبا، ذلك بدوره حق، ومن أدوات العمل، ثم ضمان شروط عمل مناسبة، خذ مثلا سلك الابتدائي الذي أعمل ضمنه، كيف يتصرف المدرس مع كثرة المواد والاكتظاظ وانعدام الوسائل التعليمية وعدم ملاءمة فضاء المؤسسة؟
السؤال الثالث عشر: ما تقييمكم للوضع الثقافي بمدينة سيدي سليمان مقارنة مع المدن المغربية بمختلف أحجامها؟
الجواب: سؤال يجعلني أضرب كفا على كف، وأنا أحاول الإجابة عنه. ما القصد بالثقافة؟ كل يراها من وجهة نظره الخاصة، وكيفما كان الحال، فهذا المفهوم واسع، يمكن أن يشمل قراءة كتاب، إلى عرض مسرحي وسينمائي، مرورا بالتشكيل والندوات والموسيقى. ثم الفرجة والفلكلور والغناء والطبخ الخ. وبالتالي، فالأمر يتطلب بنيات ثقافية مناسبة، وأطرا متفرغة، وموارد مالية.. ويمكن للثقافة أن تساهم بدورها في تمويل ذاتها بذاتها، حتى لا يعتقد البعض أنها مجرد “متسولة” تنتظر الإعانة والدعم، رغم أنه يُفترض أن تكون ضمن الأولويات.
لا تستقيم مجتمعات سليمة بدون ثقافة، على الجميع أن يعي هذه المعادلة، الثقافة تساهم في تنشئة المواطن(ة) السويّ والمسؤول والمقدِّر لدوْره والمحدّد لمكانته في الزمان والمكان.. ناهيك عن سَلاسِة الحياة ومُجارات انعراجاتها ومفاجآتها، يكونُ المثقف الأقدر استعدادا لذلك، والمُتهيئ لكل الاحتمالات.
من حيث البنيات، فقَدَت الثقافة بسيدي سليمان موقعا مهما، متمثلا في مقر البلدية السابق، والذي تحول إلى عمالة، كانت به قاعة تاريخية لها منصة، تستقبل جل الأنشطة الثقافية بالمدينة.. ورغم أن الجماعة الحضرية استردت البناية، لكن القاعة فُقدت نهائيا.
تتوفر المدينة على دار الشباب وحيدة، رغم توسع المدينة، وتنقص هذه الدار أشياء كثيرة. وبالمدينة بناية يسمونها الخزانة البلدية، لم تعد خزانة للكتب، بل مجرد قاعة جرداء. وهناك عملية تحويل الكنيسة إلى فضاء ثقافي، غير أن ذلك استطال كثيرا، ولم يتم فتحها بعد، وقد تُمثل متنفسا ثقافيا وفنيا إذا وقع استغلالها بشكل مناسب.
وتبقى أهم مساهمة في المجال الثقافي بالمدينة، تعود لبعض العناصر المثقفة التي تساهم في إطار الجمعيات بشكل تطوعي، كما هو الحال مع “جمعية أفق للثقافة والإبداع” التي ظلت تشرف على أنشطة متميزة دون حصولها على أي دعم، ومن ذلك تنظيم أربع ملتقيات وطنية للقصة القصيرة، وتنظيم مسابقات في كتابة القصة بين تلاميذ إقليم سيدي سليمان..الخ. وكان لهذه الجمعية وجمعيات أخرى الفضل في تنشيط آخر معرض جهوي للكتاب والنشر الذي نظم بسيدي سليمان من قِبل وزارة الثقافة، وقد عبّر حينها مثقفو سيدي سليمان برسالة بليغة عن تواجدهم، سواء بعرض الكتب القيمة التي أصدروها في عدة مجالات، أو تنظيم الندوات والمشاركة فيها..
السؤال الرابع عشر: بصفتكم فاعلا سياسيا وثقافيا بارزا لا يدخر جهدا في الإسهام في التنشيط الثقافي وتنميته بمدينة سيدي سليمان، هل تلمسون نوعا من التفاعل الجاد ما بين المؤسسات المركزية والجهوية والإقليمية والمحلية والمجتمع المدني المعبر عن وجود انشغال مؤسساتي واضح المعالم، يراهن على تنمية مجتمع قارئ بهذه المدينة؟ وأي رسالة تودون إيصالها لمسؤولي الدولة على مستوى الحكومة وروافدها الترابية في إطار اللامركزية واللاتركيز الإداري؟
الجواب: أولا، أسجل أنني لست “بارزا” في أي شيء، فقط سبق أن ساهمت مع أصدقاء آخرين في ملء الفراغ.. ولعل الفضل يعود لبعضهم، فمنهم من له إشعاع وطني، وأنا من يستفيد منهم.. الرسالة التي يمكن توجيهها في ما يخص الثقافة، يجب وضعها ضمن الأولويات، وربحها أكثر من أي ميزانيات قد تخصص لها. وهي ربح إنسان سويّ ومسؤول وواع.. وبعض الأنشطة الثقافية لا تكلف كثيرا، ويمكن أن يكون لها صدى، فقد كنا ننظم ملتقى وطنيا للقصة القصيرة خلال يومين بتوفير مليوني سنتيم، ولكن جميع الحاضرين من مشاركين وقاصين ونقاد يعرفون ذلك، ويعتمدون على إمكانياتهم للحضور، لأنهم يعرفون مع من يتعاملون، وكانت هناك مساهمات بعض الأسر في استقبال الضيوف، ومساهمة غيورين على الثقافة، كل بما يقدر عليه. كل ذلك بدون أي دعم من أي جهة مسؤولة، رغم وضع الطلبات عند مختلف الجهات التي يفترض أن يعول عليها. وعليه، لا يمكن مثلا على مستوى الجهة، أن تتوفر الرباط على كل شيء، ويطلق عليها “عاصمة الأنوار”، وتهمل بقية الأطراف.
السؤال الخامس عشر: ماذا تقترحون من أجل إبراز واجهة ثقافية وتربوية مشرفة بمدينة سيدي سليمان؟
الجواب: الأساسي أن تتوفر الإرادة، ويتم دعم الثقافة بمفهومها الشامل والمتنوع، وقد تم أحيانا إبراز سيدي سليمان على الواجهة، عندما كان ينظم “مهرجان الهيت” مثلا.. ولكن ذلك يستحوذ على مبالغ مالية مهمة، بينما تُنسى وتهمل باقي قطاعات الثقافة، ولا يكون لتلك المبالغ المصروفة، ما يقابلها على مستوى استفادة المدينة (التجار، المرافق الاقتصادية..) واستفادة السكان.. حيث لا يتم توفير أماكن لائقة للفرجة.. وتكون الأنشطة الموازية للمهرجان ضعيفة ولا يقع عليها إقبال..
المؤسف أن الجماعات المحلية خارج التغطية فيما يخص مجال الثقافة.. كما يجب أن يقع تعاون مع المؤسسات التعليمية بالإقليم، وجامعة ابن طفيل، ومندوبية وزارة الثقافة.. للأسف، أحيانا قد يتوفر المال، ولكن، لا يتوفر التصور والمشروع ومن يشرف عليه.
السؤال السادس عشر: هل من كلمة أخيرة؟
الجواب: أود أن أحييك بحرارة الأستاذ المهندس والمثقف الحسين بوخرطة على مبادرتكم هاته، لجمع آراء بعض السليمانيين حول قضايا الثقافة والتربية، وهذا يدخل في مجال اهتمامكم كمثقف وإعلامي تشكرون عليه، ما أرغب في ذكره كذلك، هو أنه على بعض الجهات، أن تكفّ (حسب ما يبدو لي ) عن اعتبار الثقافة مجالا للمُتنطعين الذين يجب حصارهم، إن الثقافة عموما يلجها العقلاء والبُناة ومن لهم همّ من أجل غد أفضل بإنسان واع ومسؤول، وهي رأسمال لا مادي قيمته هائلة، وتدخل في قياس تقدم الشعوب..
خلاصة
لقد تبين من خلال هذا الحوار الشيق، أن استكمال بناء الدولة المدنية العصرية بالنسبة لبلادنا، والرفع من مردودية المشروع التنويري على المستويين القريب والمتوسط، يبقى إلى حد بعيد مرتبطا بمدى قدرتنا، دولة وشعبا، على تثبيت الخصوصية التي تميز روح أمتنا وتعزيزها على أساس الديمقراطية والحرية، روح يستخدم من خلالها العقل بشجاعة. إنه الاستخدام الذي لا يخضع لأي سلطة غير سلطة المنطق المعرفي المجسدة لسلطة خالق العقل الذي وهب الإنسان القدرة على استخدامه، والتطور بسرعة كلما ترعرع في فضاءات حرية الإبداع بألوانه التعبيرية المختلفة والمتنوعة. إنه السبيل الوحيد الذي يضمن حيوية الفرد والجماعة ويعزز مكانتهما في الواقع والتاريخ على أساس إنجازاتهما وإبداعاتهما وقدرتهما على التمييز بين الصواب والخطأ، وبالتالي تشييد حصن واق يحمي السياسة بمفهومها الديمقراطي النبيل من العبث والتيه، ولا يترك أي منفذ للاستبداد سواء كان سياسيا أو دينيا. إن العقول خلقت لتتمتع بالمساواة والحق في الاختلاف والتطور، حق يجعل عقل الأمة بشكل عام، وعقل الفرد بشكل خاص، لا يحتملان ثقافيا أي نزوع للاستبداد كيف ما كانت طبيعته.
فكما جاء في حديث محاوري هناك ارتباط وثيق بين العقلانية ومستوى تعطش الأجيال للقراءة وما تحمله من لذة وتكوين وتنمية للمواهب والإدراك، وما يترتب عن ذلك من اختصار في التعرف الواعي على العالم والذات والمجتمع. إنه الارتباط الذي يفرض الحاجة الملحة لبلورة وتنفيذ استيراتيجية وطنية محكمة للقراءة والكتابة، استراتيجية تتأسس على التحفيز الذكي المفجر للرغبات المغذية لطموحات تحقيق الذوات الفردية والاعتراف بها مؤسساتيا في مجتمع يتباهى بثروته الثقافية والإبداعية الفكرية وبمهاراته العلمية. إنه الانشغال الذي يجب أن يشارك في تقويته وترجمته إلى خطة وطنية كل من الدولة بمقرراتها ومناهجها وبرامجها السياسية، والمدرسين والأطر التربوية بقناعاتهم وخبراتهم، والأسرة باحتكامها للتربية العلمية، والمجتمع المدني بتنظيم أنشطة سنوية مكثفة ودائمة في مجالي القراءة والكتابة.
فهاجس الإلمام بقواعد اللغات لا يعطي أكله إلا عندما يكون مقرونا عند الطفل بهاجس التداول اللغوي والتربية على القيم الإنسانية الكونية، وتقوية التواصل بين أفراد المجتمع بغرض تخفيف العبء الثقيل للتراث وتأثيره على الحاضر والمستقبل. وعليه، يحث لمودن على تخفيف المقررات الدراسية من الشعب غير النافعة، وتحويل الانخراط القوي للمدرسة المغربية في مشروع تحدي القراءة إلى واقع ثابت في المنظومة التعليمية، انخراط يحول القراءة إلى ثقافة يومية عند الكبار والصغار (انتقاء الكتب المفيدة حسب الفئات العمرية، تنظيم المسابقات بغرض تربوي وتكويني وتثقيفي محض …).
لقد حان الوقت في نظر المحاور إلى تدارك الزمن الضائع وتجاوز المعيقات الهيكلية التي تتخبط فيها المدرسة المغربية، بحيث اعتبر التغيير الطفيف في المقررات مؤخرا بتخصيص حيز زمني للتعبير الشفهي وتقديم “المشروع” الشخصي للمتعلم(ة) إرهاصا لا يمكن التعامل معه إلا بالتعبير عن الأمل في ظهور منطق تعليمي جديد يربط العقلانية وجودة التفكير وتكريس ثقافة القراءة والكتابة برهان تقوية أسس الدولة المدنية الحديثة. إنه الأمل الذي يحتاج كذلك إلى رعاية مؤسساتية لتأهيل الأسرة وربط برامج الجماعات المحلية وجامعات ومعاهد التعليم العالي والمؤسسات الإعلامية بمجالي التربية والثقافة. كما أن التوجه الجديد للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية بفلسفته ومراميه يمكن أن يلعب الأدوار الطلائعية في تربية الأطفال والشباب على القراءة وكتابة القصص القصيرة والروايات وتدريبهم على مهن السينما والفنون الجميلة.
انتهى الحوار ../..