ديموقراطيَّة الشيوخ …

بقلم بابكر فيصل بابكر

يظل مبحث العلاقة بين الدين والدولة من أهم المباحث المطروحة في الساحة السياسية العربية والإسلاميَّة خصوصاُ بعد هبوب رياح ثورات الربيع العربي وما حملتهُ من تغييرات جذرية في طبيعة و بنية الدولة الإستبدادية والإتجاه نحو بناء وترسيخ أنظمة حكم ذات طبيعة ديموقراطيَّة.

وبما أنَّ التحولات في العديد من الدول العربيَّة قد أدَّت إلى صعود تيارات إسلاميَّة ووصولها للحُكم عبر صندوق الإنتخابات, فإنَّ إستمرار هذه التيارات في الإمساك بدفة الحكم يتوقف كثيراً على طريقتها في إنزال شعارتها الإسلاميَّة لأرض الممارسة السياسية من منصة الحُكم والتي هى بطبيعتها غير منصَّة المعارضة التي ظلت هذه الحركات تنطلق منها لعقود طويلة من الزمن.

ويُشكل موضوع “الديموقراطيَّة” وكيفية الوفاء بإستحقاقاتها تحدياً كبيراً في وجه التيارات الإسلاميَّة, المُتهمَّة سلفاً بتنافي مبادئها وشعاراتها وممارساتها مع طبيعة النظام الديموقراطي وأسس تكوينهُ.

الخطاب الذي يتخذ من الدين غطاءً لإختطاف قواعد النظام الديموقراطي سيرتد على التيارات الإسلاميَّة بخسائر كبيرة لأنه سيصطدم بحقائق الواقع الذي أحدث الزلزال الكبير في بنية الأنظمة الإستبدادية, وهو واقع يتوق للحرية ولا يحتمل تبديل طُغاة بمستبدين حتى وإن رفعوا شعارات الدين.

أحد أخطر تجليَّات الخطاب الديني الذي تروِّج له التيارات الإسلاميَّة تتمثل في إتخاذ ” الفتوى” الدينية مصدراً للشرعية السياسية, و إخضاع مرتكزات وقواعد النظام الديموقراطي لسيطرة فئة “الشيوخ” أو من يُطلقون عليهم “العلماء” وفقاً للمقولة الشائعة “الإسلام دين ودولة”.

في هذا الإطار إستمعت لحديث في غاية الخطورة لأحد شيوخ الأزهر المُتعاطفين مع حزب الحرية و العدالة والرئيس المصري محمد مرسي. وهو حديث نموذجيٌ يؤكد المخاوف المعلنة والمكتومة من التيارات الإسلامية وما يمكن أن تسوق إليه الشعوب التي دفعت مهراً غالياً للحرية والإنعتاق.

أفتى الشيخ هاشم إسلام عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف “بوجوب قتال” المشاركين فى التظاهرات المقرَّر لها 24 أغسطس, ووصفها بأنها ثورة “خوارج”, واستند إلى حديث شريف يقول:

من بايع إماماً فأعطاهُ صفقة يده وثمرة قلبهِ فليطعهُ إنْ استطاع, فإن جاء آخر ينازعهُ فاضربوا عنق الآخر

وأكد هاشم أنَّ الأمة اختارت الدكتور محمد مرسى، وبايعته فى انتخابات حرة مباشرة.

هذا خلطُ واضحُ للأمور و محاولة لتوظيف الدين بطريقة فجَّة من أجل الوصول لهدف سياسي, ذلك أنَّ حق التظاهر السلمي في نظم الحُكم الديموقراطيَّة حق مكفول للجميع وفق الدستور و القوانين, و بالتالي فإنَّ المشاركين في التظاهرلا يخالفون قواعد النظام بل  يستخدمون حقاً دستورياً وقانونياً.

وعندما يصف الشيخ هاشم هؤلاء المتظاهرين “بالخوارج” بكل ما يحملهُ الوصف من ظلال سالبة في التجربة التاريخية الإسلاميَّة, فإنهُ يُحيل الممارسة المدنيَّة السلمية “التظاهر” إلى فعلٍ مرتبط بفئة إسلاميَّة محكومُ عليها من منظور الإسلام السني بالخروج عن “الدين” لما صدر عنها من مواقف منذ الخلاف حول قضيَّة التحكيم بين الإمام على كرَّم الله وجههُ, ومعاوية بن أبي سفيان في موقعة صفيَّن.

وبالتالي فإنَّ تعبير المشاركين في التظاهر عن موقف ما تجاه الحاكمين يتحوَّل من مُجرَّد “إختلاف” حول موقف إلى خلاف “ديني”,  ومن مُجرَّد “إعتراض” على ممارسة سياسية إلى “ردة ” وخروج عن الدين وهذا هو مكمن الخطر لأنَّ الخروج على الدين لهُ تبعات تتمثل في “قتال” الخارجين وهو ما دعا إليه الشيخ.

إنَّ إستخدام الشيخ هاشم للحديث النبوي: “من بايع إماماً فأعطاهُ صفقة يده وثمرة قلبهِ فليطعهُ إنْ استطاع, فإن جاء آخر ينازعهُ فاضربوا عنق الآخر” يُعبِّر عن جوهر المأساة المتمثلة في إسقاط المفاهيم الدينية على واقع نظام سياسي حديث لم يكن معروفاً في ذلك الزمان وأعني: الديموقراطية.

معلومٌ أنَّ محمَّد مرسي ليس “إماماً” للمسلمين ولكنهُ “رئيس” لجمهوريةٍ إسمها مصر العربية, وهى بلدٌ يتشارك المواطنة فيه مع المسلمين مواطنين من مللٍ وديانات أخرى لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون وعليهم ذات واجباتهم, وبالتالي فهى بلد ليست خاضعة لمفاهيم تاريخية غير موجودة في عالم اليوم.

إنَّ مقولة الشيخ هاشم أنَّ الأمة  “بايعت الدكتور مرسي فى انتخابات حرة مباشرة”  مقولة متهافتة لأنَّ الذين إختاروا الرئيس مرسي لم “يبايعوه” وإنما “إنتخبوه”. وهناك فارق كبير بين العمليتين.

البيعة مفهوم إسلامي ليس لهُ صلة بعملية الإنتخاب في النظم الديموقراطيَّة الحديثة. فالرئيس مرسى – على سبيل المثال – وصل لسُّدة الحُكم بعد جولتين إنتخابيتين كان مجموع الذين لم يصوتوا لهُ فيهما أكبر بكثير من الذين صوَّتوا لهُ, مما يعني أنَّ هناك قطاعاً كبيراً من المواطنين المصريين يختلف مع الرئيس ولا يؤيد حزبه أو أفكاره ولكنه يؤمن بقواعد العمليَّة الديموقراطية ويرتضي بنتائجها. وقد ضمن النظام الديموقراطي لهؤلاء المختلفين الحق في التعبير عن مواقفهم عبر العديد من الوسائل الدستورية والقانونية وفي مقدمتها حق التظاهر.

وحتى المواطنين الذين صوَّتوا لمحمد مرسي لا يمكن القول أنهم بايعوه لأنَّ هؤلاء يمكن أن يُغيروا موقفهم منه ومن سياساتهُ في أو قبل الإنتخابات التالية, بينما البيعة في التجربة التاريخية الإسلاميَّة تظل في “عنق المسلم” حتى وفاة الخليفة أو الإمام و هى لا تحتمل التغيير, ولا تنتقض إلا بشروط معينة, وإذا تمَّ نقضها بغير تلك الشروط فإنَّ ذلك يُعتبر خروجاً على الحاكم يستوجب القتال.

ويصل خلط الأمور والعبث بالمفاهيم والإرتباك عند الشيخ هاشم ذروتهُ عندما يتهم الذين ينتوون المشاركة فى تظاهرات 24 أغسطس بإرتكاب جريمتى الخيانة العظمى لله والوطن والحرابة الكبرى.

الأسباب التي ذكرت في خيانة الله عند نزول الآية الكريمة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

لم يكن من بينها الخروج في التظاهرات السلمية في إطار الشرعيَّة الدستورية والقانونية في النظام الديموقراطي, وإنما نزلت الآية في أولئك الذين كانوا يسمعون الشىء من الرسول الكريم ثم يفشونه حتى يبلغ المشركين. وقيل في شرح الآية أنَّ خيانة الله تكون بترك فرائضه, وخيانة الرسول بترك سنته, وخيانة الأمانة معنىٌ بها ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله  والأعمال التي ائتمن الله عليها الناس.

أمَّا جريمة الحرابة فتعني قطع الطريق بغرض السرقة والنهب ,وقد ورد حكم الذين يرتكبون هذه الجريمة في الآية الكريمة:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوا مِنَ الأرْضِ.

وهذا أيضاً لا علاقة له بخروج التظاهرات السلمية ضد الحكومة, فالمتظاهرون لا يحملون سلاحاً, وليس غرضهم السرقة النهب وإنما يهدفون للتعبير عن رأي وموقف سياسي معارض للحكومة.

وأخيراً إختتم الشيخ هاشم حديثهُ بدعوة صريحة للفتنة وإهدار الدم والفوضى والإقتتال, حيث خاطب شعب مصر مُحرِّضاً:

قاوموا هؤلاء فإن قاتلوكم فقاتلوهم, يا شعب مصر قاوموا هؤلاء فإن قتلوا بعضكم فبعضكم فى الجنة. فإن قتلتموهم فلا دية لهم ودمهم هدر.

إنَّ “المقاومة” التي يدعو لها الشيخ هاشم تعني منع المتظاهرين من التعبير عن موقفهم و التصدي لهم, وهو الأمر الذي سيقود حتماً لمواجهات عنيفة لا يستطيع أحد التكهن بمداها. وفي حال وقوع مصادمات فإنَّ الشيخ يضمن للذين “يقتلون” وهم يتصدون للمتظاهرين دخول “الجنَّة” بينما قتلى المتظاهرين دمهم مهدور.

وعندما يقول الشيخ أنَّ لا ديَّة للقتلى من المتظاهرين فهو إنما ينفي عصمة الدم عن المقتولين, ومعلوم أنَّ فقد العصمة يكون في ثلاث حالات وهى  قتل الحربي أو المرتد أو الباغي, وبالتالي فإنَّ الشيخ يكون قد إعتبر المتظاهرين بُغاة أو أعداء محاربين أو مرتدين عن الدين, وفي الثلاث حالات تجسيد لخطورة إقحام الدين في الشأن السياسي كما ذكرنا في صدر المقال حيث يتحوَّل الإختلاف السياسي إلى “صراع ديني” يكون أحد أطرافه ممثلاً لإرادة “السماء” بينما الطرف الآخر رسولاً “للشيطان”.

إنَّ الديموقراطيَّة التي يُسيِّرها خطاب الشيوخ والفتاوى الصادرة عنهم ستكون محصلتها النهائية إستبداد ديني يعود بالشعوب إلى عصور الخوف والكبت والفساد التي ثاروا عليها في ربيعهم الأخير

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…