النظام الرأسمالي… هل انتهى دوره التاريخي!؟
بقلم: مصطفى قطبي
يشهد العالم الغربي حالياً (أمريكا والعديد من الدول الأوروبية) أزمة اقتصادية كبيرة وأصبحت ككرة النار تحرق الجميع، وككرة الثلج أيضاً كلما تدحرجت كبرت، ولا ينفك قادة هذه الدول عن توجيه النصائح المكررة والمملة لدول العالم الأخرى في كيفية ترشيد إدارتها وزيادة الرفاهية الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان وتعميم نمط لعبة الديمقراطية… وينسون أو يتناسون المظاهرات الشعبية الناجمة عن تراجع معدل النمو الاقتصادية وزيادة حالات التهميش الاجتماعي وغيرها من (الحرائق المالية في عقر دارهم) في شارع وول ستريت وشارع المال في بريطانيا وانهيار اليونان وغيرها، ولا تزال الأزمة ترخي بظلالها. وأمام هذه الأزمة وتضخمها من يوم لآخر بدأ الاقتصاديون الغربيون يبحثون في بطون الكتب والمراجع الاقتصادية علّهم يجدون حلولاً لمشاكلهم، ونسوا أو تناسوا أن هذه المشاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم الاقتصادي القائم على الاستغلال والظلم وتوريق الاقتصاد والابتعاد عن الاقتصاد الإنتاجي وكأن (الرأسمالية تقتل الرأسمالية والرأسماليين؟).
فقبل عدة أشهر شهدت أمريكا تحركات شعبية واسعة، وهذا التحرك الشعبي بهذه الكثافة والسعة يعكس الشعور بخيبة الأمل من الطبيعة الظالمة للنظام الرأسمالي، وما يسببه من كوارث اقتصادية واجتماعية، بخاصة بعد تحوله إلى ”رأسمال مالي”، فهذا التطور ـ أي رأس المال المالي ـ انعكس انتشاراً للبطالة بين صفوف العمال، وازدياداً لنسبة الفقر بين طبقات المجتمع الدنيا، يظهر مدى تجذر الأزمة المالية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي ـ والأمريكي بوجه خاص ـ في ضوء الأرقام الصادرة عن مؤسسات إحصائية ومراكز بحوث متخصصة أمريكية.
بيد أن أحدث الإحصاءات عن التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة، أظهرت بوضوح تام، وطبقاً للمعطيات التي جمعها ”إيمانويل سايز” من جامعة كاليفورنياـ أن متوسط الدخل الحقيقي للأسرة الأمريكية ازداد بنسبة 1,7 بالمائة بين 2009 و2011، أي في غضون العامين الأولين من ”الانتعاش”. غير أن ”سايز” لاحظ أن1 في المائة من مداخيل الأكثر غنى ازدادت بنسبة 11,2 بالمائة في حين انخفضت عند 99 بالمائة من الطبقة السفلى إلى ما دون 0,4 بالمائة. وعليه، فإن 1 بالمائة من الطبقة العليا استأثرت بـ 121 بالمائة من ارتفاعات الدخل خلال العامين الأولين من الانتعاش الاقتصادي”. بمعنى آخر، أن 1 بالمائة من هذه الطبقة، استحوذت على إجمالي النمو الذي طرأ على المداخيل خلال هذين العامين، أي أكثر من 20 بالمائة. وتظهر الأرقام حجم الانتقال الهائل للثروة، وضخ الأموال في الأسواق المالية على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب: الطبقة الكادحة.
وكتبَ ”سايز” أيضاً: ”في عام 2012، من المرجح أن ما ساعد هذه الطبقة في التحسين السريع في موقعها هو الارتفاع المفاجئ لقيمة الأسهم المصرفية وإعادة ترشيد الدخل تفادياً لمعدلات الضريبة المرتفعة في عام 2013. ومن 2011 إلى 2012، ازدادت مداخيل 99 بالمائة من عامة الشعب بنسبة تبدو متواضعة جداً مقارنة بطبقة المجتمع المخملية. وعندئذٍ سيظهر أن التقهقر الكبير لم يكن إلاّ انخفاضاً مؤقتاً في حصة المداخيل التي حصلت عليها هذه الطبقات منذ عام 1970”.
هذه الاتجاهات في اقتسام المداخيل لم تكن ببساطة نتاج قوى اقتصادية مجردة. وإنما جاءت من سياسة طبقة معينة ومحددة انطلقت بادئ الأمر مع ”بوش” وتكثفت مع الرئيس ”أوباما”. ورداً على الكارثة المالية التي حدثت في عام 2008، والتي كانت نتيجة للمضاربة المالية بمستوى لم يسبق له مثيل، فإن المبالغ المالية الطائلة قدمت إلى المصارف من قبل الحكومة والخزانة الفيدرالية.
ولإعادة السيطرة على الارتفاع المفاجئ في سوق البورصة، عمدت الخزانة الفيدرالية إلى شراء ممتلكات بقيمة 2 بليون دولار منذ عام 2008، جوهرها طباعة أوراق نقدية معادلة للمال، وذلك لتحويلها إلى نظام مالي. وعلى الصعيد الدولي، اعتمدت الحكومات سياسة مشابهة. والنتائج كانت متوقعة: تضخم الفقاعات المالية من جديد، في حين أن ديون الارستقراطية المالية جرى تحويلها إلى المصارف المركزية والموازنات الحكومية.
النتيجة الطبيعية لهذه التدابير كان الهجوم المنظم والمستمر على مستويات المعيشة لشريحة واسعة من عامة الشعب. كما أن عدد ”العمال الفقراء في الولايات المتحدة ازدادت بشكل مخيف. ففي عام 2011، كان 47,5 مليون شخص يعيشون في عائلات متوسط دخلها أقل من 200 بالمائة من معدلات الفقر الرسمية، وهذا تقريباً ثلث العائلات، وهو معدل مرتفع مقارنة بـ 31 بالمائة عام 2010 و28 بالمائة عام 2007.
وعليه، فإن خطاب” أوباما” المنمق عن ”عودة الطبقة الوسطى المزدهرة” كشف بوضوح عن سياسات إدارة ”أوباما” في الولاية الرئاسية الثانية والتي ستكون تابعة تماماً لمصالح الطبقة الحاكمة، وكانت البداية باقتطاع مئات الملايين من الدولارات من ميزانية الصحة العامة.
هذه الإحصاءات عن التفاوت الاجتماعي تحدث عنها المجتمع الأمريكي طويلاً: مجتمع تحكمه طبقة أرستقراطية صغيرة. كل برنامج المؤسسة السياسية يمليه الدفاع عن ثروة هذه الطبقة الاجتماعي. إنه الصراع بين هذه الطبقة والطبقة العمالية الكادحة الذي يشكل الانقسام الاجتماعي الأساسي، وليس أشكال السياسات الثابتة التي هي جزء لا يتجزأ من إيديولوجية الدولة.
هذه العلاقات الاجتماعية هي ضرورية إلى حد كبير، وذلك لفهم أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة. دون إظهار أيَّ معارضة تذكر من جانب وسائل الإعلام أو المؤسسة، لإدارة ”أوباما” تستأثر لنفسها حق تصفية مواطنين أميركيين دون رقابة قضائية أو محاكمة عادلة.
فمبادئ الديمقراطية الأساسية التي يعود تاريخها إلى قرون خلت ذهبت ببساطة أدراج الرياح.
وتحت راية الحرب على الإرهاب شهدنا تنامياً سريعاً ومضطرداً لصلاحيات السلطات التنفيذية في العقد الأخير، فيما يخص التوقيف اللامحدود، والمفوضيات العسكرية، التجسس الداخلي أو الحفاظ على قواعد بيانات الاتصالات بشكل واسع.
إن الأشكال الديمقراطية للحكومة الأميركية لا تتفق مع المستويات المخيفة من التفاوت الاجتماعي الذي يطبع المجتمع الأميركي بطابعه.
فجوهر النظام الرأسمالي يقوم على أساس تحقيق ”الربح” لإحداث ”تراكم كمي” في رأس المال، فليس هناك أي مشروع أو معونة خارجية تقدم للدول الأخرى ـ عدا الكيان الصهيوني ـ لا تخضع لقانون الربح، ولعل تصريح ”دين راسك”، أحد الرؤساء السابقين للبنك الدولي، يؤكد هذه الحقيقة، إذ يقول ما نصه: ”إن كل دولار يخرج من الولايات المتحدة يجب أن يعود ومعه دولاران”، ولا بأس من اتباع كل الأساليب، بما في ذلك الحروب والابتزاز لتحقيق ذلك. فالخيبات والانتكاسات التي مني بها الاقتصاد الأمريكي من منظور الخبير الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ”جوزيف ستيغلتز” (تبدو وكأنها صحوة أليمة لدعاة الحلم الأمريكي… والجدير ذكره، في البداية أن واشنطن استفادت من الوضع الخاص للدولار لتبسط سلطة غير متناسبة قياساً بقدراتها الاقتصادية الموضوعية. ولغاية الآن نجحت أمريكا عسكرياً في ردع أي احتجاج على إيراداتها. ويبدو أن موقفها بات من الآن فصاعداً في موقف صعب الدفاع عنه، سواء أكان من الناحية الأخلاقية أم العسكرية. وضمن هذا الإطار جاء الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن مثل دعوة للعودة إلى مبدأ الواقعية. وبالتالي لا مفر من إجراء عملية إعادة التوازن).
أما في القارة العجوز، فالمفارقة لا تكاد تصدق للوهلة الأولى. أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهميش الاجتماعي. فمع العام الرابع على التوالي، وبعد انطلاق الأزمة المالية العالمية، تظل منطقة اليورو الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي. وفي ظل هذه الأزمة المستمرة يتعرض الاتحاد النقدي الأوروبي (منطقة اليورو) لصدمة ثلاثية: صدمة مالية، أزمة ديون سيادية، وأزمة للمشروع الأوروبي مهدداً بعواقب سياسية متعددة…
منظمة العمل الدولية حذرت من وجود أكثر من 26 مليون أوروبي الآن دون عمل، وهذه الأعداد تتطلب خططاً تنموية واسعة وأموالا كبيرة لدمجها في سوق العمل والإنتاج. منبهة إلى المخاطر التي ترتفع مع ارتفاع البطالة طويلة الأمد وبطالة الشباب على وجه الخصوص، والتي وصلت إلى مستويات حرجة. كما ورد في تقرير أصدرته المنظمة من جنيف بمناسبة افتتاح المؤتمر الإقليمي الأوروبي حول العمالة في أوسلو (08 نيسان 2013)، إن حالة الأيدي العاملة والتشغيل في أوروبا تدهورت منذ تبني الحكومات الأوروبية سياسات التقشف المالية، وأن مليون شخص فقد عمله في دول الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة الماضية. وأضافت أن عشرة ملايين شخص إضافي هم الآن دون عمل مقارنة ببداية الأزمة المالية عام 2008، وأن معدل البطالة في أوروبا بلغ في شباط/ فبراير الماضي 12.7 في المائة، وفي منطقة اليورو، بلغ مستوى تاريخياً بتسجيله 13 في المائة. حيث تعاني في منطقة اليورو التي تضم 17 عضواً من الركود كل من إسبانيا وبلجيكا واليونان وأيرلندا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وسلوفينيا. بينما تعاني منه خارج منطقة اليورو بريطانيا والدنمارك وجمهورية التشيك.
يقول (مارتن وولف) في الفاينانشال تايمز: (يفترض أن يقيم الاتحاد النقدي الأوروبي زواجاً كاثوليكياً لا رجعة فيه، حتى وإن كان زواجاً سيئاً. وإذا لم يتفكك الاتحاد، فإن هناك احتمالاً لبقاء هذا الاتحاد لفترة أطول… لأن تكاليف الطلاق مرتفعة للغاية).
المشهد الاقتصادي العام الحالي في منطقة اليورو يبدو سوداوياً، تطبيق برامج إنفاق عام ترتكز على إجراءات تقشفية لمحاولة السيطرة على العجز المالي، والحد من نمو الدين العام النتيجة الطبيعية لهذه السياسات، أن تصل مستويات الناتج والتشغيل أقل من مستوياتها الكامنة… والطبيعي مع مثل هذه الإجراءات، أن تستمر البطالة في الارتفاع، حيث وصلت معدلات البطالة في الاتحاد الأوروبي خلال الربع الأخير من عام 2012 إلى رقم قياسي (11.9 في المائة)، أي أن هناك (26) مليون عاطل عن العمل في (27) دولة أوروبية. معدل البطالة في ألمانيا (5.3 في المائة)، في أسبانيا (26,2 في المائة)، اليونان (27 في المائة).
والبيانات تشير إلى تراجع في استثمار الشركات، مع هبوط في الاستهلاك الخاص، مما أدى إلى تراجع اقتصاد منطقة اليورو بنسبة(0.6 في المائة) خلال الربع الأخير من عام 2012، مع تراجع للصادرات والواردات بنسبة (0.9 في المائة) في نفس الفترة، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي في دول منطقة اليورو بنفس المعدل خلال الفترة ذاتها. بالمقابل فإن التوقعات المستقبلية الصادرة عن المفوضية الأوروبية ترسم صورةً مُحبَطة: في عام 2014 يتوقع أن يكون معدل البطالة أعلى من (25 في المائة) في اليونان واسبانيا… ومن المتوقع أن يستمر الانقسام الاقتصادي والاجتماعي العميق في منطقة اليورو.
ألمانيا اليوم القوة الاقتصادية الأولى في منطقة اليورو، فرنسا تعاني من تخفيض تصنيفها الائتماني، و(75 في المائة) من الفرنسيين يرفضون التدابير التقشفية… ويقول (مارتن وولف) في” الفاينانشال تايمز” (حشرجة الموت الصادرة عن النموذج الاقتصادي الفرنسي لا تزال مسموعة، وعلينا أن ننتظر لنرى كيف ستكون النهاية…)، والوضع في بريطانيا ليس أفضل… الواقع أن الفجوة الاقتصادية داخل الاتحاد النقدي الأوروبي من غير الممكن أن تستمر لفترة طويلة كما قال (أبراهام لنكولن) (إن البيت المنقسم على نفسه لا يظل قائما)، وبالتالي من الصعب جداً أن يستمر الواقع الحالي لمنطقة اليورو.
ويسجل محللون أن استراتيجية التقشف تعود بنتائج سلبية على الدول التي تعاني أصلا من ضعف في الطلب المحلي ومن انخفاض في معدل الفائدة. وفي الوقت نفسه، ليس من المعروف بالضبط كيف ستتعامل الأسواق مع تراجع في سياسات التقشف. بينما تمارس الحكومات الأوروبية إضافة إلى ذلك سياسات التبذير وهدر المال والدم في مشاركاتها في خطط الحروب والعدوان، والتي تصب أغلبها في الضد من مصالح شعوبها والنظام الدولي والشعارات الإنسانية التي تتبجح فيها في أغلب الأحيان.
يقول رئيس المفوضية الأوروبية (إن النشاط الاقتصادي في أوروبا خلال 2012 كان مخيباً للآمال)، والقمم الأوروبية لإنقاذ منطقة اليورو لم تقدم حلولاً مرضية للمشاكل الاقتصادية التي تواجه أوروبا ولم تخرج القمة الاقتصادية الأوروبية في بروكسل بتاريخ 14/3/2013 عن سابقاتها من القمم الأوروبية… مقابل هذا الضعف والوهن الاقتصادي الأوروبي، تحاول بعض الإمبراطوريات الأوروبية القديمة البائدة استعادة بعض من نفوذها الضائع وتحشر نفسها سياسياً في أوضاع الشرق الأوسط مباشرة أو بالوكالة، كفرنسا وبريطانيا… وليس سراً أن جهودها هذه ستكلل بالفشل كسابقاتها… فالأزمات والقضايا الكبرى تحسمها الشعوب… وليس قوى الاستعمار القديم الضعيفة اقتصادياً في أوروبا العجوز… والتي تعيش حالة من التخبط والعجز السياسي…
اِن الخطر يكمن في لجوء المسؤولين الدهاة في الغرب، على عادتهم، إلى ما قد يلبي مطالب الشارع الغربي فقط، أو بعضها، بقصد إخماد ثورته. ولسوف يتم كل ذلك على حساب بلدان العالم الثالث، التي اعتاد الغرب أن يمتص ثرواتها، ويدمر وجودها البشري. وبذلك يتسع الشرخ القائم بين البلدان المقتدرة والبلدان الضعيفة والمستضعفة، فيزداد الخلل العالمي تفاقماً. وهنا، هنا تحديداً، كان يمكن لبعض البلدان العربية، ولا سيما تلك البالغة الثراء، أن يكون لها دور إيجابي في هذه الأزمة، يفتح للعالم العربي آفاقاً جديدة من الحضور الفعال والاحترام الحق، فيرغم الغرب على تحمل مسؤولياته الجسام إزاء العالم بأسره، بدءاً من فلسطين، وعلى التخلي عن إصراره التاريخي والمزمن على الاستئثار بخيرات الأرض، والاستهتار بشعوبها، إلا أن معظم المسؤولين العرب، من الأحداث الجارية الآن في العالم العربي، تكشفت مرة أخرى، عن حقائق مخزية، وهي تفاقم انجرار أغلبيتهم، في غباء مفجع، إلى الانخراط في السياسة الغربية الظالمة على كل صعيد، تلك السياسة التي يراد لها أن تفضي بالبلدان العربية كلها، عاجلاً أم آجلاً، إلى أوضاع سياسية واجتماعية متفجرة، لن تلبث أن تقود سياسييها إلى حفر قبورهم، وقبور شعوبهم بأيديهم… وهل من العرب اليوم من لهم حقاً عيون ترى، ليروا ما يُحمَل العرب على فعله بالعرب، وما قد يُحملون على فعله غداً، مما هو أشد بلاءً وهولاً…؟
إن نموذج الرأسمالية الغربية لمجتمع قائم على الوفرة شبه الشاملة والديمقراطية الليبرالية، يبدو الآن وعلى نحو متزايد وكأنه نموذج غير فعّال مقارنة بالنماذج المنافسة. فقد ينجح أبناء الطبقات المتوسطة في الدول الاستبدادية في دفع زعمائهم نحو قدر أعظم من الديمقراطية، ولكن الديمقراطيات الغربية من المرجح أيضاً أن تصبح أكثر استبدادية. والواقع أننا بمقاييس اليوم، نستطيع أن نعدّ شارل ديغول وونستون تشرشل ودوايت أيزنهاور زعماء استبداديين نسبياً. ويتعين على الغرب أن يعيد تبني مثل هذا النهج، أو يجازف بخسارة عالمية مع شروع القوى السياسية من أقصى اليمين وأقصى اليسار في توحيد مواقفها وبدء طبقاته المتوسطة في التلاشي. وفي الوقت نفسه، تلوح فرص ضخمة في أوقات التغيير بعيد المدى، فقد نجح آلاف الملايين من البشر في آسيا في الإفلات من براثن الفقر. والآن تظهر باستمرار أسواق جديدة ومجالات جديدة يستطيع فيها المرء أن يستغل فكره وتعليمه ومواهبه، كما بدأت مراكز القوى العالمية في موازنة بعضها بعضاً، على نحو يعمل على تقويض طموحات الهيمنة ويبشّر بنوع مبدع من عدم الاستقرار القائم على التعددية القطبية، حيث يكتسب الناس قدراً أعظم من الحرية في تحديد مصائرهم على الساحة العالمية.
إن النظام الرأسمالي العالمي يدخل مرحلة جديدة، حيث يصبح تحقيق التعاون العالمي أمراً متزايد الصعوبة، فلم يعد بوسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ظل ارتفاع مستويات الديون وانخفاض معدلات النمو، وبالتالي انشغالهما بهموم محلية، وضع القواعد العالمية وتوقع امتثال الآخرين لها. وما أدى إلى تفاقم هذا الاتجاه أن القوى الصاعدة مثل الصين والهند تقيم وزناً عظيماً للسيادة الوطنية ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهذا من شأنه أن يجعل هذه البلدان غير راغبة في الامتثال للقواعد الدولية (أو المطالبة بالتزام الآخرين بهذه القواعد)، وبالتالي فهي من غير المرجح أن تستثمر في المؤسسات التعددية، كما فعلت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ونتيجة لهذا، فإن قوام الزعامة والتعاون العالمي سوف يظل محدوداً، الأمر الذي يتطلب استجابة مدروسة بعناية في حكم الاقتصاد العالمي، أو على وجه التحديد، الاستعانة بمجموعة أكثر رهافة من القواعد التي تعترف بتنوع الظروف الوطنية وتطالب باستقلال السياسات، ولكن المناقشات التي تدور في إطار مجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، وغير ذلك من المحافل المتعددة الأطراف تزاول عملها وكأن الدواء الصحيح هو المزيد من الداء ذاته ، المزيد من القواعد وتدابير إيجاد التجانس، وفرض المزيد من الانضباط على السياسات الوطنية.
وبالعودة إلى الأساسيات، فإن مبدأ ”تبعية السلطة المركزية” يوفر السبيل الصحيح للتفكير بقضايا الحكم العالمي، فهو ينبئنا بأي الأنواع من السياسات لابد أن يتم تنسيقه عالمياً، وأيها لابد أن يترك إلى حد كبير لآليات اتخاذ القرار على المستوى المحلي، ويعين هذا المبدأ الحدود بين المناطق التي نحتاج فيها إلى حوكمة عالمية مكثفة وبين تلك التي تكفي فيها الاستعانة بطبقة رقيقة من القواعد العالمية.
ويرى كثير من الأوروبيون أن صمود القوة الناشئة، الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، عامل مساهم في إنهاء القطبية الواحدة نحو عالم متعدد الأقطاب مما يؤدي إلى سقوط الهيمنة الأمريكية التي بدأت انحدارها منذ انفلاشها ما وراء البحار ونشر قواتها في معظم مناطق العالم بذرائع محاربة الإرهاب، والدفاع عن حقوق الإنسان، وكل ذلك سيجعل من النموذج الأوروبي مثالاً لمناطق العالم الأخرى. هذا ويسهل فهم العصر الذهبي للأسواق المنبثقة بشكل أكبر، فالصين والهند وبعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا اتجهت نحو سياسة الاقتصاد الصناعي والتمدن كما فعل الغرب في القرن التاسع عشر، لكن مع إضافة وهي الثورة التكنولوجية والاقتصاد المعولم. كما لم تتجه دول الاتحاد السوفييتي السابق نحو الاقتصاد الصناعي وإنما استبدلت البنى المخفقة للتخطيط المركزي ـ الذي كان ينسق اقتصاداتها العرجاء ـ بنظام السوق، وهكذا عرف عدد من سكانها تحسناً في مستوى معيشتهم. وهكذا فإن عشرات آلاف سكان الدول المنبثقة أصبحوا من الطبقة المتوسطة فيما خرج مئات الملايين منهم من الفقر.
اِن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالنظام الرأسمالي في أوروبا وأمريكا، جعلت الكثير من المفكرين في الغرب يرون أن النظام الرأسمالي انتهى دوره التاريخي، وصار عبئاً ثقيلاً يجثم على الإنسانية. والاستنجاد بالدول الغنية ذات الاقتصاد القوي ـ كالصين ـ يهدف إلى ترميم النظام الرأسمالي المتهاوي، وقد يؤجل انهياره، ولكنه لن يمنع نهايته المحتومة، وما شعار ”احتلوا وول ستريت…” الذي يرفعه الفقراء في الدول الرأسمالية، إلا تعبير واضح يجسد المدى الذي بلغته أزمة النيوليبرالية.
موفع التقدمية