سألني أحد الأصدقاء: ما الفرق بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاشتراكية؟. فقلت له: لا فرق في الجوهر, ولكن (مزيداً من تطبيق العدالة الاجتماعية والمشاركة سيؤدي إلى مزيد من التطبيق الديمقراطية).
ثم سألني أيضاً: ما هو جوهر الديمقراطية بصيغتيهما, وكيف يتعمق هذا الجوهر؟. فقلت له:
ا لديمقراطية الليبرالية: هي الديمقراطية التي ناضلت الطبقة البرجوازية من أجلها منذ قيام الثورة الصناعية حتى وصولها إلى السلطة بعد قيام ثورات اجتماعية شاركت فيها الطبقة العمالية.
هي الديمقراطية التي تسعى عبر حواملها القضاء على القوى الحاكمة المستبدة ممثلة آنذاك بالملك ورجال الاقطاع والكنيسة, وبالتالي العمل على تحقيق الحرية والعدالة واحترام الرأي الآخر والمساواة أمام القانون والتوزيع العادل للثروة الاجتماعية. الأمر الذي ساهم في تحقيق ما سمي بدولة المواطنة, أي دولة القانون والتعددية السياسية.
أما الديمقراطية الشعبية: فهي الصيغة التي تبنتها الأحزاب اليسارية بعمومها, الشيوعية والاشتراكية أو ما سميي بأحزاب (الديمقراطية الثورية). وهي أحزاب تأثرت كثيراً بجوهر أفكار الليبرالية التي جئنا عليها سابقا, إلا أنها انتقدت القوى البرجوازية الحاملة لها, بأنها قامت بإفراغ هذه الديمقراطية بسبب شهوة السلطة من مضمونها السياسي واختزلتها في حزبين يمثلان طموحاتها ومصالحها الاقتصادية, بينما فسحت في المجال واسعا للديمقراطية في الاتجاه الاجتماعي والثقافي والأخلاقي, وعلى مستوى الحريات الفردية.
إن ما قامت به الأحزاب الشيوعية والديمقراطية الثورية, هو العمل على تعميق هذه الديمقراطية وتخليصها من شوائبها من خلال طرح ما سمي بالديمقراطية الشعبية, أي الديمقراطية التي تقر بضرورة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه من خلال المنظمات الشعبية. والمقصود في هذه الصيغة من الديمقراطية هو الفسح في المجال واسعا لكل قوى الشعب العاملة أن تكون مسؤولة مسؤولية مباشرة عن إدارة الدولة والمجتمع عبر مجالس نيابية وإدارات محلية ومنظمات شعبية يقودها كلها أحزاب جماهيرية تدعي الثورية بغية الوصول إلى تحقيق العدالة والمساوة, أو تحقيق ما نادت به الديمقراطية الليبرالية من قيم وفشلت الطبقة الرأسمالية في تطبيقه بعد أن جعلت الحاضن الاجتماعي للدولة والمجتمع اقتصاد السوق الرأسمالي الذي تقاس عليه كل القيم وفقاً لما تحققه هذه السوق من ربح لمن يمتلك الرأسمال.
ثم عاد وسألني لماذا فشلت الديمقراطية الشعبية في جانبها العملي أيضاً.؟.
قلت له: لقد فشلت الديمقراطية الشعبية ممثلة بأحزابها وحواملها الاجتماعيين لأسباب كثيرة أهمها يا صديقي التالي:
أولاً : غياب الوعي الثوري بجوهر هذه الديمقراطية لدى حواملها الاجتماعية فكراً وممارسة, الأمر الذي جعلهم ينتقدون الديمقراطية البرجوازية ويسفهونها دون معرفتهم بجوهرها, ودون القدرة على التمييز بين جوهرها وسلوكيات الطبقة البرجوازية التي مارست باسمها ظلم شعوبها واستعمار شعوب العالم الثالث تحت رسالة الرجل الأبيض.
ثانيا: لقد قامت الأحزاب الديمقراطية الثورية بالوصول إلى السلطة وهي غير مؤهلة أصلاً لقيادة الدولة والمجتمع. وهذا ما جعلها تطرح حرق المراحل. وحرق المراحل يعني أن تتجاوز معوقات التطبيق الاشتراكي في الدول التي لم تصل أصلاً للمرحلة الرأسمالية. أي ان تقوم الأحزاب الثورية بلي عنق الواقع كي ينسجم مع المشروع الاشتراكي. لذلك لم يكن ماركس مخطئا عندما قال كان من المفروض أن تطبق الاشتراكية في ألمانية أو بريطانية وليس في دول الأطراف.
ثالثاً: غياب الطبقة العاملة بمفهومها الطبقي الوارد في أوربا عن مهام القيادة, واستلام البرجوازية الصغيرة قيادة المشروع الاشتراكي, ومن بين هذه البرجوازية الصغيرة شريحة العسكر التي راحت تفرض نفسها على قيادة الدولة والمجتمع, هذه الشريحة التي تمتلك النظام والسلاح والعقلية الأوامرية,. وهنا فقدت الأحزاب الديمقراطية الثورية جوهرها الثوري وقيادتها الشعبية, فالعسكراتية فرضت نظامها التراتبي على قيادة الدولة والمجتمع والحزب. فأصبح القائد الذي يهيمن على الجيش هو قائد الحزب والدولة والجيش, وبقدر ما يكون هذا القائد ملتزماً بقضايا الشعب بقدر ما تحقق سياسته طموحات شعبه, وبقدر ما تكون طموحاته أنانية تقوم على المصالح الشخصية والفئوية, بقدر ما تنهار قيم الدولة والمجتمع ويكثر الانتهازيون والوصوليون والمروجون لسياسة القيادة اللدنية, أي عبادة الفرد, ولكي تستمر هذه السياسة لا بد من ممارسة القمع والتجهيل والاقصاء لكل من يخالف هذه السياسة..
في مثل هذه الوضعية اللاعقلانية يتحول الحزب ومنظماته وكل مؤسسات الدولة الدستورية إلى أحزمة ناقلة للسلطة تنفذ أوامرها وتفرضها على الشعب بدل ان يكون العكس.. وبالتالي تتحول الدولة من دولة ديمقراطية شعبية إلى دولة شمولية استبدادية, حيث تغيب كل معالم الديمقراطية فيها, وإن وجدت فهي ليست أكثر من مؤسسات مفرغة من مضمونها.. شكلانية, وستفقد شيئاً فشيئاً ثقة الشعب بها, وتظل واجهات إعلامية لا أكثر.
كاتب وباحث من سورية.