المغامرة في سياقها العام برأي, هي شكل من أشكال التحدي من قبل الذات الإنسانية لذاتها الراضية بالكسل والخمول والثبات والرضى والقناعة بما هي عليه, من أجل كشف عوالم جديدة داخل هذه الذات وخارجها من جهة, ثم امتلاك القدرة على إعادة تشكيل هذه الذات بصورة أو طريقة تساهم في تطويرها ونموها واستجاباتها لتغيرات الحياة من جهة ثانية, بحيث تمنحها المغامرة العقلية الوصول إلى مرحلة تصبح فيها هذه الذات قادرة على تحقيق مصيرها بنفسها, والخروج من حالة عزلتها وتقوقعها على ما هي عليه أو ما وجدت أباءها عليه.
هذا وتعتبر المغامرة العقلية من أهم المغامرات في حياة الإنسان, كونها تفجر إمكانية معرفة الثابت والمألوف والمرضى عنه والمقدس والمسكوت عنه والمتحول داخل الذات وخارجها بالضرورة.
إن المغامرة العقلية التي تهز كيان الشخص الداخلي, ستبعث فيه بالبداية روح الشك… الشك في طبيعة هذه الظواهر, ومن أين مصدرها, ومن هي القوى التي تتحكم فيها, وبآلية سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين. أي الشك في بنية المغامر الفكرية وطريقة نظرته لهذه الظواهر. وبالتالي فرض تساؤلات كثيرة عليه من أهمها:
1- من أنا في هذا العالم الذي أجده يتطور ويتبدل أمامي كل يوم؟.
2- ثم من هو المسؤول عن إجراء عمليات التغيير والتطور في هذه الحياة. ؟.
3- وماهي آليات عمل هذا التغيير والتطور ولمصلحة من؟.
مع ظهور الشك تجاه ما هو قائم في حياة الشخص, وطريقة تفكيره والرغبة الجامحة لديه في الاجابة على هذه الأسئلة الكيانية المرتبطة به, يبدأ المغامر عقلياً في كشف ما تكلس بداخله من بنى فكرية لا تنسجم مع معطيات حياته الخارجية. وشيئاً فشيئاً سيكتشف أن البنية الفكرية التي تتحكم فيه من الداخل هي لعالم آخر غير عالمه المعيوش في بناه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.. بل هي لعالم أهل الكهف. وبالتالي فحياته المغلقة والمتكلسة, لم تعد قادرة على الانسجام والتكيف أمام ما يجري أمامه من تطور حياتي, مثلما يكتشف أن إجاباته السابقة عن المحيط الذي يعيش فيه لا تقوم على نسق فكري واحد يدعي أنه يمتلك الحقيقة كلها, وهنا في إجاباته الجديدة سيجد أن كل ظاهرة تحيط به لها عالمها وخصوصيتها وتأثيرها وأسباب وجودها, ورؤية جديدة للنظر فيها والتعامل معها. وهذه هي أول حالة من حالات روح المغامرة العقلية وأنسنة التفكير لديه. أي اصبح يمتلك القدرة على اكتشاف إجابات جديدة على أسئلته الجديدة, انطلاقاً من أن لكل زمان ومكان قضاياه ممثلة بظواهرها وآلية التفكير والتعامل معها, فعقلية وطريقة تفكير أهل الكهف وعملتهم ولباسهم هي غيرها في العالم الذي جاء بعدهم بالضرورة.
إذن, مع بدء الشك لدى الإنسان تجاه ما هو قائم من ظواهر أمامه, وبطريقة تفكيره الجديدة الجدلية العقلية النقدية, يبدأ معرفة, أن الحقيقة نسبية وليست مطلق.. وإن الحياة ليست ذاك اللون الرمادي الصالح لكل زمان ومكان, بل من اللون الرمادي ذاته تُشتق ألوان كثيرة.. ثم يبدأ يكتشف أن الثبات موت وتحجر, فالحياة في حالة حركة وتطور مستمرين. أي في حالة سيرورة وصيرورة لا تقفان عند زمان أو مكان محددين…كما يبدا يكتشف إن التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية, وأن كل شيء يعطى صفة الاطلاق يتحول إلى الضد… ويكتشف أن الظواهر لا يتم التعامل مع شكلها فحسب, بل مع مضمونها أيضاً, وأن هناك علاقة تأثير متبادل بين الشكل والمضمون في الظاهرة, وبين الجزء والكل فيها…وأخيراً وهو الأهم يكتشف أن الإنسان أصيل في وجوده وبناء حياته وطريقة تفكيره وتحكمه بقراره والسيادة على نفسه.
كم نحن بحاجة لهذه المغامرة العقلية لكل منا اليوم؟, وكم نحن بحاجة لأنسنة عقولنا التي أكلها الصدأ بفعل النقل وإقصاء العقل.
د . عدنان العويد كاتب وباحث من سورية