سألني أحد الأصدقاء متحصرا :”لماذا بدول الغرب لا تتطاير أكياس البلاستيك في الهواء وتنعدم النفايات في الطرقات والشوارع والأزقة، وفضاءات عيشنا المشترك تعاني من التلوث اللفظي والصوتي وضعف تدبير النفايات الصلبة والسائلة والغازية”. أجبته بسرعة متناهية أن أداء وجودة تدبير مؤسسات أي دولة، كيف ما كانت طبيعة نظامها، ما هو إلا انعكاس لمستوى الوعي المجتمعي، وما يترتب عنه من سلوكيات وأفعال عامة وخاصة تجسد مستوى المعرفة المجتمعية في تعاملها مع المبدأ البيئي المعروف: “لا شيء يضيع، بل الكل يتحول”  (Rien ne se perd, le tout se transforme). مباشرة بعد سماعه لجوابي تفاعل معه قائلا: “هل يمكن لك أن توضح لي أكثر؟”. لم أطل في التفكير كثيرا لأقول له أن بلادنا تحتاج إلى تراكمات جديدة، تكرس ديمومة التنشيط الثقافي الضامن لارتقاء اختيارات الشعب المغربي، ارتقاء يجعل تفاعلاته اليومية منغمسة بقوة في التفكير الفردي والجماعي بمنطق خلق الآليات المطلوبة لتحويل ممارساته إلى فضاء معرفي مؤثر، لا يمكن أن يترتب عنه إلا مؤسسات ترابية ووطنية تجعل العقل الجماعي منبع للأفكار والسياسات التنموية الجادة والناجعة. إنها المؤسسات التي تضمن للمواطن المشاركة الدائمة في تجويد مقومات العيش المشترك. المغاربة معروفون بتفاعلهم الإيجابي مع المبادرات الجادة. لقد قاوم بعض الأشخاص مثلا إجبارية وضع حزام السلامة في السيارات والشاحنات في الأيام الأولى من تقنين هذا المطلب المؤسساتي، ليتحول بعد شهور إلى ثقافة شعبية. لقد التزموا كذلك بالحجر الصحي وقانون الطوارئ، لنلامس جميعا حرصا مجتمعيا واضحا على تفعيل الحواجز الواقية من فيروس كورونا،….. إنها مؤشرات واضحة تؤكد القابلية المجتمعية لدعم السياسات البناءة والتفاعل العفوي للشعب المغربي مع المبادرات والقرارات التي يلامس من خلالها انشغال المؤسسات بحاله ومستقبله.

إن ما تم تحقيقه من تراكمات تنموية في سياق منطق المصالحة السياسية، جعل المغرب يمر إلى مرحلة جديدة تطالب بديمومة الحوار بين كل مكوناته، حوار دائم تشارك فيه بكثافة المؤسسات بمختلف ألوانها، والمنابر الإعلامية، ومنظمات المجتمع السياسي والمدني، يكون الهدف الأسمى منه ترسيخ عقيدة جديدة للانتداب المعرفي في السياسة على أساس تقديم البرامج التنموية القابلة للتفعيل في مختلف المجالات، والاستماتة في تحويل أهدافها إلى واقع معاش، أهداف بحصائل يتطور من خلالها مستوى سعادة المجتمع برمته، أفرادا وجماعات. إنه الوعي بارتباط السعادة الحقيقية للروح الجماعية بالوعي بمزايا السياسة الديمقراطية واقتسام منتوجاتها المادية والنفسية وتذوق لذتها.

بلادنا تحتاج مثلا إلى مواطن يقوم بفرز نفايات منزله ويحرص على وضعها في أكياس مختلفة ووضعها بالعناية والتركيز اللازمين في الأماكن المعدة صحيا لاستضافتها، ونحتاج إلى نضال شعبي لدفع الجماعات الترابية إلى زخرفة الشوارع بمواقع صحية حاضنة للحاويات الملونة لتدبير النفايات، وجعلها كذلك لا تدخر جهدا في بناء المطارح الكافية لاستغلال النفايات المنزلية والطبية والآلات الإلكترونية والغسالات والثلاجات التي أصابها التلف، وبقايا مواد البناء، …. والحيلولة دون رميها في الحقول الفلاحية الخصبة المتاخمة….. نحتاج إلى ديمومة انشغال الأسر والمدرسة بربط تراكم وتنمية معارف فلذة الأكباد التعليمية بضمان تناغم الطموحات المهنية والتقنية بالتراكمات الفكرية والفلسفية والأدبية وبالكفاءة اللغوية والحفاظ على البيئة. نحتاج إلى مؤسسات تفكر باستمرار في مردودية كل فرد في المجتمع، ومردودية كل شبر من المجال الترابي والبحري لجماعاتنا الترابية بمختلف مستوياتها الترابية في إطار الجهوية الموسعة المعبر عن روح الدستور المغربي. نحتاج إلى فاعل إداري جاد لا يجد التذمر سبيلا لنفسيته، بل تجده مثابرا في كل ساعات يومه (خارج أوقات الراحة والنوم)، ومسلحا بالإرادة والعزيمة الكافيتين لإبادة الكسل والحياد والأنانية والفساد وتفنيد دسائس جيوب المقاومة. نحتاج، تحت ضغط وإلحاحية التطورات الكونية، إلى الأضواء الكاشفة والساطعة التي يجب أن توجهها الدولة لاكتشاف المعرفة والمسؤولية والكفاءة في عقول وسلوك الأجيال المتعاقبة لهذا الوطن وتجنيدهم لخدمته على أساس الاستحقاق وتساوي الفرص، وإلى قوة مؤسساتها لجعل المواطن لا يؤمن في المستقبل القريب إلا بالعمل الجاد والكفاءة المعرفية والتدبيرية والقدرة على قيادة التغيير بالحكمة والتبصر المطلوبين.

في عبارة أخيرة أقول: “نحتاج إلى روح جماعية مندمجة بقوة جهدها ورهاناتها لرفع شعار التفوق والتجديد بشكل دائم، روح لا تتقاعس إراديا إطلاقا في تنمية الوطن بركائزه الثلاث، أي بشعبه ومؤسساته وترابه. إنها الروح التي تجعل المنتظم الدولي في نهاية المطاف يقتنع بشكل قطعي أن الشعب المغربي يشكل مع نظامه الملكي الدستوري نموذجا سياسيا وسياديا بخصوصية يحتدى بها ويستحيل اختراقها.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…