يرد الفيلسوف الألماني الكبير هيجل أنه لابد من الشر من أجل الوصول إلى الخير. وجاءت هذه الفكرة في إطار حديثه عن نظرية مكر العقل في التاريخ، حيث يقصد بذلك أن للشر في التاريخ وظيفة، وأنه لا يحدث مجانا. ويعني بذلك أن الشر عندما يحدث في التاريخ، فإن العقل يشتغل عليه بهدف الوصول إلى الخير.
وللتدليل على ذلك، فقد عرفت أوروبا حروبا مذهبية طويلة بين أهل المذهب الكاثوليكي من جهة، وأهل المذهب البروتستانتي من جهة ثانية، أدت إلى مجازر ذهب ضحيتها ملايين البشر، حيث يقول بعض المؤرخين إن ثلث سكان ألمانيا قد تعرض للإبادة آنذاك. هكذا، فالحروب المذهبية شر كبير أباد فيها الكاثوليك البروتستانت.
وكرد فعل على هذا الشر المستطير، ظهرت حركة التنوير الفلسفي والديني… لذلك، إذا كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد عرفت ولا تزال تعرف حركات إرهابية تمثلت في القاعدة وداعش والإخوان المسلمين بجميع تلويناهم، فإنه يبدو لأغلب الباحثين أن هذه الحركات ستؤدي إلى تسريع حركة التاريخ بهذه المنطقة، الأمر الذي يفضي إلى حركة تنوير ستنقذ هذه البلدان من مخالب شرور الإرهاب بشتى أنواعها. ونتيجة ذلك، فإن السنوات القادمة حبلى بالإصلاحات الحضارية في هذه المنطقة.
وتجنبا لهذه الشرور، يدعو بعضهم مجتمعات الشرق الأوسط إلى ضرورة الاستفادة من دروس تجارب الأمم المتقدمة التي تخلصت من الحروب المذهبية، واستطاعت أن تقوم بتحديث مجتمعاتها. لكن للأسف، لم نقم بعد بدراسة هذه التجارب. ويرى المفكر السوري هاشم صالح أن الشعوب لا تتعلم إلا إذا دفعت الثمن ذاتيا. ويضيف هذا المفكر قائلا: من الممكن أن تستفيد بعض مجتمعات هذه المنطقة من التجارب الغربية في مواجهة شرور الحروب المذهبية… ونظرا لكون هذه الشرور تعيق الإصلاح والتنمية والبناء الديمقراطي، فإن أغلب الأحزاب السياسية المعنية بمخاطر هذه الحروب وما ينجم عنها من إرهاب وعرقلة للتحديث والبناء الديمقراطي، لا يبدو أنها تهتم بمخاطر الفكر الذي يفرخ الصراعات المذهبية التي تنتج بدورها الإرهاب، حيث إن هذه الأحزاب لا تمتلك معرفة حول هذه الشرور التي تغلغلت في المجتمع وشلته بأغلالها الثقافية، ويتجلى ذلك في أن أغلب هذه الأحزاب لا تمتلك أدبيات تحليلية لهذه الظاهرة وكيفية مواجهتها، بل إنها لا تفكر إلا في كيفية التحالف مع تيارات الإِسْلام السياسي في الانتخابات بهدف الاستفادة من ذلك، ولو على حساب الوطن ومستقبله…
وإذا كان هذا حال أغلب أحزاب هذه المنطقة، ففي مقابل ذلك هناك قلة قليلة من المفكرين الذين يطرحون أسئلة جريئة وعميقة على التراث العربي الإسلامي ويعملون على استشراف آفاق للتنوير بهدف الخروج من المأزق الذي وضعنا فيه فقهاء القرون الوسطى.

تبعا لذلك، فالسؤال الأساسي اليوم بالنسبة لهذه المنطقة هو سؤال متعلق بفقه القرون الوسطى الذي يسود مؤسسات المجتمع والدولة. فبسبب هذا الفقه، تعرضت عقولنا إلى الجمود والتوقف عن التفكير حتى وصلنا إلى انسداد تاريخي.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الفكر الفقهي قوي وضعيف في الآن نفسه، إنه قوي لأنه سائد شعبيا في كل مكان، كما أنه طاغ أيضا في فضائيات دول النفط التي تصر على نصرة فقه إراقة الدماء لتشويه الإِسْلام والمسلمين بغية تقديم خدمة لبعض القوى الغربية التي تبتغي ذلك، ويكمن ضعف الفكر الفقهي في أنه لا يصلح للقرن الواحد والعشرين، حيث لا نستطيع تدبير هذا الزمان بفكر ابن تيمية الذي هو فكر ينتمي إلى القرون الوسطى التي يعتبرها الجميع عصور الظلام… لقد كانت فتاوى ابن تيمية صالحة لزمانها، لكنها تؤدي إلى مجازر تزهق الكثير من الأرواح، وللتدليل على ذلك، فإن «داعش» وغيرها من التنظيمات الإرهابية تطبق فتاوى ابن تيمية حرفيا.
لقد تم غلق باب الاجتهاد بهذه المنطقة منذ حوالي عشرة قرون. والسؤالان الملحان اللذان يطرحان نفسيهما علينا اليوم هما: هل نحن قادرون الآن على التخلص من هذا الفقه ويقينياته التي ترسخت في وعي أفراد هذه المجتمعات ولا وعيهم حتى تحولت إلى معضلة سيكولوجية تشكل تحديا مرعبا لنا؟! كيف يمكن تجاوز سلبيات القرون الوسطى والحفاظ على ما هو إيجابي فيها، إذا كانت لها فعلا إيجابيات؟
وإذا كان الأستاذ محمد أركون متفائلا ويستشعر أن التنوير قادم لا محالة، فإن ذلك يعود إلى أنه يرى أن مفكري الإِسْلام قد صنعوا حضارة كبيرة سابقا، ومن الممكن أن يصنعوها لاحقا.
العالم الإِسْلامي اليوم محكوم عقليا بفتاوى تحولت إلى يقينيات.. لكن كيف يمكن أن يتخلص من ذلك؟  يقتضي ذلك قراءة النص القرآني وما تلاه من تراث فقهي من زاوية العلوم الإنسانية الحديثة، إذ تؤكد الدراسات التي أجريت لحد الآن أن القرآن الكريم يتضمن نزعة إنسانية، وأن فيه تنويرا وانفتاحا وتفتحا ودعوة إلى التعايش، الأمر الذي يعني الاعتراف بالآخر وضرورة الانفتاح عليه. لكن فقهاء الإِسْلام السياسي يتمسكون بفتاوى فقهية ليست صالحة لزماننا. ويعني ذلك أنهم يقدسون ابن تيمية وأحلوا فتاواه محل القرآن الكريم، ما يشكل طعنا في الكتاب المنزَّل. وللتدليل على انفتاح الإِسْلام، يقول تعالى في القرآن المجيد: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة، 62).  تبين هذه الآية أن الله عز وجل قد وضع أهل الديانات التوحيدية على نفس مستوى المسلمين. لقد قام فقهاء الإِسْلام السياسي المتشدد بنزع الآيات المتشددة من سياقاتها، حيث كانت مرتبطة بما فرضته الدعوة الإسلامية من معارك وصراعات، والتالي فهي لم تعد ملائمة لزماننا. كما أنهم يعتبرون الآيات المنفتحة قد تم نسخها بالآيات المتشددة. هكذا، فإن هؤلاء الفقهاء قد عملوا على تغييب العمق الروحي للقرآن الكريم، كما أنهم قاموا بإقصاء جوانب تفتحه وانفتاحه، فأنكروا إمكانية تعدد معانيه، ما جعلهم يُحرِّمون تعدد قراءاته التي تمكن من جعله مواكبا لتحولات زماننا، ومنخرطا في روح العصر. إنهم يرفضون تعدد معاني القرآن الكريم وإمكانية تعدد قراءاته، لأن ذلك يعري ادعاءاتهم بامتلاكهم للحقيقة المطلقة. هكذا، يرى الأستاذ محمد أركون في كتابه «حين يستيقظ السلام» أن الإِسْلام المتنور سيستيقظ، ما يسمح بتخليص الدين من براثن وعوائق فتاوى القرون الوسطى. وبذلك سيتبين أن الإِسْلام دين حضاري كما كان في أصله. هكذا، سيعي المسلمون مشكلة الإِسْلام التي لحقته من قِبل فقهاء القرون الوسطى، كما أنه سينفتح على المناهج العقلانية في البحث. وهذا ما سيفضي إلى تخلص الإِسْلام من تقوقعه الذي سجنه فيه فقهاء الظلام، حيث سيستفيق من غيبوبته وسيتمكن من إضافة نكهة إلى الحضارة الإنسانية. لذلك ينبغي أن نتفاءل ونعمل على التوعية بأن قوة الإِسْلام كامنة في عمقه الروحي، وفي تفتحه وانفتاحه وما يحويه من تنوير. فمهما طال الليل، ستشرق الشمس. وإذا كان واقعنا مليئا بالشرور التي تسبب فيها فقهاء القرون الوسطى، فيجب أن تشتغل عقول المسلمين على هذه الشرور بحثا عن أفق للخير العميم للإسلام والمسلمين. لذلك، لا يمكنني إلا أن أقول مع هيجل: لابد من الشر من أجل الوصول إلى الخير. فلنكن متفائلين.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…