يجيء كتاب ” إشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل الى النفط ” لمؤلفه الصديق العزيز د. عدنان عويّد ، كدراسة موضوعية تتوغل في عمق مشكلات النهضة العربية الحديثة، وتغوص في قاعها لتكشف وتثير وتحاور من أجل بحث تحليلي معرفي، للأسس النظرية التي ترتكز على رؤى شاملة للواقع العربي المتمثلة بالثقافة الثيوقراطية المهيمنة, والرؤى النهضوية المتمثلة بالوعي وعقلنته, لإثبات الوجود والهوية المعاصرة.
إن إشكالية النهضة في الوطن العربي ترجع في أسبابها إلى عوامل عدة، منها الداخلي ومنها الخارجي، ومنها الذاتي ومنها الموضوعي.
إن هذه العوامل تتداخل وتتشابك .. تتجاذب وتتناحر، أو تتصارع مع بعضها أحيانا، مما جعل المجتمعات العربية على هامش التاريخ المعاصر، تراوح عند نقطة انطلاق النهضة العربية. فالخطاب العربي النهضوي المعاصر لا زال نفسه منذ عقود، تتصارع فيه التيارات الفكرية والاصلاحية المتنوعة، التي تعبر عن مصالح طبقية وقومية وطائفية ومذهبية، ما هي إلا انعكاس لمقتضيات محلية ودولية.
من خلال هذا الصراع يستأنف المشروع النهضوي بحثه في مقولات الزمن الضائع وفق اتجاهين رئيسيين هما : السلفية والأصالة في مواجهة المعاصرة والحداثة. والتراث بمواجهة الحداثة والتنوير. ودعاة التعددية في وجه المركزية والإقصاء. وهذا ما يشكل إشكالية تعبر عن وضع مأزوم، لا يمكن الخروج منه بسهولة، كما خرجت كثير من الشعوب الأخرى.
أعتقد جازما أن السبب الأساسي في هذه المراوحة – التي أدت إلى أزمة مستعصية – يعود إلى عدم استطاعتنا الخروج من الشرنقة التي لازمت الخطاب العربي النهضوي المعاصر منذ عقود من الزمن، المتمثلة – بشكل أساسي – في تعنت الأصولية الدينية في تقديسها الماضي وليّها عنق استعمال العقل، وفي جمود الخطاب الديني وعدم عقلنته، بالاعتماد على مفاهيم النقل والتقليد والاتباع بكل ما تعنيه من سلبية وانحدار ورجعية، ووضع المحاذير في طريق تجديده بفتاوى التكفير والتفسيق وهدر الدم، مما أدى إلى الثقافة الثيوقراطية البدوية القروسطية الدوغماطية التي تعتبر أنها تمتلك الحقيقة المطلقة .
لقد ظهرت حركات سلفية إصلاحية في القرن التاسع عشر لكنها فشلت، لأن الفكر السلفي حينها قد ساد العقول ، ولأن بعض رواد مشروع النهضة العربية قد وظفوا الدين لصالح السلطة السياسية ، والبعض منهم جعل السياسة في خدمة الدين. والبعض الآخر عمل على أسلمة الحداثة.
اما الفكر القومي فقد أسهم بمشاريع نهضوية, ولكنها لم ترق في تحولاتها إلى مستوى حيز الفعل والواقع الملموس.
إن العامل الأساسي المتعلق بنجاح أي من المشاريع الإصلاحية النهضوية المطروحة والذي يلعب دورا هاما في نجاحها هو الوعي الجماهيري العقلاني النقدي, وبوجود حوامل اجتماعية مؤمنه بأفكار ومبادئ هذه المشاريع.
فالجمهور العقلاني التنويري أو ما يسمى ( الحامل الاجتماعي ) هو الأداة التي تقع عليها مهمة المساهمة في تنفيذ الإصلاح النهضوي.
إن هذا الحامل لم تتبلور مفاهيمه المعرفية والطبقية بعد، وظل مشتتا تتجاذبه الأفكار المختلفة وتسيطر على غالبيته العظمى الأفكار السلفية المتخلفة السائدة التي تنتمي إلى عصور الانحطاط القروسطية، التي تتحكم فيها السلطة الدينية والسياسية المستبدة, بما تبثه من مفاهيم النقل والتقليد .
إن من أهم المعوقات التي واجهت الحركة النهضوية هي الأنظمة العربية القمعية التي نصّبت نفسها وصيّة على الفكر العربي، وتحكمت بروافد تغذيته، وطوعته وأخضعته لإرادتها ورؤيتها ، فهدمت بذلك كل إتجاه حداثي تنويري.
كما لعب الصراع التناحري بين النخب الثقافية – بسبب تضارب مصالحها وتوجهاتها وتطلعاتها – دورا كبيرا في انقساهما على نفسها ، مما انعكس سلبا على الحلول النهضوية ، وأدى إلى فشلها أو تعطيلها.
هذ مع تأكيدنا أن للمنطق العشائري القبلي في بعض البلدان العربية دوره التصادمي بالعملية النهضوية الذي أدى إلى تغيب الكثير من مقوماتها.