المصالح تحرك التاريخ.. والصراع على الشرق ليس جديدا بل هو قديم يعود إلى زمن تشكل الامبراطوريات الكبرى اليونانية والفارسية والرومانية, وصولا إلى الاستعمار الأوربي الحديث وظهور ما سمي بالمسألة الشرقية في القرن التاسع عشر, أي الصراع على تركة الرجل المريض (الامبراطورية العثمانية).
من هنا نستطيع القول بكل ثقة, بأن المسألة الشرقية قد عادت اليوم بثوب جديد, لاعبوها, أوربا وخاصة فرنسا وبريطانية وروسيا أضافة إلى تركيا, (وهم اللاعبون القدماء في المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر.), يضاف إليهم اليوم اللاعبون الجدد في المسألة الشرقية المعاصرة وهم أمريكا وإيران واسرائيل, أو ما نسميه الكيان الصهيوني.
دعونا نتابع دهاليز هذه المسألة وعلاقة كل لاعب فيها.
عند انتهاء الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك, سارت تركيا بالاتجاه الأوربي, بعد العمل على علمنة الدولة.. وقد احتضنتها أوربا أولاً, ثم أمريكا لاحقاً, حيث أرضت فرنسا وبريطانية قادتها جغرافيا على حساب جيرانها العرب في معاهدة سيفر 1920 من جهة, ومن جهة ثانية قدمت لها كل الدعم المادي لتطوير اقتصادها, وأدخلتها إلى منظومة الحلف الاطلسي, محاولة استغلال موقعها الجغرافي الهام الذي يطل على الأسود وخاصة امتداد حدودها الواسعة عليه, وبالتالي إمكانية استغلال هذه الحدود لمحاصرة المد الشيوعي آنذاك, وعرقلة تقدم الاتحاد السوفياتي في الشرق العربي والأسيوي, وهذا كان وراء وضع القواعد الأوربية والأمريكية على الأراضي التركية ومنها قاعدة انجرليك.. ودخول تركيا أيضاً المشاريع المشبوهة كحلف بغداد والحلف الإسلامي وغيرهما..
يضاف إلى ذلك وضع الجزرة أمام رغبات تركيا في قضية امكانية ادخالها منظومة الاتحاد الأوربي الذي ماطلت فيه أوربا كثيرا بسبب الجذر الإسلامي لتركيا.
تركيا اليوم بعد أن سيطر عليها الإخوان, أصبح لها مشروعها الامبراطوري الذي عبر عنه أردوغان أكثر من مرة.. وهذا المشروع في جوهره أصبح يشكل خطرا على مصالح أمريكا وأوربا واسرائيل خاصة, علماً أن أردوغان راح يظهر نوايا المشروع الإسلامي من خلال ارسال سفينة مرمرة الى فلسطين وإظهار تركيا دولة تساند القضية الفلسطينية, في الوقت الذي يربطها بإسرائيل العديد من الاتفاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية..
لقد حجمت اسرائيل مشروع تركيا أردوغان في مسألة القضية الفلسطينية عندما هجمت على السفينة وقتلت واعتقلت طاقمها والمحتجين عليها, واستدعت سفيرها الى الخارجية الإسرائيلية وأجلسته على كرسي صغير حتى تبين له حجم دولته التي يمثلها. كما وقفت ضد مشروعه الإخواني كل من السعودية والامارات وسورية, بيد أن أردوغان ظل يبحث عن منافذ جديدة لتحقيق مشروعه في محيطه العربي والاقليمي, فكان تدخله في سورية أولاً بدعم ايران التي تلتقي في مشروعها الاسلامي الأممي مع مشروع الإخوان رغم الاختلاف المذهبي بين تركيا وايران, حيث زار اردوغان ايران وعقد اتفاقات أمنية واقتصادية وصلت فيها العلاقات البينية إلى أكثر من40 مليار دولار.
هذا التحرك التركي باتجاه إيران, أخاف أوربا وأمريكا فبدأت تمارس الضغط على تركيا وتهدد اقتصادها وأمنها الداخلي من خلال تشجيع الأكراد ودعمهم (زيارة كوشنير والوفد المرافق له إلى شمال سورية مع بداية الأزمة السورية) ..الأمر الذي جعل أردوغان يتجه نحو الروس, فزار بوتين تركيا وتم توقيع اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية وصلت الى مئة مليار دولار مع تبرع روسيا بإقامة محطة نووية مجانا لتركيا. وقدمت لها فيما بعد صواريخ اس 400 التي أثارت حفيظة امريكا والغرب وجعلتهم يمارسون الضغط الاقتصادي عليها وسحب الكثير من الأموال المستثمرة في تركيا مما سبب في انهيار العملة التركية, وليس مستبعدا بل أكيد أن أمريكا كانت وراء محاولة انقلاب فتحي أوغلو المقيم في أمريكا.
عموما العلاقات التركية الأوربية الأمريكية على صفيح ساخن لم تزل المصالح تجعل الطرفين يتمسكا بشعرة معاوية.
مع هذه التحولات راح أردوغان يعمل على السير قدما في مشروعه الإخواني وأحلام الخلافة الإسلامية قي المحيط العربي.. فراح يتدخل في ليبيا وتونس إضافة لتدخله الفاضح في سورية والعراق. وبالرغم من خطورة تقدمه هذا إلا أن أمريكا والغرب لهما الرضا غي المعلن عن هذا التدخل كونه يدخل تركيا وروسيا والعرب في اتون صراعات تبعدهم عن مصالح شعوبهم الحقيقة, في الوقت الذي يقوم هذا التدخل عندهم تحت ذريعة حماية مصالح أمن دولهم القومي كما يدعون.
أما ايران ففي عهد الشاه, كانت العصا الغليظة بيد أمريكا ضد دول الخليج, حيث استخدمتها أمريكا لتحقيق سياسة الاحتواء المزدوج.. ووافقت على احتلالها للجزر الثلاثة حتى تعمق الخلاف بينها وبين دول الخليج.
مع قيام الثورة الإسلامية حملت هذه الثورة مشروع إقامة الدولة الإسلامية الشيعية على المحيط العربي والاسلامي… ومشروعها هذا يجب أن ينطلق نحو المحيط العربي أولا. ولكي تجد المفتاح لهذا التدخل كان شعار (اليوم العالمي للقدس) الذي اطلقه الخميني بعد نجاح الثورة. فراحت إيران تقدم الدعم لحماس والجهاد أي الفصائل الإسلامية الإخوانية التي تلتقي مع مشروعها الأممي الإسلامي.
هذا وقد خدمتها حرب الخليج الثانية ضد صدام حسين فعمقت العلاقة مع سورية فالتقت مصالح مشروع المقاومة بين سورية وايران, علماً أن سورية كانت مدركة خطورة إسقاط نظام صدام وحاولت مرات عدة مد الجسور بينه وبين إيران إلا إنها لم تفلح.
في لبنان تم تشكيل حزب الله الذي أعلن قائده اليوم حسن نصر الله منذ عشرين عاما في محاضرة له بأن هدف الحزب أولا هو تحرير جنوب لبنان من الكيان الصهيوني ثم التوجه لاحقا لإقامة دولة لبنان الإسلامية المرتبطة بولاية الفقيه ثم العمل على تطبيق مشروع هذه الدولة على المستوى العربي والعالم الإسلامي.
مع استقرار ايران بعد حرب الخليج الثانية راحت تعمل على تطوير مشاريعها الصناعية التي وجدت نواتها زمن الشاه بدعم أمريكي وأوربي ومنه مشروع المفاعل النووي. وبعد ذلك راحت تشتغل على مشاريعها العقيدية والسياسية كالتالي:
1- عمقت الوجود الشيعي في العراق وتركته في حالة صراع وحروب طائفية ناعمة حينا وساخنة حينا آخر بعد مساهمتها في وصول من يواليها غلى السلطة, ثم تشكيل فصائل مسلحة بأمرتها. كما استغلت وجود بقايا القاعدة التي ساهمت في دعم الكثير من عناصرها بعد خروجها من السودان وضرب معمل الأدوية فيه الذي كان يشكل أحد مصادر تمويل القاعدة.. حيث فتحت ايران لمن هرب من السودان من القاعدة معسكرات داخل أراضيها مع الحدود العراقية. وقد استثمرتهم ضد أمريكا بعد 2003 اي بعد احتلال أمريكا للعراق.
2- راحت تدعم حزب الله وأمل بكل أنواع الدعم وخاصة المالي والعسكري حتي استطاع حزب الله تحرير الجنوب ثم توقف عند هذا الحد, وراح يلعب دورا فاعلا في السياسة اللبنانية الداخلية فكانت النتيجة ما تعيشه لبنان اليوم.
3- ثم امتد تأثيرها إلي البحرين وجرى فيها ما جراي من صراعات طائفية.
4- أما اليمن فقد دعمت الحوثيين وها هي اليوم اليمن تعود الى حروب طائفية أرجعت اليمن إلى ما قبل التاريخ..
5- اما سورية فرغم عمق العلاقة بينهما إلا أنها استغلت ظهور داعش بقوتها والدعم الذي لاقته من قبل اوباما وتركيا. ففي الوقت الذي نراه تقاتل فيه داعش الصديق القديم, إلا أنها لم تتخل عن دعمها للإخوان. والعمل بالاتفاق مع تركيا على تجميعهم والنصرة في إدلب.
6- ففي الوقت الذي تقاتل تركيا وقطر فيه سورية والجيش والشعب السوري, نرى ايران تقف الى جانبهما .. لقد زار أردوغان إيران وعقد اتفاقات أمنية وتجارية وصلت التجارة البينية إلى أكثر من أربعين مليار دولار كما أشرنا قبل قليل, وعندما وقفت مصر والسعودية والامارات والبحرين ضد قطر نجد ايران تفتح لها مطاراتها وسواحلها وتقدم لها كل الدعم للخروج من عزلتها. وعندما وضعت أمريكا وأوربا الإخوان تحت قائمة الإرهاب احتجت ايران على لسان وزير خارجيتها. وها هي تمارس سياسة التشييع في سورية من خلال استغلال ظروف سورية السياسية واستغلال فقر الناس الذين أنهكتهم الحرب.
السياسة الأمريكية والغربية والروسية:
أمريكا والغرب ليس لهم مواقف سياسية ثابتة.. امريكا ساهمت في إيجاد القاعدة لمحاربة المد الشيوعي, ثم حاربتها بعد أن أخذت تشكل خطورة على مصالحها, ثم عادت تنسق معها اليوم في افغانستان.
دعمت أمريكا وأروبا صدام في حربه ضد ايران, وعندما انتهت الحرب اسقطوه وساهموا في دعمه..
أمريكا دعمت الشيعة في العراق ضد صدام, وعندما تركوها وارتموا بأحضان ايران حاربتهم.
أمريكا تبحث عن مصالحها وتحمي من يقدم لها الإتاوات. أو تمرير مصالحها.
أوباما دعم ايران وغطى على مشروعها الإسلامي, وكذلك دعم تركيا وقطر في حربهما ضد سورية, مع سكوت أو مباركة إيرانية عندما وجد مصالح أمريكا في ذلك.
أما روسيا: فهمها الوصول إلى المتوسط فحصلت عليه وبمواقع متعددة بحرية وبرية وجوية.. علاقاتها مع اسرائيل أقوى من أي علاقة تقيمها مع أي دولة عربية ومنها سورية.. لديها أكثر من مليون وثلاثة مئة ألف يهودي روسي في اسرائيل, ليست مستعدة أن تهدد مصالحهم من أجل عيون العرب والمقاومة.. تربطها بإسرائيل علاقات اقتصادية وأمنية وعسكرية وتكنولوجية مدنية وعسكرية على مستوى عال… تبني علاقات مصلحية مع إيران كونها تقع على الخليج ولديها القدرة على تهديد أمريكا والغرب, في الوقت الذي تنسق فيه معهم إلى تحجيم دور إيران في سورية بشكل خاص حفاظا على أمن اسرائيل التي تضرب يوميا مواقع عسكرية سورية وايرانية داخل الأراضي السورية ولم تفعل صواريخ (إس 300) بعد.
أما دور الحكام العرب, فهم ملتهون بقضاياهم ومشاكلهم الخاصة, وقسم منهم راح إلى التطبيع مع اسرائيل, وما تبقى ينتظر دوره, أو يموت شعبه من الجوع.
د.عدنان عويد كاتب وباحث كم سورية