قبل الدخول في هذا الموضوع, لا بد أن نقول بأن هناك فرقاً بين إنسان يؤمن بمنهج فكري ويتخذه سبيلاً للنظر في قضايا الواقع تحليلاُ وتركيباً دون اقصاء للمنهاج الأخرى, وبين إنسان لا يميز بين المنهج والنظرية, ويعتقد أن هذا المنهج مذهباً أو نظرية يتحزب لهما سياسياً وفكرياً. وبالتالي يظل اعتقاده سائدا بأن الحقيقة كامنه عنده وحده.
فالأول قد يتكأ في بحوثه ودراساته على مناهج أخرى يغني فيها المنهج الذي اقتنع به واتخذه وسيلة لنظره في قضايا واقعه وسبل تغييره نحو الأفضل.
والثاني تمذهب في منهجه أو رؤيته المبهمة غير القادرة على التمييز بين المنهج والنظرية, واعتبر أن الحقيقة كامنة في رؤيته هذه, (المنهج – المذهب/ النظرية) وكل خروج عنها هو انحراف أو خروج عن تعاليم النص المقدس.
من هذا المنطلق دعونا نشير إلى مسألة أساس في هذا الاتجاه وهي موضوعة الماركسية كمنهج فكري, وبخاصة أن الماركسية لا تعني الاشتراكية أو الشيوعية. فالاشتراكية والشيوعية ما هما إلا نظامين اقتصاديين سياسيين اجتماعيين وثقافيين, تكون قوى وعلاقات الإنتاج دولة ما أو مجتمع ما قد وصلت إلى مرحلة تاريخية تسمح بطرحمها أو إنتاجهما. أو بتعبير آخر إن كلاً من الاشتراكية والشيوعية نظامان اقتصاديان اجتماعيان وسياسيان وثقافيان لا دخل للماركسية فيهما إلا من خلال الموقف المنهجي (المادي والتاريخي الجدليين) الذي يتخذه حملة هذين المشروعين للنظر في كيفية تطبيق هذين النظامين, وقد يختلفون منهجياً في تحديد ألية العمل ومن هي القوى الاجتماعية المؤهلة لتطبيقهما, فالخلاف الروسي الصيني وحتى الموقف التروتسكي, دليل على وجود هذا الاختلاف المنهجي.
من هنا علينا أن نصحح بعض المقولات أو المفاهيم التي أصبحت دارجة, وبخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة, مثل : المذهب الماركسي” و “غياب الصفة العلمية للماركسية”, وأن الماركسية ” أصبحت إطاراً أيديولوجياً تقليدياً”, وغيرها من المفاهيم التي برأيي, هي بحاجة ماسة إلى التوضيح .
فردنا أو تعليقنا على ادعاء مذهبية الماركسية نقول: إن الماركسية لم تكن مذهباً في يوم من الأيام, لا من حيث تسميتها من قبل من طرحها من جهة, ولا من حيث طبيعة قوانينها ومقولاتها من جهة ثانية. فالماركسية كانت ولم تزل منهجاً في التفكير, لها قوانينها ومقولاتها ممثلة في ( المادية الجدلية والمادية التاريخية وقوانين الاقتصاد السياسي), فنعتها بالمذهب أو النظرية, هو لصق صفة الجمود بها, وهذه ليست من صفات الماركسية التي من آولى قوانينها الحركة والتطور والتبدل.
أما لجهة القول:
بغياب الصفة العلمية عنها, فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف غابت الصفة العلمية عنها وهي لم تزل كمنهج تتمسك بكل مقولاتها وقوانينها التي قامت عليها؟, وهي القوانين والمقولات ذاتها التي منحتها الصفة العلمية. كالحركة, والتبدل, ونفي النفي, وحدة وصراع الأضداد, والعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون والجزء والكل والداخل والخارج, والتحولات الكمية تؤدي إلى تحولات كيفية, وقوى الإنتاج وعلاقاته هي من يحدد البناء الفكري بكل أنساقة, والتناقص بين المالك والمنتج سيؤدي بالضرورة إلى الصراع, وهو جوهر التحولات التاريخية, أو قابلة التاريخ.. الخ.
أو لجهة نعتها بالأيديولوجيا التقليدية, أي الأيديولوجيا التي وصلت إلى مرحلة الجمود, وفقدت قدرتها على مجاراة قضايا العصر, وبخاصة بعد انتهاء المنظومة الاشتراكية, فهذا النعت أيضاً غير وارد لسببين : الأول: إن الآيديولوجيا في سياقها العام عندما تقوم في جوهرها على الحركة والتطور والتبدل, ليست سبّة من حيث بنائها ووظيفتها, والثاني: كيف تكون الماركسية كمنهج علمي في التفكير, أيديولوجيا تقليدية, وهي من تقوم آلية عملها على الحركة والتطور والتبدل للظواهر؟!.
هذه مسائل إشكالية وخلافية في الآن ذاته, ساهم في نشرها وتعميمها كما اعتقد من شعروا بخطورة المنهج الماركسي على مصالحهم, وبخاصة الطبقات الاستغلالية والقوى المستبدة, ويأتي على رأسها الطبقة الرأسمالي التي صرفت ترليونات الدولارات من أجل تشويهها ومحاربة من تبناها فكرياً وعملياً تحت شعارات كاذبة, مثل الزندقة والكفر والإلحاد والإباحية والاستبداد, لا لشيء, إلا لكونها منهجاً علمياً في التفكير يوصل إلى الحقيقة في نسبيتها, وكشف أعداء الحقيقة والتنوير والعدل والمساواة بين الناس, في الوقت الذي ساد في الغرب وأمريكا نظريات ومذاهب فكرية ومناهج وممارسات عملية على كافة المستويات حملت بذاتها كل هذه النعوت السيئة التي أرادوا تحميلها للماركسية ومعتنقيها, ومع ذلك لم تحارب, بل فتحت قاعات العلم لها في الجامعات الأوربية والأمريكية. ومن هذه النظرية الوجودية والعبثية ونظريات العنف, وما بعد الحداثة .. وغيرها.
مسألة التشظي الماركسي :
أما مسألة التشظي الماركسي التي تمثلت في تعدد المدارس الماركسية, فهذه مسألة ترتبط بطبيعة الفكر الماركسي ذاته من جهة, وهو الفكر الذي يؤمن بخصوصيات الواقع وتاريخيته وتعدد تجاربه, وهذه المسألة بالذات أشار إليها منظروا الفكر الماركسي بدقة, ومنهم لينين على سبيل المثال عند مخاطبته القادة السياسيين في دول العالم الثالث, ممن تبنت بلادهم الطريق الاشتراكي في التنمية آنذاك قائلاً: ( يخطئون هؤلاء الذين يقولون إن ذلك اللون الرمادي صالح لكل زمان ومكان). أي يخطئون الذين يقولون أن تطبيق المنهج الماركسي في رؤيته لتطبيق الاشتراكية في أوربا يمكن أن يطبق في روسيا أو دول العالم الثالث المتخلف.
أما التجربة الماركسية (منهجياً) التي تبنتها أحزاب الطبقة العاملة في الغرب, فهي تجربة براغماتية بحت شجعت الطبقة الرأسمالية على قيامها رغبة منها في السيطرة على طموحات وإرادة الطبقة العاملة في الغرب, وهذا ما تم بالفعل, فكل الأحزاب التي تدعي الاشتراكية التي تبنت المنهج الماركسي أسلوباً في التطبيق, ومارست السلطة تحت يافطة “حزب العمال” هي لا تختلف في توجهاتها وحواملها الاجتماعية – وبخاصة قياداتها – من حيث العمل لمصلحة النظام الرأسمالي, بدءاً بحزب العمال الفرنسي, مروراً بالحزب العمالي البريطاني, وصولاً إلى الاشتراكية الدولية ممثلة بكل أحزابها على مستوى الساحة الدولية.
أما الحديث عن نهاية الماركسية وخمود شعلتها, وما هي مقاربتنا لبداية جديدة, فهذا يدفعنا للتساؤل من جديد, هل من المعقول أن تخمد أو تنطفئ شعلة كل ما هو علمي وعقلاني في هذه الحياة؟, وهل استمر في تاريخ البشرية غير من يحمل هذه الصفات العقلانية والعلمية؟, ثم أين هم من وقفوا ضد كوبورنيك, وهارفي, وسقراط, وأبن رشد, وغيرهم ممن يمثلون نسبية الحقيقة وحمل مشعل العلم والعقلانية؟! .
أعتقد أن أزمة الماركسية هي أزمة معرفة بها أولاً, ثم أزمة حوامل اجتماعية لم تصل بعد إلى مرحلة وعي الذات ثانياً, وأخيراً أزمة من لم يستطع بعد أن يفهم أن الماركسية ليست الشيوعية, فالدعوة إلى العدالة والحرية والمساواة, طرحت قبل الماركسية بمئات السنيين, وستظل تطر
ح في التاريخ الإنساني من قبل من يؤمن بالعدالة الاجتماعية, ماركسياً كان أم غير ماركسي. القضية هنا قضية فكر عقلاني تنويري يدافع عن الإنسان ومصالحه, وعن الآلية التي تتحرك فيها هذا الشعوب نحو تحقيق العدالة, واخيراً كشف من هم وراء كل هذا الظلم الذي يصيب الناس وكيف يقوم, ومن هي القوى الاجتماعية الكامنة وراءه.
د. عدنان عويد كاتب وباحث من ديرالزور – سورية