مدخل:

     لا يستطيع أحد أن يتجاهل دور الدين في حياة الإنسان (الفرد والمجتمع) بشكل عام, فمنذ أن وعي الإنسان نفسه وحضوره في هذه الحياة, راح يتساءل عن كل ما يحيط به من ظواهر وعن أسباب تأثير هذه الظواهر عليه, ولعدم وصول وعيه إلى كشف القوانين التي تحرك هذه الظواهر وإنتاجها, فرض عليه جهله هذا الخوف من هذه الظواهر, فراح يضفي عليها شيئاً من التقديس الذي أوصله إلى مرحلة عبادتها, بيد أنه, كلما استطاع أن يكتشف سراً من أسرار آلية عمل هذه الظواهر وتكونها وآلية حركتها عبر إنتاجه لخيراته المادية والروحية, أخذت قدسية هذه الظاهرة أو الظواهر التي اكتشف اسرارها تتهاوى وتفقد قدسيتها لتتحول إلى ظواهر عادية يتعامل معها بكل ثقة, ويعمل على تسخيرها لمصلحته.

      من هذه المعطيات جاءت الارهاصات الأولية لتشكل الدين الطبيعي أو الفطري كحالة إيمانية استسلاميه لكل ما هو مجهول.

      إن هذا الدين الذي ظل يشكل بسبب تعقد حياة الإنسان وغموض أسرار الكثير من ظواهر هذه الطبيعة والمجتمع التي تحيط به, المنهل الفكري لتشكيل الحيز الأكبر من وعيه, وبالتالي تفسيره للكثير من عمل ونشاط مفردات حياته في سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, وهذا الوعي, راح يتعمق أكثر فأكثر مع الديانات السماوية, الأمر الذي شكل فيما بعد إشكالية معرفية ليس لها حدود تتمثل في تصنيم وعي الإنسان ذاته (عقله), وخلق حالات تناقضه تجاه ما يحيط به, أو يتعامل معه من ظواهر طبيعية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية, وبالرغم من كل التطور الهائل الذي حققه هذا الإنسان في عالم التكنولوجيا والعلوم وعلى كافة مستوياتها, إلا أنه لم يزل محكوما بدرجة كبيرة بهذا العقل الديني. أي بتعبير آخر, لقد توجه وعي الإنسان (عقله) ما بين تفسير هذه الظواهر وحركتها وتبدلها وفقاً لما حققه العلم الوضعي من نتائج من جهة, وبين استمرارية آلية هذا التفسير وفقاً للخطاب أو الوعي الديني الذي اكتسبه الإنسان عبر تاريخه الطويل, والذي أصبح له حضوره الفاعل في لاوعي الإنسان ذاته من جهة ثانية.

     إن هذا الوعي أو العقل الديني (المطلق أو المتعالي على الواقع), أصبح له مؤسساته ورجاله الذين يعملون عبرها ليل نهار من أجل تكريسه وجعله وعياً حاضراً في حياة الإنسان اليومية المباشرة, وغالباً ما تشرف الدول والحكومات نفسها على دعم هذه المؤسسات ورجال الدين (المشايخ) وتقديم كل الدعم لهما طالما هما يعملان في المحصلة لمصلحتها, وهذا هو موضوعنا مقالتنا هذه.

السلطة والتوظيف السياسي للدين: 

     على العموم لا يهمنا هنا البحث في مفهوم الدين ومؤسساته وطريقة إنتاجه, بقدر ما يهما التركيز على مسألة استغلال الدين وتوظيفه من قبل السلطات أو الحكومات تاريخياً, خدمة لمصلتها و النتائج التي ترتبت على هذا التوظيف كما بينته ثورات الربيع العربي على سبيل المثال لا الحصر, والتي كان للخطاب أو الوعي الديني الدور الكبير في قيامها.

     إن اتكاء السلطات الحاكمة على الدين وتسخيره لمصلتها ليس جديداً في تاريخ المجتمعات البشرية, فهو قديم بقدم تشكل السلطة ذاتها التي فُسرت أسباب وجودها تفسيراً دينياً, وراح الحاكم نفسه يضفي على نفسه صفة الألوهية, أو أن مسألة اختياره حاكماً هي أمر مقرر من عند الله, ووجد من هو قادر على  تسويق هذه الفكرة من رجال الدين الذين تعاملوا مع هذا الدين كحرفة منحتهم منذ البداية قوة معنوية لا حدود لها, بحيث استطاعوا فيما بعد ترسيخها بقوة مادية بعد أن التحموا بإرادة الحاكم الذي أغدق عليهم من الأموال والأطيان مقابل تحالفهم معه ومنحه شرعية السلطة والعمل على إقناع أفراد المجتمع بألوهيته, ما جعل رجال الدين هؤلاء يعيشون حياة الملوك ذاتها في عصور ما قبل التاريخ كما هو الحال عند الأشوريين والبابليين والأكاديين والفراعنة وغيرهم من مجتمعات تلك المرحلة, بل أن حياة هؤلاء كانت أكثر أمناً واستقرارا من حياة الملوك ذاتها, كونهم يسطرون على وعي الشعب والحاكم معاً.

     إن وظيفة رجال الدين الموالين للسلطة توضحت معالمها منذ بداية علاقتهم النفعية مع السلطة, فرجال الدين هؤلاء عبر علاقتهم هذه, عملوا في الحقيقة على إقصاء حرية الإنسان باتجاهين هما: 

     الأول: هو جر المؤمن إلى الخضوع والتسليم للنص الديني المقدس, وبذلك أفقدوا الإنسان حرية التفكير والتعبير عن رأيه وقناعاته, أي بتعبير آخر عملوا على حجر عقل الإنسان واخضاعه لعقل مطلق خارج تاريخ الإنسان ذاته, بغض النظر عن طبيعة هذا العقل وسماته وخصائصه.

     الثاني: موالاتهم للسلطان أو الحاكم, وبهذه الموالاة راحوا يدافعون بهذا الشكل أو ذاك عن هذا الحاكم تحت ذرائع دينية, كانت تقول في البداية بأن الحاكم هو الإله, ثم تطورت إلى أنه يمثل الإله, لتصل في نهاية التبرير هذا, إلى القول بالخوف من الفتنة إذا ما ثار الجمهور ضده, والفتنة هنا أشد من القتل. 

     من هنا ابتدأت العلاقة المصلحية التضايفية بين الحاكم ورجل الدين, ومن هذا العلاقة المصلحية استمرت العلاقة ذاتها وتمأسست حتى وقتنا الحاضر. فتاريخ السلطة لدى كل الشعوب ظل يشير إلى تلك العلاقة بغض النظر عن طبيعتها ودرجة عمقها التي تصل أحياناً إلى سيطرة السلطة الزمانية على السلطة الروحية (الدينية) وإخضاعها لإرادتها, أو سيطرة السلطة الروحية على الزمانية وتسييرها وفقاً لإرادتها, كما جرى في تاريخ الكنيسة الأوربية.

العلاقة البراغماتية بين السلطان ومشايخه في الخطاب الإسلامي:

     أما في تاريخ الدولة الإسلامية, فالعلاقة بين السلطتين ظلت قائمة لمصلحة الخليفة الذي وظف الدين توظيفاً دينياً منذ قيام هذه الخلافة, على اعتبار أن بداية نشوء الدولة الإسلامية جاء مع الدعوة الإسلامية, لذلك لا نستغرب ذاك الاستغلال الواسع والعميق للدين من قبل الخلفاء وخاصة بعد انتهاء الخلافة الراشدية بالرغم من ان الخليفة الراشدي (عثمان هو من أسس لهذه العلاقة الحميمة بين الدين الإسلامي والسلطة عندما أرادت المعارضة منه أن يتخلى عن السلطة ورفض مطلقاً مقولته التاريخية المشهورة (هذا قميص البسنيه الله لي ولن اتخلى عنه). والأمر ذاته كرسه الخليفة الأموي معاوية في أول خطبة له عندما اعتبر خلافته أمراُ مقدراُ من قبل الله, وعلى الرعية الرضوخ لها باسم الدين ذاته حيث قال: (الأرض لله.. وأنا خليفة الله, فما أخذت فلي, وما تركت للناس فبضل الله..). (1)  وهذا ما سار عليه الخلفاء الأمويون جميعاً. ليأتي بعدهم العباسيون الذين برروا خلافتهم أيضاً بقدر إلهي كما أعلن (أبو جعفر المنصور) عند استلامه الخلافة  حيث قال: (يا أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة, وعنكم ذادة, نحكمكم بحق الله الذي أولانا سلطانه الذي أعطانا, وأنا خليفة الله في أرضه وحارس على ماله.). (2). ونتيجة هذا الاتكاء على الدين لتبرير السلطة, بدا الدين نفسه يفسر ويؤول وفقاً لهذه العلاقة, ما بين مؤيد للسطلة من رجال الدين, أطلق عليهم الجبريين, وما بين معارض للسلطة الذين أطلق عليهم القدريين, وكلاهما اتخذ من النص المقدس ما يبرر مواقفه الفكرية والعملية, الأمر الذي أساء للدين ذاته عندما راحت النصوص تؤول  والاحاديث توضع خدمة للسياسة والسياسيين.

العلاقة بين رجال الدين والسلطان في تاريخنا الحديث والمعاصر:  

     مع تاريخنا الحديث والمعاصر, بالرغم من تطور الحياة المدنية, وتشكل دولة المؤسسات, أو القانون, وانتشار مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والحرية والمواطنة, وتطور الوعي الإنساني ذاته مع تطور العلوم الطبيعية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية والتربوية .. الخ, ظلت السلطات الحاكمة تعمل على استغلال الدين وتوظيفه خدمة لشهوتها في السلطة. هذا مع تأكيدنا هنا, على أن حالة الاتكاء على الدين ورجاله (مشايخه) في عصرنا الحاضر ظلت تمارس عبرها عملية التجهيل للمواطن وزرع قيم الامتثال والاستسلام للحاكم باسم الدين, وذلك لتبرير استمرارية سلطته من جهة, وللتغطية على مفساد السلطة ذاتها من جهة ثانية. وهذا يذكرنا بموقف لنابليون بونابرت يمثل في حقيقة أمره أو دلالاته ما يجري في تاريخنا الحديث والمعاصر من علاقات بين الحاكم والدين. وذلك عندما زاره العالم (لابلاس) وقدم له كتاباً عن الفضاء وحركات كواكبه وغير ذلك من علوم تتعلق بهذا الفضاء وفقاً لدرجة التطور العلمي  الذي وصل إليه العلماء آنذاك, وبعد أن قرأ نابليون الكتاب, استدعى مؤلفه ليسأله قائلاً:

 – أين هو موقع الله من هذا الظواهر الموجودة في الفضاء؟ .

 فرد لابلاس على سؤاله.

 – ليس هذا من اختصاصي .

فقال له نابليون :  

– إذهب وضع للإله مكانة في كتابك هذا, أم انك تريد للفرنسيين أن يقولوا إن كل مصائبهم من نابليون بونابرت!!.

    بهذا الموقف النابليوني البراغماتي, يتبين لنا كيف يُستغل الدين من قبل السلطة لتحقيق مصالحها. هذا في الوقت ذاته, تقوم السلطة بإسم الدين نفسه أيضاً في محاربة الجماعات الدينية المسيسة التي تسعى للوصول إلى السلطة. فالأنظمة الحكومية  أو السلطوية غير الشرعية – وما أكثرها – التي تقاوم القوى الدينية المسيسة من خلال الدين, هي في النتيجة تتجه إلى الحقل الديني الأيديولوجي ذاته الذي تتكئ عليه القوى الدينية المسيسة المتطرفة, الأمر الذي يجعلها تنزلق تحت المظلة الفكرية التي تتظلل بها هذه القوى الدينية, وذلك يأتي عبر تنامي لغة المزايدة على الدين نفسه, من خلال ادعاء هذه الأنظمة بأنها هي من يمثل الدين والمتدينين معاً وليس القوى الدينية السياسية المتطرفة. وهذا التوجه نحو الدين من قبل السلطة التي تدعي (العلمانية), ما يدفع تلك الأنظمة أن تتخلى مع مرور الأيام شيئاً فشيئاً عن مشروعها الفكري التنويري العلماني النهضوي التحرري الذي بشرت به قبل وعند استلامها السلطة, لحساب المشروع الفكري الديني القروسطي الامتثالي الاستسلامي. وتحت ضغط هذا التنازل, ستكون هناك بالضرورة تنازلات كثيرة من قبل هذه الأنظمة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي, وهي تنازلات ستكون مناهضة لمشروعها الأساسي الذي بشرت به عند وصولها إلى السلطة كما أشرنا قبل قليل, الأمر الذي يجعل مشروعها الفكري التنويري العقلاني في حالة طيران. فعند توجه القوى السياسية ضدها, نجدها تلجأ أو تعود لمشروعها التنويري النهضوي تتاجر به, وعند ما يتم انتصارها على هذه القوى السياسية الدينية المتطرفة, تعود إلى خطابها الديني الاستسلامي الامتثالي, الذي يغلب عليه التوجه الصوفي والأشعري المشبع بالجبرية.

      إن هذا الموقف من التنازلات, هو الذي يدفع على سبيل المثال لا الحصر رجل الدين (مشايخ السلطان) أن يستغلوا أيضا حالات الاستقرار ودعم السلطة لهم, ليقوموا بتمرير ما ينافي أو يعارض المنطلقات الفكرية للسلطة القائمة والتحريض عليها دون علمها, كما جرى في سورية قبل الأزمة, حيث استغل الكثير من رجال الدين حالات دعم الخطاب الإسلامي بعد أحداث ثمانينيات القرن الماضي, حيث نجد  الشيخ (عبد الرحمن عيسى) يكتب في مجلة (نهج الإسلام) الرسمية الصادرة عن وزارة الأوقاف السورية  حيث يقول : ( … وبعد فإن منطلق الفكر الإسلامي من فحوى آيات الله في القرآن المجيد, المفسرة لحقائق الوجود, وليس في تطلعت المفكرين في الغرب, وخططهم الثقافية المبتورة والمجذومة, التي لم تُفتح باسم الله ولم يُوقع عليها رسول الله, فهي مردودة على ذويها لا لكونها باطلة أو غير صحيحة, بل لوجود الاستغناء عنها بكتاب الله المهين..) . ثم يقول في موقع آخر من المقال ذاته: (فإن إخفاق النظم الوضعية مؤشر على تقدم الإسلام ليؤدي دوره المرتقب والموعود ويشل فاعلية أهل الجحود, وليعطي البشرية دفقة حب وتصفية وعطاء بعد ليل كالح.). (3) واعتقد أن ما قامت به الفصائل المسلحة الإسلامية في سورية خلال هذه السنوات من دمار, هي نتيجة هذه الدفقات من الحب والعطاء التي كانت تبشر بها مجلة نهج الإسلام وكتابها, بعد إقصاء المشروع الفكري التنويري القائم على رؤى  تؤمن أو تقوم على النسبية والحركة والتطور والتبدل, لحساب حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان يبشر بها مغرمو الكتب الصفراء.   

د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية 

الهوامش

 1-  عبد الجواد ياسين- السلطة في الإسلام- المركز الثقافي العربي –ص.2

2- المرجع نفسه. 42

3- مجلة (نهج الإسلام) الرسمية الصادرة عن وزارة الوقاف السورية في العدد /24- 1986/ مقالاً بعنوان (الفكر الإسلامي – نحو نهج إلهي إنساني جامع)

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …