أتيح لي أن أحضر مؤخرا ندوة مكثفة في مراكش عن: «الإسلاميون ما بعد الربيع: المواقف، سؤال التجديد، الآفاق». وقد نظمتها مؤسسة جديدة تدعى «مؤمنون بلا حدود». أعترف بأني فوجئت بهذا الاسم إلى حد ما عندما سمعت به لأول مرة. فقد خشيت أن تكون منظمة دينية تقليدية ولكن مغلفة بغشاء براق أو اسم حديث. بل وحتى خشيت من الاسم نفسه. فقد توهمت للوهلة الأولى أنها محصورة «بالمؤمنين» فقط: أي بالمتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة. ولكن بعد أن شرح لي مولاي أحمد صابر والمنتصر حمادة مدلولها في أحد مقاهي «الرباط العامرة» تبخرت مخاوفي واطمأننت تماما. وعرفت عندئذ أن لهذه المؤسسة رسالة ورؤية وطموحات كبيرة. إنها تهدف إلى «إعلاء قيم التنوع الثقافي والحضاري والتسامح من خلال رؤية إنسانية للدين منفتحة على آفاق العلم والمعرفة ومكتسبات الإنسان الحضارية». ماذا تريدون أكثر من ذلك؟
شارك في ندوة مراكش التي انعقدت على مدار يومين متتاليين في فندق كنزي فرح حشد كبير من الباحثين المغاربة وبعض المشارقة. وأنا معجب بالمثقفين المغاربة لسببين؛ الأول أنهم أقل أدلجة وديماغوجية منا نحن المشارقة. والثاني هو أنهم مطلعون على نظريات الحداثة الفكرية من خلال النافذة الفرنسية. افتتح الندوة متحدثا باسم المؤسسة الدكتور الطيب بوعزة رئيس قسم الفلسفة في جامعة طنجة. وقد شرح لنا رسالة المؤسسة وأهداف الندوة. وكان مما قاله: إننا نعاني من ضبابية الرؤية وعدم وضوحها في هذه الظروف الانتقالية الحرجة. وبالتالي فالندوة المراكشية تحاول أن تعيد للمثقف دوره لكي يضيء لنا الطريق وأحوال الساعة. ثم أردف بأن ميزة الثورة الفرنسية على الانتفاضات العربية هي أنه سبقها قرن كامل من الأدبيات التنويرية المتخصصة في الفلسفة السياسية. وهذا ما ينقص العالم العربي بشكل موجع اليوم. ثم ختم بهذه العبارة البليغة التي تلخص الوضع الراهن كله: للأسف لا يوجد لدينا روسو عربي أو ديدرو عربي يساعدنا على إنارة الطريق.
أما الدكتور أميم عبد الجليل فقد استعرض لنا آراء عدد كبير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الغربيين الذين عادوا إلى الدين وتخلوا عن العلمانية بحسب رأيه المتسرع والمتحيز للطروحات الأصولية. وبالتالي فإذا كان مثقفو الغرب قد تراجعوا عن العلمانية والدولة المدنية والحداثة فلماذا نحاول نحن المثقفين العرب أن نركض وراء كل ذلك؟ ما هذا الغباء! اخرسوا يا جماعة التنوير وأريحونا منكم ومن ثرثراتكم التي لا تنتهي. فما بعد الحداثة جبت الحداثة! ولسنا بحاجة إلى تنوير ديني ولا من يحزنون. من الواضح أن هذا الكلام يحتوي على جزء من الصحة على الرغم من أنه ملقى على عواهنه تقريبا. فبعض مفكري الغرب يدعون اليوم إلى مراجعة العلمانية النضالية الحامية للقرن التاسع عشر والعشرين بغية التوصل إلى علمانية جديدة: أي علمانية إيجابية استيعابية منفتحة على الأبعاد الروحية للإنسان. ولكن الباحث المحترم لا يأخذ بعين الاعتبار اختلاف الحيثيات والمعطيات للوضع التاريخي بين العالم العربي وأوروبا. وهو وضع معكوس في الواقع. إنه لا يأخذ مفهوم التفاوت التاريخي بعين الاعتبار. وهذا يؤدي إلى بلبلة الرؤية وخلط المنظورات وخربطة الإشكاليات. فإذا كانت مجتمعات الغرب تعاني من تخمة حداثية فإن مجتمعاتنا تعاني من تخمة تراثية. وشتان ما بين التخمتين! وبالتالي فعودتهم إلى الدين، إذا كانت هناك عودة، ناتجة عن رد فعل على تطرف إلحادي مادي زاد على حده حتى انقلب إلى ضده. وهابرماس إذا كان يدعو إلى إشراك المتدينين المسيحيين في العملية التضامنية مع الفقراء والمهمشين في الغرب لا يريد التراجع إطلاقا عن العلمانية والتنوير الديني الذي حصل عندهم سابقا. إنه لا يدعو للرجوع إلى عصر الأصولية المسيحية! فهو يعتبر التنوير الفلسفي الذي أطاح الأصولية مكتسبا أساسيا لا يمكن التراجع عنه بأي شكل من الأشكال. ولكن بعد أن انتصر التنوير في الغرب وأصبحت الأصولية الدينية مهمشة تماما ولم تعد تشكل أي خطر فإنه يمكننا أن نأخذ من الدين روحانيته وقيمه الأخلاقية التضامنية التي نسيتها المجتمعات الرأسمالية التي فقدت إحساسها الإنساني والتضامني مع الذين فشلوا في الحياة وأصبحوا مرميين على قارعة الطريق.
أما الدكتور رشيد علمي الإدريسي الذي خرّج أجيالا من الباحثين المغاربة في جامعة القاضي عياض بمراكش، فقد فاجأنا بموضوع فلسفي من أعلى طراز ألا وهو: قراءة في كتاب هانس بلومنبورغ «مشروعية الأزمنة الحديثة». ومعلوم أنه من أمهات الكتب التي تشرح لنا بشكل أركيولوجي عميق سبب نشأة الحداثة وكيف أطاحت العصور الوسطى اللاهوتية المسيحية. وربما كان ذلك أهم حدث في تاريخ الفكر البشري أو أحد أهمها على الأقل. ومعلوم أيضا أن الفرنسيين تأخروا في ترجمة الكتاب إلى لغة فولتير ولاموا أنفسهم كثيرا على ذلك. فقد صدر بالألمانية عام 1966 ولم يترجم إلى الفرنسية إلا عام 1998! ولا أعرف متى سيترجم إلى لغة الضاد.
ثم شاركت شخصيا بالمداخلة التالية: كيف يمكن تحقيق المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة؟ وفيها أجريت مقارنة متوازية بين المسار العربي الإسلامي والمسار الغربي المسيحي تجاه الحداثة. وقلت ما معناه: إن معارضة الأصوليين المسيحيين للحداثة على مدار ثلاثمائة سنة قبل أن يستسلموا لها مؤخرا ويعترفوا بإيجابياتها لا تختلف في شيء عن معارضتنا نحن لها. فقد حاربوا الليبرالية والدولة المدنية والانتخابات الديمقراطية وسيادة الشعب والفلسفة العقلانية والتفسير التنويري للدين وكل «أخطاء العالم الحديث» كما قال البابا الأصولي بيوس التاسع في فتواه الشهيرة عام 1864. ولم يستطيعوا حل مشكلتهم مع الحداثة أو التصالح معها إلا بعد قرن أو قرنين من الصراعات الفكرية والسياسية. وهي نفس المشكلة التي نتخبط فيها نحن حاليا.
المحلل الثاقب النظر الأستاذ مشاري الذايدي يقول إني محبط ومعه الحق إلى حد كبير. وأصلا لا أعرف كيف يمكن أن لا يكون المرء محبطا في مثل هذه الظروف التي نعيشها حاليا. ولكنه إحباط مؤقت سيزول بزوال أسبابه. بالطبع فإن الإشكالية التي طرحها أعمق من ذلك وتستحق وقفة خاصة ترد لاحقا. على أي حال فإن كل هذه المسائل ستناقشها «مؤسسة مؤمنون بلا حدود» في مؤتمرها الافتتاحي المنعقد حاليا في مدينة «المحمدية» التي حباها الله أشرف اسم وأجمل موقع على البحر المحيط.
عن جريدة الشرق الاوسط