كان الأستاذ وقيدي، بنظرنا، وبحسب ماتوفر لدينا من معطيات تأريخية للفكر الإبستمولوجي بالجامعة المغربية، سباقا إلى تطبيق معطيات الإبستمولوجيا على كثير من فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ خاصة في حقول: التحليل النفسي، وعلم النفس التكويني، وعلم اجتماع المعرفة، وتاريخ العلوم. فعلى مستوى حقل التحليل النفسي تبنى الأستاذ وقيدي أطروحة باشلار في تحديد مهمة الإبستمولوجيا على مستوى هذا الحقل، وهي: التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، وهو ماشرحه باشلار في كتابه المرجعي: ( تكون الفكر العلمي) La formation de l’esprit scientifique. وقد أخذ باشلار من التحليل النفسي فرضية: اللاشعور؛ أي اعتبار الجانب اللاشعور من الحياة النفسية الذي يتم كبته لتعارض رغباته وميوله مع مقتضيات الحياة الاجتماعية العامة وضوابطها القانونية والأخلاقية؛ أي لايعني أن هذه الرغبات والميولات تموت وتفقد ديناميتها ورغبتها التي لاتنتهي في الظهور. لذلك تقرر في أبحاث مدرسة التحليل النفسي، مع فرويد (1856-1939)، وهو مرجع أساسي في تحليل باشلار، أن الحياة النفسية اللاشعورية لها تأثير كبير على حياتنا النفسية الشعورية. وعليه، يساعد مفهوم اللاشعور على تفسير السلوك الإنساني، وعلى إلقاء الضوء على حالات المرض النفسي، وعلى حالات الاضطرابات النفسية في مستوياتها الكثيرة؛ من أزمات، وعقد، ونكوص… لذلك اقترح باشلار استثمار هذا المفهوم في التحليل الإبستمولوجي؛ أي توظيفه باعتباره أداة إجرائية نقلها من مجال تطبيقها الأصلي وهو الحياة النفسية للشخصية الإنسانية إلى مجال العمل العلمي، وبالتالي دراسة الجانب النفسي في الممارسة العلمية غير المشعور به؛ مثل البحث عن ( المكبوتات العقلية) وعن تأثيرها في البحث العلمي، وهي التي يسميها باشلار ب: ( العوائق الإبستمولوجية)، وهي منبثقة عن العمل العلمي من داخله وليست وافدة عليه من خارجه. فالمعرفة العلمية، من منظور باشلار، تجري ضمن شروط نفسية، مما يجعل التفكير في الشروط النفسية للمعرفة العلمية هو نوع من معالجة المعرفة في صيغة عوائق، ومن ثمة الكشف عنها. فالعوائق الإبستمولوجية تظل ملازمة للعمل العلمي، لأن الرغبات والميولات، باعتبارها عوائق، ذات ضرورة وظيفية للحياة النفسية، ومن ثمة للحياة العلمية، ويستمر الاصطدام في الممارسة الإبستمولوجية، وفي تاريخ العلم بعامة، بين ( القطعيات الإبستمولوجية!!)، وبين ( العوائق الإبستمولوجية)؛ فلحظة القطيعة الإبستمولوجية، من منظور باشلار، هي تعبير عن اللحظة التي يحقق فيها العلم قفزة كيفية في تطوره، ويتجاوز فيها العوائق الإبستمولوجية. إن لحظة القطيعة هي لحظة ميلاد فكر علمي جديد على أنقاض فكر علمي قديم؛ مثل: الانتقال من فيزياء نيوتن إلى فيزياء انشتين( الفيزياء النسبية)، أو إلى الميكروفيزياء. وهذا التحول النوعي يكون مانعا لظهور العوائق الإبستمولوجية. وحدد باشلار صورا للعوائق الإبستمولوجية؛ مثل: ( التجربة الأولى)، و ( التعميم)، بما يثبت العلاقة التي يتصورها باشلار بين الإبستمولوجيا وبين التحليل النفسي، من منطلق أن المعرفة العلمية عملية نفسية وعقلية، كما أن القيم الإبستمولوجية قيم معرفية ونفسية لكونها لا تتعلق بالتطور العلمي وحده بل بالفكر الإنساني برمته؛ إذ تؤثر على بنيته، مع التأكيد على أن المعرفة ليست شروطا نفسية وحسب، وكذا ضرورة الوعي بحدود التحليل النفسي للمعرفة العلمية. وبرغم ذلك، يقر الأستاذ وقيدي، في خضم تقييمه لمجهود باشلار في هذا السياق، بضرورة التكامل بين الإبستمولوجيا والتحليل النفسي، وكذا علم النفس التكوينيLa Psychologie génétique، وفق مقترح جون بياجيه. ويعتقد بياجيه أن تكامل الإبستمولوجيا مع علم النفس التكويني سيحولها من مجرد تحليل فلسفي إلى علم إنساني جديد قائم بذاته، هو: الإبستمولوجيا التكوينية. ويتوفر هذا العلم الجديد على شرط العلمية، وهو: التحديد الدقيق لموضوع البحث، ومنهج المعالجة النوعية لذلك الموضوع. وهذا مايفصل الإبستمولوجيا عن حقل الفلسفة العامة، وهو ما أنجزته بنظره علوم إنسانية أخرى؛ مثل: علم النفس، وعلم الاجتماع، والمنطق.
إن علم النفس التكويني يساعد الإبستمولوجيا، إذن، على دراسة تكون المفاهيم العلمية، والنظر إلى المعرفة من حيث إنها ( سيرورة)، بما يجعل التكامل بينها وبين بقية العلوم أمرا ضروريا، ومطلبا علميا. و في هذا السياق، اعتبر الأستاذ وقيدي أن ( علم اجتماع المعرفة) Sociologie de la connaissance ، هو الفرع العلمي المناسبق للربط بين الإبستمولوجيا والسوسيولوجيا. فعلم اجتماع المعرفة يفيد الإبستمولوجيا في رصد أثر الشروط المجتمعية في السيرورة الذاتية للمعرفة العلمية، خصوصا عندما يكون العلم أقرب إلى الإنسان، ليصل الأثر مداه عندما يكون الإنسان موضوعا للبحث العلمي. وفي هذه الحالة يشتد الجدل بين المعرفة وبين الأطر الاجتماعية للمعرفة، وبين ماهو علمي وما هو أيديولوجي، وهذا الأخير تنفذ منه آثار الأطر المجتمعية إلى داخل المعرفة العلمية.( اعتمد الأستاذ وقيدي في تحليل هذه النقطة على كتاب جورج غورفيتش: الأطر الاجتماعية للمعرفة، 1968،PUF ). فقد حدد جورج غورفيتش دوائر ثلاث لتكامل الإبستمولوجيا مع علم اجتماع المعرفة؛ وهي: وجود معرفة جماعية، وعالم الرموز المعرفية، والبحث في الدلالات؛ أي وسائط نقل المعرفة، وماتدل عليه. ويستدرك الأستاذ وقيدي على جورج غورفيتش أن المشترك بين الإبستمولوجيا وعلم اجتماع المعرفة ليس هو المعرفة بعامة، بل هو المعرفة العلمية تحديدا. كما اختلف معه في دور المنطق في الرقابة على صلاحية الحقيقة العلمية للإبستمولوجيا. فهو لا يرى دورا للمنطق إلا عند الرغبة في بحث صلاحية النظريات والأفكار العلمية وحسب، ولاتصبح الإبستمولوجيا، عندها، مجرد تابع لعلم المنطق!
(6).
يرى الأستاذ وقيدي أن تاريخ العلوم هو أقرب حقل علمي إلى الإبستمولوجيا من حيث الموضوع والأهداف؛ فهما يدرسان موضوعا واحدا هو المعرفة العلمية، ويختلفان من حيث النظر إليها. كما أن العلاقة بينهما أكثر تعقيدا إلى درجة يصعب فيها الفصل بينهما أثناء الممارسة؛ فتاريخ العلوم يمارس عادة بتصور إبستمولوجي، سواء كان مؤرخ العلوم واعيا به أم لا! وسواء أكان صريحا أم ضمنيا. من هنا يتساءل الأستاذ وقيدي عن كيفية ممارسة الإبستمولوجي لمهمته من دون صلة بتاريخ العلوم، ومن ممارسة مهام مؤرخ العلوم، صراحة أو ضمنا. وهو أمر غير ممكن؛ إذ يستحيل فصل الممارسة العلمية عن تاريخها. فمؤرخ العلوم يزود الإبستمولوجي بالتصورات، وقد يستخلصها هو بنفسه. ويدافع الأستاذ وقيدي عما يسميه ب ( التكامل الايجابي) بين الحقلين، بعيدا عن الرغبة في تكريس احتواء أحدهما للآخر.( كتب الأستاذ وقيدي دراسة مستقلة في الموضوع. مجلة أقلام ( المغرب) العدد 54).
لقد درس الأستاذ وقيدي علاقة الإبستمولوجيا بالعلوم الإنسانية، بما ساهم في تعميق الدرس الإبستمولوجي بالجامعة المغربية، في مختلف الشعب، وبما ساهم في انفتاح الدرس الإبستمولوجي على تحليل أكثر موضوعيةلواقع المعرفة العلمية. وفي هذا السياق ركز الأستاذ وقيدي على تحديد معالم ( الإبستمولوجيا التكوينية، موضوعا ومنهجا) من حيث هي علم، ليفصل بذلك بين الممارسة العلمية ( الجزئية والدقيقة) وبين الممارسة الفلسفية ( الكلية والتأملية). وكان هذا التحليل فرصة ليقدم الأستاذ وقيدي نقدا عنيفا للفلسفة وللفلاسفة، الذين لايساهمون بنظره في تقدم العلوم. وانتقد منهج التأمل الفلسفي الذي ساد في الجامعة، وفي الدراسات الفلسفية على الخصوص، مما رسخ لدينا، بنظره، تنظيما جامعيا يفصل بين العلم والفلسفة. فصل لم يسمح، بنظر الأستاذ وقيدي، بتوزيع جيد للطاقات بين البحث في الوقائع وبين البحث التأملي الخالص. وهذا مارسخ معتقدات عند العديد من الباحثين وعند العديد من المجموعات البحثية، وهو أن الوقائع العلمية يمكن أن تدرس من دون أن يغادر الباحث مكتبه! هذا ما فتح الميدان واسعا ليهيمن عليه، باقتدار، العلماء الرياضيون والفيزيائيون والبيولوجين. وأصبحوا، في الوعي العام، هم الذين يرفدون البحث العلمي ويطورونه، وهم الذين يغذون، في الواقع وفي حياة الناس، أكثر المناقشات خصوبة حول الفكر العلمي، وحول الفكر بعامة. وهي وضعية سعى الأستاذ وقيدي إلى تغييرها من خلال أبحاثه الإبستمولوجية، فكيف تقبل الأساتذة الباحثون معه في الجامعة مشروعه البحثي؟ وهل نجح هو في مهمته؟
ذكرنا سلفا أن محمد وقيدي ألف كتبا في الإبستمولوجيا:( كتاب: فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار/1980، وكتاب: العلوم الإنسانية والأيديولوجيا/ 1983، وكتاب: ماهي الإبستمولوجيا؟/1983، ودراسات أخرى في الموضوع، في مجلات مغربية وعربية مختلفة.) وفي هذا الوقت كان يشتغل إلى جانب الأستاذ وقيدي أستاذان باحثان هما سالم يفوت، رحمه الله،( 1947-2013)، وعبد السلام بن عبد العالي، يرقبان مايكتبه ويتفاعلان معه، بما يثبت نشاط الحراك العلمي في بداية الثمانينيات في جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، على أرضية الإبستمولوجيا. فقد نشر الأستاذ يفوت هو الآخر كتبا في الإبستمولوجيا في الفترة نفسها؛ نذكر منها: كتاب: مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر/منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط/1980، 384ص، وكتاب: الفلسفة، العلم والعقلانية المعاصرة/ دار الطليعة، بيروت 1982، 171ص، وكتاب: فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع/ دار الطليعة، بيروت 1985. وأصدر بالاشتراك مع الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي، كتاب: درس الإبستمولوجيا/ دار توبقال، الدار البيضاء 1986. وفي السياق نفسه أصدر الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي كتبا في الإبستمولوجيا؛ نذكر منها: كتاب: الميتافيزيقا، العلم، الأيديولوجيا/ دار الطليعة بيروت، وكتاب : درس الإبستمولوجيا، مع سالم يفوت، وكتاب: الفكر الفلسفي المغربي/ دار الطليعة، بيروت، وكتاب: التراث والهوية: دراسات في الفكر الفلسفي بالمغرب/ دار توبقال، الدار البيضاء1987، وكتاب: أسس الفكر الفلسفي المعاصر/ دار توبقال 1991. ويظهر من عناوين كتب الأستاذ سالم يفوت والأستاذ عبد السلام بن عبد العالي أنها تحمل عناوين متفاعلة مع الإشكالات التي طرحها الأستاذ وقيدي، خصوصا على مستوى البحث الإبستمولوجي، وكذا فصل الفكر الفلسفي عن الفكر العلمي، ونزع صفة العلمية، (الإبستمولوجية) عن الفكر الفلسفي…
لقد ضمن الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي كتابه: التراث والهوية: دراسات في الفكر الفلسفي بالمغرب، دراستين عن كتابين في الإبستمولوجيا؛ الأول هو: العلوم الإنسانية والأيديولوجيا لمحمد وقيدي، والثاني هو: فلسفة العلم والعقلانية المعاصرة لسالم يفوت، بما يؤكد النقاش العلمي الساخن حول الإبستمولوجيا بالجامعة المغربية. وقد أقر الأستاذ بن عبد العالي بدور الأستاذ وقيدي في ترسيخ الدرس الإبستمولوجي بالجامعة المغربية بحثا وتأليفا وتدريسا؛ فالأستاذ وقيدي، بنظر الأستاذ بن عبد العالي، لا يقف في أبحاثه عند مجرد السرد التاريخي وتقرير الأحكام والاقتصار على الرؤية السطحية للأمور، بل يستحث القارئ على البحث وطرح السؤال. ولم يمنع هذا الأستاذ بن عبد العالي على نقد النزعة الوضعية عند وقيدي، رغم سعيه الحثيث إلى الابتعاد عن هذه النزعة، واستثمار متن ألتوسير للتخفيف من جفافها وجمودها، كما ذكرنا سلفا. وانتقد الأستاذ بن عبد العالي نصوصا وضعية صارخة في كتاب الأستاذ وقيدي: العلوم الإنسانية والأيديولوجيا؛ نذكر منها قوله: ” لقد كان من اللازم لكي يصبح الإنسان موضوعا للمعرفة العلمية أن يتم اعتبار الإنسان ككائن طبيعي مثل بقية الكائنات الأخرى.” (ص69)، وقوله: ” حين يطبق الباحث المنهج العلمي في دراسة الموضوعات المختلفة، فإن تطبيق المنهج يكون على موضوع خارجي مستقل عن الباحث، وهو الطريق الذي يضمن الموضوعية في العلوم الفلكية والفيزيائية والكيميائية. ( ص91)، وقوله عن الأيديولوجيا: ” فهي مجرد وسيط معرفي بين الحياة العامة والنظرية العلمية في ميدان العلوم الإنسانية. ” ( ص138). وانتقد الأستاذ بن عبد العالي اطمئنان الأستاذ وقيدي لفهم وضعي للموضوعية في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ خصوصا في تعريف العائق الإبستمولوجي، أو في تعريف الأيديولوجيا، أو في تعريف العائق في الدراسات الاستشراقية. وقد اعتمد الأستاذ بن عبد العالي على أطروحة إدوارد سعيد( 1935-2003)، في كتاب: الاستشراق، وعلى أطروحة بيير بورديو(1930-2002) في موضوعية علم السوسيولوجيا، لنقد المنزع الإبستمولوجي الوضعي عند الأستاذ محمد وقيدي. فالبحث الاستشراقي مثلا مشكلته في عدم موضوعيته وحسب، من منظور الأستاذ وقيدي، ولكنه، من منظور الأستاذ بن عبد العالي، اعتمادا على متن إدوارد سعيد، هو مؤسسة لها وجودها الفعلي وقوة مادية صنعت الشرق الذي أبدعه الغرب! أي ليس الاستشراق معادلة علمية، من منظور وضعي؛ أي بنية من الأكاذيب والأساطير ستمحي بسهولة يوم تظهر الحقيقة! كما أن الأيديولوجيا في العلوم الاجتماعية والإنسانية ليست مجرد غطاء يضاف إلى الواقع الاجتماعي، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ وقيدي، بل هي الوهم عندما يصبح واقعا، وهي مكون من مكونات الواقع الاجتماعي؛ فالوهمي ليس وهميا في ذاته، والأسطورة ليست أسطورة إلا بالنسبة لمن لا يؤمن بها، أما في نظر معتنقيها فهي واقع، بل هي كل الواقع. لذلك ستبقى الموضوعية، من منظور بورديو، جزئية وفرعية، بل وخاطئة، إن ظلت جاهلة أو متجاهلة لوجهة النظر التي تنطلق منها؛ أي إن لم تأخذ المجموع كله بعين الاعتبار. وهذا النقد الذي يوجهه الأستاذ بن عبد العالي للأستاذ وقيدي يرجعنا مرة أخرى إلى البحث الفلسفي العام، وهو الذي سعى الأستاذ وقيدي إلى إبعاده عن البحث العلمي، وعن البحث الإبستمولوجي بالتحديد.