الكتابة على شخص عبد الرحمان اليوسفي ما هي في العمق إلا دعوة إلى إعادة الاعتبار للعمل السياسي في بلادنا بنفس ومنطق الاستمرارية. إنه ثروة تاريخية وفلسفية وفقهية، بخبرة ميدانية هائلة، تحتاج اليوم إلى البحث العميق من أجل استنباط الدروس المفيدة للمستقبل. تميز هذا الرجل، المعبر بجلاء تام عن صفات الزعامة في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، جعلني أتتبع عن كتب برامجه وخطاباته ومخططاته التفعيلية بالعناية المطلوبة، وكذا مواقف حزبه الوطنية والرصينة ومذكراته السياسية خصوصا في زمن التحولات والتطورات المقلقة التي عرفتها البلاد ما بعد 2002.
لقد تأكد لي في نهاية المطاف أن أي متتبع لسي عبد الرحمان اليوسفي في تدبيره السياسي والحزبي والحكومي لا يمكن أن يكون إلا أمام خلاصة واضحة ترسخ في الأذهان أن هذا الرجل كان يمشي بثبات وبشكل محكم على قدمين، مسلحا بدروس التاريخ ومنطق تحولاته، وباستنتاجات الفلاسفة والمفكرين القدامى والمعاصرين على المستويين الغربي والعربي الإسلامي. إن تاريخه الشخصي الإنساني مكنه من التعبير بسلاسة ولباقة محترمة عن منتهى الخبرة بمعطيات الواقع، وعن وعي عميق بمنطق الفاعلين. إنها مزايا رجل استثنائي في محطة تاريخية استثنائية بالنسبة للبلد، المحطة التي أبانت عن كفاءة عالية في تعاطيه مع الأوضاع والمستجدات، وجعلته ملما بأدق تفاصيل متطلبات التدبير الرسمي للشأن العام. إنه التدبير الذي مارسه بوعي تام في نسق تطوري واضح المعالم، وحقق من خلاله، منذ السنوات الأولى من عمر حكومته، نوع من المصالحة بين الفلسفة والتاريخ والميتافيزيقا. إن حصيلة حكومته ارتقت من الناحية الثقافية إلى مستوى تثبيت نوع من الربط الوثيق والصحيح بين الحياة المادية للمغاربة بمعارفها وقوانينها الوضعية، و “شعار الأبدية”، راسما أفقا واضحا لمرحلة ما بعد استحقاقات 2002. إنه الأفق الذي كان يطمح من خلاله عبد الرحمان اليوسفي إلى تحويل هذا الشعار إلى مرافق أخلاقي للعمل والتفكير العقلانيين والجادين في المجتمع بدلا من عرقلتهما وخنقهما.
إن العودة إلى التاريخ الشخصي لهذا المقاوم، بأحداثه ومنهجيته وتراكماته الفكرية والفلسفية والفقهية وخبرته الميدانية، لا يمكن تصنيفها إلا في خانة المساعي الوطنية الصادقة لتوضيح الرؤية الإستراتيجية لبناء مغرب ديمقراطي، حداثي ومزدهر. إن قوة شخصيته وصمودها المبدئي، التي أضفت الشرعية والانسجام على حياته السياسية والأسرية، حولت اليوم عطاءاته إلى فضاء للبحث العلمي الحامل لمقومات استشراف المستقبل. إن مصداقيته الدائمة، التي لم يسمح يوما إخضاعها للمساومة، تعبر اليوم عن وعيه التام بمبدأ صعوبة الانفلات من التاريخ، حتى ولو أبدع المرء ما يكفي من الذرائع والقرارات والإجراءات لإضفاء نوع من النسبية على الأحداث والممارسات غير المبررة عقليا.
لقد كان اليوسفي متشبثا بالمصداقية الإنسانية، ساعيا إلى ترسيخها في قرارات وآراء واختيارات الأفراد والجماعات. لم يفرط يوما في مخاطبة عقله وجوديا وعقائديا موضحا، بمنهجية مقنعة، أنه لا يرى في مستلزمات الحياة إلا الصفاء والطهر. لم يرض عبد الرحمان اليوسفي لنفسه انتقاء السبيل السهل للوصول إلى المصالح الذاتية والحزبية. لم يسخر المنابر المتاحة الكثيرة، التي وفرها له منصبه كرجل ثاني في هرم السلطة ببلادنا، في تمجيد الواجبات والسلوكات العقائدية المبتدعة تحت ذريعة كونها سنن مؤكدة ومعاملات مفروضة من أعلى، بل رسم لحكومته سبيل تحسين ظروف عيش المغاربة، متشبثا من أجل ترسيخ العقلانية في التفاعلات المجتمعية، بإخضاع كل المواضيع المرتبطة بالإسلام، العزيز على قلبه، للنقاش والإقناع والاقتناع، معتبرا إياه علم كلام وشريعة لصيانة الذات الفردية والجماعية.
لقد كان مسلما بإيمان صرف خاضع لمنطق البحث عن الحقائق النسبية، مسلم طموح بتحويل الخصوصية الثقافية المغربية إلى محفز لإثارة الإعجاب بالمعتقد المغربي كونيا، وبالتالي تحويل ذلك إلى جاذبية ثقافية مؤثرة إيجابيا على نظرة الغرب اتجاه الدين الإسلامي. وسيرا على هذا المنطق، توفق عبد الرحمان اليوسفي، بالرغم من قصر مدة توليه مهام رئاسة الجهاز التنفيذي، من ضمان ارتقاء الحصيلة الثقافية لحكومته إلى مستوى تبليغ رسالة فكرية للعالم معبرة بجلاء أن الإسلام لم يكن يوما مرادفا للطاعة العمياء، ولا دينا ناكرا للفرد، ومغتالا للحرية والإرادة، أو داعيا للعنف والإبادة.
ما قام به عبد الرحمان اليوسفي في النضال لعقود، وما حققه وهو رئيس لحكومة التناوب التوافقي، لا يمكن فصلهما عن الانشغال الدائم لحزبه. فإيمانا بالآفاق الكونية اللامتناهية بالنسبة للإنسان، ما قام به هذا الرجل كان مؤسسا لمحطة جديدة في التاريخ السياسي المغربي، محطة بدأ المغاربة من خلالها يفكرون في طبيعة الخطابات التقليدية الخاطئة وفي الآليات لتكسيرها وهدمها. لقد نجح سي عبد الرحمان في لفت أنظار المغاربة إلى ضرورة التمعن في الأحكام والخطابات كأعراض لمصالح مبطنة مخفية، ومن ثمة تنمية ثقافة التركيز والتمعن للكشف عن المسكوت عنه، والإيمان بأن أي تأويل أو شرح أو تعقيب أو تعليل أو تفسير لا ينتج عنه إلا حقائق نسبية جديدة تخضع بدورها للتمحيص العقلي المولد لقيم أكثر سموا عن سابقتها. إن عمق قيم وجود حزبه يبقى دائما مرتبطا بهدف تكوين بنية قوية تتحول من خلالها المثالية/الحقيقة إلى نسق حضاري لخلق السلام والتسامح والازدهار. إن حزب الوردة، وهو يتشبث بشكل دائم بتحسين مستوى عيش المغاربة، سيناضل بكل قوة ضد رواد التغرير الواهي الذين يمجدون المثالية الفجة قاصدين إخفاء هدفهم المبطن الرامي إلى إبعاد الأفراد والجماعات عن أي انشغال ببناء مشروع دنيوي مزدهر. عقيدة الاتحاد، المستمدة من تاريخه وحضارة شعبه المغاربية الإسلامية، هو تنمية إرادة القوة لدى المواطن المغربي، إرادة مؤمنة بضرورة التقوية الإيجابية لشدة وكثافة أفعاله وخطاباته وممارساته في حياته اليومية، وبالتالي تحويل الأحداث الحقيقية ونسيج القوى المرتبطة بها إلى جهود متفاعلة ديمقراطيا وجهود نشيطة تضمنان تصالح الفن والعلم لخلق السعادة الدنيوية للمغاربة جميعا مصداقا لقول النبي محمد (ص) : “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”.