العقلية الوثوقية, أو الدغمائية, هي عقلية جامدة سكونية مسكونة بهاجس المطلق والمقدس, والايمان والاستسلام قبل التفكير والشك. تتكئ في تفكيرها وممارستها على مرجعيات من خارج ذاتها, تعتقد أن هذه المرجعيات (النصوص) هي وحدها من يمتلك الحقيقة, وكل ما عداها هو حرام أو خطأ يسئ للحقيقة وبالتاي يجب محاربته وإقصائه.
العقلية الوثوقية الدينية:
يمثلها قوى اجتماعية متدينة, تحمل توجهات سياسية وعقيدية أرثوذوكسية, تقر بأن الحقيقة قد أعطيت فكراً وممارسة مرة واحدة وللأبد, وتؤمن بمشروع الحاكمية انطلاقاً من قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ.) المائدة (50). وبغض النظر عن تفسير مفهوم الحكم هنا أهو سياسي أم قضائي, والأغلب هو الحكم القضائي, على اعتبار النص القرآني لم يحدد طبيعة للحكم ولا ألية عمل له. (راجع علي عبد الرازق – الإسلام وأصول الحكم). وهذه العقلية تتكئ في الحقيقة كما بينا أعلاه على نصوص مقدسة قد أغلقت مداراتها ودلالاتها الفكرية في القرون الهجرية الثلاثة الاولى كما هو الحال في الخطاب الإسلامي حيث جاء: (الآن أتممت عليكم نعمتي… وخير القرون قرني والذي يليه ثم يليه…. وأصحابي كالنجوم الزاهرة بأي منهم اقتديتم اهتديتم). وعلى هذا الأساس أخذت هذه النصوص في دلالاتها استمراريتها الفكرية والسلوكية كوثائق, لا تقبل التغيير أو التعديل أو حتى المراجعة, لكونها كلام الله ورسوله وصحبه, وهي صالحة لكل زمان ومكان… فسرت وأولت دلالاتها في زمن ماض, وحاز مفسروها ومؤلوها على القداسة ذاتها التي تحوز عليها هذه النصوص, وأحيانا تعتبر أقوالهم أكثر قداسة من النص ذاته عند مريديهم أو تابعيهم.
تظل هذه العقلية في سياق نشاطها, عقلية تنظر إلى الفردوس المفقود ممثلاً بفكر ومنهج وسلوكية السلف الصالح, (القرون الهجرية الثلاث الأولى) بأنها هي زمن الفضيلة والنقاء, وأي خروج عن قيمها هو خروج عن النص المقدس.
ترفض هذه العقلية التجديد, مثلما ترفض الآخر المختلف وتكفره وتزندقه, ولا تتواني عن قتله أو ذبحه والتمثيل به. تعمل على ليّ عنق الواقع كي يرتقي إلى النص وتمثله.
العقلية الوثوقية الوضعية:
عقلية لا تختلف من حيث المبدأ عن العقلية الوثوقية الدينية. فهي أيضاً عقلية جموديّة سكونية وثوقية استسلاميه, ترفض الحركة والتطور والتبدل, يمثلها قوى اجتماعية وصلت إلى السلطة في ظروف معينه, فراحت تعمل على برمجة الدولة ومؤسساتها (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وفقاً لمصالحها هي واستمرارية وجودها في السلطة. هي عقلية أنانية وانتهازية تقف مصالحها عند حدود ما تمثله من مرجعيات حزبية أو طائفية أو عشائرية أو قبلية. وغالباً ما تتخذ شعارات فضفاضة نظرية لحكمها, تجبر الناس على السير وراءها كقطيع أغنام, وكل من يخرج عنها هو منحرف وخائن ومرتبط بالخارج وعميل, ويعمل ضد مصالح الدولة وأمنها الوطني والقومي.. وبذلك تتحول هذه الشعارات إلى نصوص مقدسة, تمارس من خلالها حاكمية وضعية على الرعية.
إن القوى الحاكمة في هذه الصيغة الوثوقية, ترفص أي عقد اجتماعي يسعى لبناء دولة المواطنة والقانون والمؤسسات.. أي دولة العدالة والمساواة والمشاركة.. فهي في نهاية المطاف تعتبر شعوبها قاصرة وغير قادرة على قيادة نفسها, ولا بد لهذه الشعوب من وصاية عليها, وهي الأولى بهذه الوصاية.
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سورية