حين نلتقيه، لا نجده في ماضيه، بالرغم من المجد الذي يحيط به، بل كان لماضي محمد الحلوي شارعان: واحد يقود إلى المستقبل، هو الذي يقتسمه معنا، ويلح علينا أن نبحث عن خرائطه وآخر إلى فضة الحنين، حين يجالس رفاقه القدامى، ومنهم الراحل الكبير عبد الرحمان اليوسفي..
يسكن حيث يريد من قلوب المناضلين لأنه كان يملك المفاتيح، حتى وهي تؤلم حقا: حدث لي، في آخر مرة التقيته فيها، وهو بمستشفى الشيخ خليفة، بالقرب من رفيقه عبد الرحمان اليوسفي، وقد زرناه هناك أن سألني، ببريق في العينين عن الجديد في الصحافة، مبتسما كما لو أنه يستدرجنى إلى حديث ليس هو المعني به: وبلا مقدمات، قال، وقد سألته عن الحالة الصحية: «أنا سأوقف تناول الأدوية، المقدر سيحدث».. بلا قلق.
صدمت ولم أعلق سوى بإكبار من يشركني في شيئ ربما لا يعرفه الكثيرون حقا.
لم أدِْر كَمْ دامت دهشتي، ولمن حكيتها من بعد، لكني كنت أرى أمامي البطل الذي أحببته دوما، الذي كان لا يخاف أن يمر بين الألغام، بل كان قلبه يجمعها، كما تجمع الجدات نجوما تليق بحكاية للسهر. هو كان يسهر في منتصف نهر لا يجف من الرفعة..
مرة نصحني، بأن الوضع ليس في صالحي، وشرح لي أمرا كنت أحدس الكثير منهم، لا لشيء، إلا لأنه كان يعطف علي..
يقول بصمته ما يجعل الحزن الآن كما لو كان ترتيبا إراديا، وبَعْديا، منه للوجع!
لم يطلب شيئا لنفسه ، منذ دخل التاريخُ حياته: كم من مرة كان يقف وسط نهر هادر، منذ أن ولد في أحضان عائلة وطنية مجيدة، ومنذ تعرف على الفكرة التقدمية، ومنذ أن توغل في النشيد التحرري، ما بين الشوك والحديقةفي الأفق..
كان في الماضي، بالنسبة لجيلنا الذي عرفه كاسم قبل أن يعرفه كتجسيد، مقابل … الوردة في البلاغة، وفيه ما يكفي من مفاتيح الحاضر في …ميلاد المستقبل: في كلمته أمام المؤتمر العاشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب،مثلا تحدث عن «شروط عيش الجماهير المحرومة وتلبية مطالبها في العمل والصحة والتعليم، ويتطلب تنفيذ هذه السياسة تخليص أجهزة الدولة من نفوذ الفئات الاقتصادية والبرجوازية الانتفاعية المعادية لكل إصلاح تقدمي..واسترجاع ثقة الشعب..»!
يا للحاضر في بهاء بلاغة الماضي..
كان في ولايتيه، يقول التاريخ المجيد، مراوغة للألغام، ومسايفة مع السلطة القاتلة.
في المؤتمر الرابع لأوطم، الذي عقد في شتنبر 1964، كانت البلاد تخرج من عنف لا مثيل له، فعرف امتحان التعميد الناري في مؤامرة يوليوز 1963، وكانت محاكمته أيضا، كما يتضح من نص إحالة المحكمة العسكرية، بتهمة نقل رسالة حميد برادة إلى مؤتمر 4/7شتنبر في هذه السنة، بلاغة أخرى في امتحان الصبر.
واتهموه بأنه كان وفيا …
واتهموه بانه كان صامدا لأنه منذ غادرحميد برادة المغرب، كان هو الرئيس إلى حين انتخابه، لأنه لم يرد إدانة رفيقه الغائب..
ومن غريب القراءة، أن نص الادانة، موجود في أرشيف عبد اللطيف المانوني الخاص.
والمانوني هو من هو عليه اليوم.
مياه كثيرة جرت، قبل أن تجري مقادير لله.
لا وظيفة للحنين، في سرده للذكريات، إلا إذا كانت المهمة إنقاذ المستقبل من أخطاء الماضي، أو تضميد الممكن، ببسالة الأبطال العاديين ، وتوضيح الرؤية..
لم يطلب لنفسه قرابة مع الذهب أو الجاه، ولم يستسغ أبدا حضرة السلطة، بشجاعة نادرة، والذين يصفونه يصفون كيف كان يبدو لامباليا أحيانا حتى وهو بجوار السيف الكاسر للدولة.
ليس فقط عند اختطافه في 1973، بعد ما سمي بثورة 3 مارس المجهضة، بل وهو يقف بين يدي حضرة المحتفى به في الثالث من مارس نفسه، الملك الراحل الذي انشغل عنه بتأمل الهندسة المعمارية، فيما هو الملك يتحدث عن مستقبل أوطم ويحاول إقناع قيادتها بالقطيعة مع الحركة التقدمية..
للحلوي الآن أبديته التي خاطها طوال سبعة عقود، بإبرة الورد وخيط الفجر الرهيب: كي يستطيع أن يختار قبره في السماء،أو يجرها، كما يفعل مسافر لا يهمه، مع ذلك أي خلود!
حتى وهو يدرك أنه لم يولد من أجل المؤقت أو العابر
وأن حياته، بورعها وتعففها وابتعادها عن الاضواء، كانت تفاوضا مستمرا مع الأبدية…
يا محمد يلدغنا الحزن.
يلدغنا موتان في هذا الظرف الاستثنائي..
موتك وموت عبد الرحمان..
فكيف لي
وكيف لنا أن نبقي الألم على الحياد، كيف؟
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي – بتاريخ : 27/يوليوز /2020