يبدو أن أدب وفن (العبث), أخذ يطرح نفسه علينا من جديد في عالمنا المعاصر, لما له من أهمية في كشف أبعاد تلك القوى السياسية والاجتماعية التي تكاد أن تفقد بصيرتها, (إن لم تكن فقدتها) أمام ما تقوم به من أفعال تصب خارج المنطق والتاريخ معا.
هذا ويأتي في مقدمة من اشتغل على (العبث) او اللامعقول في أكثر أبعاده شمولية, هو الأديب الروائي والفيلسوف الفرنسي الشهير “البير كامو”, ملك أدب (العبث) في روايته المشهورة (الطاعون)
في روايته “الطاعون” يتجاوز “البير كامو” الغاية المباشرة لهذه الرواية المتعلقة في انتشار مرض الطاعون بسبب انتشار الفئران في باريس بعد أن مُورس على أهلها القتل والتشريد والدمار وهي تحت الاحتلال النازي, لتقدم لنا هذه الرواية قراءات مفتوحة في دلالاتها على مستويات مجازية ومعرفية متعددة عن كل ما يشبه الطاعون في خطورته كالثّقافة المنحطّة، أو الأفكار الفاشيّة، أو الخزعبلات الدينيّة والأيديولوجية, أو الشعارية، أو التسلط السياسي المستبد, وكل ما يساهم في محاصرة الإنسان والعمل على تغريبه وتشيئه واستلابه والنيل من كرامته وحريته في هذه الحياة.
أما أبطال (الطاعون) في صيغه أو دلالاته المتعددة هذه, فهم أبطال يختارون الانخراط في معركة يعلمون أنّها خاسرة إذا ظلت قائمة أمام ضياع المواطنين المجهلين والمنمذجين الفاقدين لحريتهم وإرادتهم ومقومات إنسانيتهم, الذين تتلاعب بهم قوى اجتماعية وسياسية منحطة فقدت روح المواطنة, وهي في طريقة تفكيرها وسلوكياتها, لا تختلف من حيث خطورتها عن الطاعون الحقيقي. لذلك فأبطال “البير كامو” في “الطاعون” هم أيضاً عبثيون في تمردهم وردود أفعالهم تجاه من يقود فعل الحياة في محيطهم الاجتماعي والسياسي, أي على القوى المستبدة ومن يساندها من القوى الاجتماعية التي لا تبحث إلا عن مصالحها الأنانية الضيقة. ففي عالم (العبث) أو اللامعقول هذا, الذي يطلق فيه (المستبد والثائر معاً) النار على البريء (لأن الشمس محرقة), قد تحول فعل القتل هنا إلى سلوك وعادة وشهوة, فهذا يعني أن ليس هناك لا ثورة ولا ثوار, أو أية قوى أخرى تعمل من أجل قيم نبيلة تساهم في تحقيق الاستقرار في بنية الدولة والمجتمع. بل هناك عبثيون يلهون بدماء الآخرين وحياتهم ومصالحهم… هنا فقط يتحول التمرد إلى هزيمة ذاتية تامّة وانحياز إلى العدم. ويتحول المواطن البريء إلى ضحية يحاصره الطاعون من كل الجهات.
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا في عالم (العبث) هو:
من هي القوى التي عليها أن تمارس فعل التمرد ضد الطاعون, وتحول فعل المقاومة إلى إرادة إيجابية مؤمنة بقيمة الإنسان, ورافضة للانكسار، ومؤمنة بالانتصار على شهوة الدم والفساد والرذيلة والقبح, وعلى جبروت سيف العبث الذي يهزأ بنا، ولا يتوقع منا إلا خضوعاً نهائيّاً ذليلاً.؟.
نقول: إذا كان العنف لن يولد إلا العنف, فالطاعون لن يولد إلا الطاعون بكل دلالاته التي أشرنا إليها أعلاه, والحب والتسامح والعودة إلى العلم والمنطق والعقد الاجتماعي, الذي سيؤدي إلى التكاتف والتعاون من أجل مقاومة الطاعون والعبث, هو (الشجاعة) بحد ذاتها … شجاعة تجعل من الانتصار على الموت ممكناً. والشجعان الذين يتخلون عن انانيتهم وغطرستهم وفوقتيهم ومصالحهم الضيقة, هم وحدهم من تليق بهم الحياة، ويليقون بها .. هم وحدهم من يعرفون بثوار عصرهم وفرسان المواطنة.
د.عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.