محاور الكتاب
تقديم
- اليوسفي، رفعة معرفية وارتقاء تجربة سياسية وسيادية
- اليوسفي وأولوية تقوية الثقة في ارتباط السياسة بالإدارة
- اليوسفي وطموح بناء النسق الديمقراطي القار
- اليوسفي، رجل تاريخ ربط السياسة بمصلحة وتقييم الشعب المغربي
- اليوسفي والانطلاقة القوية لبناء المشروع الديمقراطي الحداثي
- الزعيم اليوسفي قائد الثورة المؤسساتية الهادئة بالمغرب
- اليوسفي وتحدي رفع تنافسية الاقتصاد الوطني زمن العولمة
- اليوسفي وربط إرادة التحديث بإدماج المرأة في التنمية
- اليوسفي، التنمية القروية، الأوراش الكبرى ومواجهة التهميش الاجتماعي
- اليوسفي وتشبثه بإحداث الانفجار التنموي المستحق بالإتحاد
- حكومة اليوسفي والنموذج التنموي الجديد؟
خاتمة: مات اليوسفي وعاش تاريخ سياسة وفكر
تقديم
وأنا أرتب مقالاتي التي خصصتها للمرحوم عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله لأجعل منها كتابا إلكترونيا معبرا عن حجم هذا الرجل الوطني، كرائد للتحول السياسي والحقوقي بالمغرب، تبادر إلى ذهني حاجة المجتمع السياسي والثقافي والفكري المغربي إلى تأسيس مركز باسمه، مركز يجعل من تاريخ هذا الزعيم والكتب والمقالات التي صدرت في شخصه، كقيادي حزبي وكرئيس لحكومة التناوب التوافقي، مراجع للدراسات والأبحاث في قضايا الحاضر والمستقبل.
فعلا، إن المسؤولية السياسية المفعمة بالإنسانية وحب الوطن والشعب المغربي بكفاءة وصدق وأمانة، جعلت المقاوم الشرس للاستعمار في السابق، والمقاوم ببسالة لجيوب المقاومة المتوحشة والمتسلطة على المغاربة وثروات بلادهم الاقتصادية، والتي تجبرت طوال عقود الاستقلال بفعل ما سمي “سنوات الجمر والرصاص”، يحتكم إلى خيار التأهيل المؤسساتي، بالعمل المتواصل المضني، وتسخيره بالوسائل المتوفرة لإنجاح الانتقال من منطق التحكم السلطوي إلى منطق الديمقراطية الحامية للمواطنة الحقة، ومن تم تحويل هذا الانتقال المأمول إلى آلية أساسية وضرورية للتقدم في تحقيق دولة الحق والقانون وترسيخ مقوماتها في أذهان الجماهير الشعبية.
لقد حرص حزب عبد الرحمان منذ السبعينات على تقديم الرسائل بشكل متتالي ومنتظم للرفع من مستوى الثقة إلى أعلى المستويات ما بين الملكية والأحزاب الوطنية طامعا، رفقة المناضلين الصادقين في هذه البلاد، في نيل دعم هذه الأخيرة، واستثمار وطنيتها وثقافتها العصرية المعروفتين، في بناء مشروع دولة وطنية ديمقراطية وحداثية. لقد احتد التفاوض، وتوفرت في نفس الوقت شروط التقارب ودسائس المتربصين به، وكان إقرار النضال الديمقراطي من الداخل حدثا تاريخيا عبر عن حسن نية مناضلي حزب القوات الشعبية، وتشبثهم بتقوية جسور التواصل والتفاعل المؤسساتي من خلال الرفع من مستوى تنشيط ومردودية الفعل السياسي الترابي والتشريعي البرلماني. لقد تبين للملكية وللشعب المغربي من خلال التمرين السياسي الذي دام أكثر من ثلاث عقود أن الوطن لا يحتمل ولا يمكن أن يستمر في هدر طاقاته البشرية المناضلة، ليشتد هذا الإحساس مع هدم جدار برلين وإعلان النظام العالمي الجديد.
لقد كان حدث خلافة اليوسفي للقائد الفذ عبد الرحيم بوعبيد، الرجلان الخبيران في منطق ممارسة السلطة بالمغرب وتفاعلاته الدولية بروح وطنية صرفة، مناسبة تاريخية جعلته لا يفوت أية فرصة للتعبير عن حق المغاربة في دولة ديمقراطية، تعزز قوة ثوابته التاريخية، وثقافته الحضارية، ومكانته الدولية. لقد أمزج عبد الرحمان في تفاعلاته مع مجريات الأحداث الوطنية ما بين غضبه وعدم رضاه على الممارسات السياسية غير المبررة، والتعبير بروح مفعمة بالوطنية عن الاستعداد للتحاور والتفاوض عبر تبادل الإشارات مع القصر الملكي.
حتى وهو منهمك في إعداد أغلبية برلمانية لحكومته المدعمة ملكيا في إطار ما سمي بالتناوب التوافقي، عبر من خلال قراراته، الموضوعية والجذابة والقابلة للتفعيل، عن تشبثه الدائم بالرفع المستمر من الثقة ما بينه وبين المرحوم الحسن الثاني. لقد تم التنصيب بسلاسة، وتبين من خلال تصريحه، بعد نفاذ مائة يوم من عهد حكومته، أن الرجل، بشجاعته وعزائمه وبرنامجه وحصيلته الجزئية، سيقود المغرب في مسار صحيح، سيسخر فيه التأهيل المؤسساتي لخدمة الانتقال الديمقراطي في أفق تسريع إتمام بناء مراحله ليتوج بنسق ديمقراطي في أجل معقول ومدروس.
لقد اعتز المغاربة بحصيلة حكومته، وتم الاعتراف لأول مرة بملائمة الخطاب السياسي بالتفعيل والمردودية والنتيجة. لقد قضى عبد الرحمان اليوسفي يوما عسيرا وهو يتابع مجريات ونتائج الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2002، بعدما عاش صراعات مريرة داخل حزبه. لقد تأسف رواد الديمقراطية في العالم لتتابع الأحداث ذات النفحات الهدامة بعد حصول حزب القوات الشعبية على الرتبة الأولى انتخابيا من خلال انتخابات شهد المجتمعين الوطني والدولي لأول مرة على شفافيتها: طفح إلى السطح عبارة “مولا نوبة”، وابتعد النسق الحزبي المحسوب عن الصف الديمقراطي عن مطالبه التاريخية المرتبطة بالمصالح المشروعة للشعب المغربي، وتم الخروج عن المنهجية الديمقراطية، لتشتد مطامح الاستمرار ورفع شعار “متابعة تحقيق الأوراش الإصلاحية”، وتم اصطناع الخيبة في الممارسة السياسية من خلال مفاوضات تشكيل مكاتب المجالس المحلية والإقليمية والجهوية سنة 2003، وغادر عبد الرحمان اليوسفي السياسة المباشرة، تاركا وراءه مغربا يتمتع بمناعة مؤسساتية كبيرة، ومؤهل لجعل الفترة الانتدابية ما بعد 2002 قاطرة لجر المغرب إلى بر الأمان الديمقراطي والتنموي.
لقد تمت شرعنة الفعل المؤسساتي قانونيا ودستوريا، وتشكل بوضوح تام النسق ألدولتي بهياكله التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية والحقوقية، ونجح المغرب من تجاوز ويلات ثورات الربيع العربي بحكمة وسلام، لكن السياسة ابتعدت عن الفكرة والمعرفة الحزبية البناءة، ليشتد تأثير التقليدانية القاتلة معلنا انتصاره نسبيا عن القبيلة والغنيمة، واغتياله للتفكير المعرفي العقلاني وتعسير امتداده تربويا إلى الأجيال المتعاقبة، وتراجع التأثير الحزبي الترابي، وتجندت آلة الاستقطاب المصلحي لتكرس مسلسل استسلام النخب وتركيزهم على الذات على حساب الوطن، وضعفت مبررات الإقناع والاقتناع، ودبرت الدولة ترابيا بنجاح آفة الكورونا ووبائها الكوفيد 19 الفتاك إداريا بدون وساطة حزبية أو جمعوية جادة، لتجد البلاد نفسها مجددا في مفترق الطرق باتجاهين لا ثالث لهما: الاتجاه الأول قد يحمل أمل تسريع إتمام بناء النسق الديمقراطي الذي دشن مرتكزاته اليوسفي (بعد إلغاء عدد من العوامل المعرقلة). أما الاتجاه الثاني، فقد يجسد خيار تقوية المؤسسات وتحويل سلطة الدولة إلى منطق خاص لقيادة التغيير في البلاد.
- اليوسفي، رفعة معرفية وارتقاء تجربة سياسية وسيادية
اليوسفي، الصادق العفيف في حب الجماهير
لقد تبين اليوم بلا شك لكل المنتقدين، بدوافع نضالية ووطنية، لتجربة حكومة التناوب التوافقي، وما سببه ذلك من تأجيج للهجومات الممنهجة غير المفهومة على شخصه من جهات معلومة وغير معلومة، والتي كان آخرها، في تلك المرحلة العصيبة من التاريخ السياسي المغربي، وصف الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ب”قاتل الانتقال (الديمقراطي)”، أن البلاد قد أضاعت فعلا فرصة سياسية ثمينة لخدمة المغاربة ديمقراطيا من طنجة إلى لكويرة. لقد ساد حزن شديد جميع التراب الوطني مباشرة بعد إعلان وفاته رسميا، حزن فرض واجب الاعتذار على هؤلاء المنتقدين معتبرين، بوعي متأخر، أن مشروع هذا الهرم السياسي، الاستثنائي سلوكا وأخلاقا وممارسة، كان في عمقه مشروع كل المغاربة.
لقد برهنت التراكمات والتطورات في عهده، بعد مقارنتها مع ما آلت إليه الأوضاع بعده، أن هذا الرجل يعتبر اليوم من أرفع الصادقين منزلة في حب الوطن والمواطنين، رجل يستحق التنويه والتبجيل لما عبر عنه طوال حياته من روح وطنية طاهرة، ومواقف موضوعية شجاعة، وحكمة متبصرة. لقد أحس الجميع أنه كان عرابا للحب والأمل والنضال فينا جميعا. إنه اعتراف إنساني بتاريخ رجل لم يكل ولم يمل طوال عقود النضال الصعبة، وسنوات قيادته للحكومة، في الكدح في التفكير والتفعيل، في كل ساعة من حياته اليومية، في البحث عن السبل الممكنة للوصول إلى تقريب الإمكانيات المادية والمعرفية، والراحة النفسية والاطمئنان عن المستقبل، من نفوس المغاربة جميعا بدون استثناء.
اليوسفي، توحيد القوى تقديس لكرامة المواطن
لقد كان تعيينه على رأس حكومة التناوب التوافقي، بالنسبة له وللمغاربة، منعطفا حاسما في تاريخ المغرب المعاصر. لقد دشن خطواته الأولى داخل مؤسسة الوزارة الأولى بإعلانه، ببسالة وشجاعة، موقفا تاريخيا أذهل المتتبعين وطنيا ودوليا. بالنسبة له، لا يمكن إتقان “الغوص” في بحر العمل الوطني الصرف إلا بإعطاء الانطلاقة لخلق القطيعة مع الماضي، وزرع آمال جديدة في تأسيس تعاقد اندماجي لكل القوى السياسية، والمؤسسات الفاعلة في كل المجالات الحيوية بالبلاد. لقد حرص من خلال ساعات عمله الطوال، مترئسا لمنظومة تفكير حزبية خبيرة في مختلف المجالات، أن يبشر المغاربة أن عهد مشاركتهم في بناء مستقبلهم قد حان.
لقد مارست المعارضة دورها، تارة بموضوعية وأخرى بمزايدات قاتلة، وانطلقت نيران عدد كبير من المناوئين، أصحاب المصالح القذرة، مستهدفة الرجل وتاريخه، طامحين بإستراتيجية محكمة تبخيس الجهد المضني والمتعب الذي يبذله لزحزحة عراقيل الماضي من أجل فرملة مسار تجربته وإجهاض أمل وحق المغاربة في غد جديد أفضل. لكن جدية هذا الرجل، وصدقه في حب المغاربة، حول الأهداف إلى مكتسبات حقيقية، مكتسبات جعلت الشعب المغربي يجدد ثقته في حزب هذا المقاوم الناذر بصدقه وروحه القتالية من أجل نصرة قضاياهم المشروعة.
فعلا، لقد كان الانتصار تعويضا لنيته الصادقة، وكانت نتائج الاستشارة البرلمانية لسنة 2002 تعبيرا عن الوفاء الشعبي للعمل الوطني الجاد. لقد شهد العالم على شفافية هذه المحطة، ونوهت الدول بهذا الإنجاز، وعبر المغاربة عن مطالبة مبطنة لربط ماضي العمل الوطني بالحاضر معبرين بتصويتهم عن تصالح المغرب مع تاريخه السياسي. إنه التاريخ المؤيد لخلق الاستمرارية في بناء وطن جديد يجسد إحساس الجماهير بوجود رابط قوي ما بين الأداء الوطني المؤسساتي للمقاوم عبد الرحمان اليوسفي، ورفيقه في درب النضال الأستاذ عبد الله إبراهيم رحمهما الله. إنه الإحسان الذي دفع أعلى سلطة في البلاد إلى إقرار دفن الفقيد إلى جانب رفيقه في الوطنية معبرا من خلال ذلك عن ارتباط هذا القرار بقوة ثورة الملك والشعب في هذا المنعطف السياسي الذي تعرفه البلاد.
اليوسفي، تصفية ملف الاعتقال والاغتراب السياسيين وإنصاف الموظفين العموميين
عبد الرحمان اليوسفي كان ضميرا وطنيا ودوليا مشبعا بالإنسانية والثقافة الحقوقية ولا يقبل الغموض. لقد حول هدف إطلاق صراح كل المعتقلين السياسيين، وعودة المغتربين إلى وطنهم، والمطرودين إلى وظائفهم، وإنصاف الموظفين العموميين إلى شرط من شروط المصداقية التاريخية لتعيين حكومته. لقد قدم كل ما يكفي من إشارات رابطا مشروعية الدولة وعمل حكوماتها بضرورة مصالحة المؤسسات مع الشعب من خلال جبر أضرار وتعسفات الماضي، وربط أداء المؤسسات بالمشاركة الشعبية.
الطابع السياسي لعمل حكومته ابتدأ بالتركيز على إعادة الاعتبار للحقوق الفردية الأساسية في مجال حقوق الإنسان حيث تمكنت الحكومة في السنوات الأخيرة من ولايتها من رد الاعتبار لضحايا الماضي بعد تنصيب هيئة مستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي. وقد اعتبر اليوسفي هذه الخطوة ضرورية حيث لا يمكن الحديث عن الإرادة في تحقيق الانتقال الديمقراطي بدون إنصاف المعتقلين السياسيين في هذه البلاد، وذلك بإطلاق سراحهم، وتعويضهم ماديا ومعنويا (ضحايا سنوات الرصاص). إنها مبادرة ذات بعد معنوي وإنساني عميق تكرس من خلالها مبدأ مسؤولية الدولة كالتزام جماعي واع لكي لا تتكرر مثل هذه الممارسات في الحاضر والمستقبل.
دائما في مجال الحقوق الفرية والجماعية، ركز اليوسفي من باب مسؤوليته السياسية، ومنذ البداية، على حقوق العاملين في الإدارة المغربية. فإضافة إلى التسوية الشاملة والمنصفة للوضعية الإدارية والمالية للمطرودين والموقوفين لأسباب سياسية أو نقابية من موظفي الدولة والمؤسسات العمومية، شدد اليوسفي على ضرورة تسوية حقوق ومستحقات الموظفين المادية حيث صرح أنه يصعب مطالبة العاملين بالإدارة بإنجاز مهامهم والإسهام في تنمية بلادهم وحقوقهم المادية مهضومة. كما اعتبر اليوسفي هذه الخطوات الأولية ضرورية ومن الرهانات الرئيسة لمرحلة الانتقال الديمقراطي. إن الأمر يتعلق بتوفير الظروف المواتية للانخراط الواعي للمواطن في الحياة السياسية، وتعبئته القوية لخدمة المبادرات الوطنية الهادفة، وإسهامه المتحمس في العمل التنموي البناء. بالفعل، ومباشرة بعد صرف هذه المستحقات لاحظنا كمتتبعين التحسن الكبير لوضعية الموظفين حيث استنتجنا مع مرور بعض الأسابيع عن هذا الحدث البارز أن مرآب السيارات بالإدارات العمومية قد امتلأ، وتمكن عدد كبير من الموظفين من شراء أو بناء منازل لعائلاتهم.
التجربة “اليوسفية” تجسيد للقدرة الحزبية لإنقاذ البلاد من الإفلاس
لقد دبرت الدولة سلطتها التنفيذية ودواليبها ومحطاتها الزمنية في التنمية لمدة تقارب أربعين سنة خارج الأحزاب الوطنية المنبثقة عن الحركة الوطنية. وكانت النتيجة المدوية وصول البلاد إلى الباب المسدود، الباب الذي تم الإعلان من خلاله رسميا عن الدخول إلى مرحلة الإفلاس: معتقلون سياسيون في السجون السرية والعلنية، مغتربون في البلدان الغربية والعربية، ومستويات عالية للفقر والأمية، وفساد مستشري في تدبير الدولة لميزانياتها المتتالية، وضعف متواصل في المردودية الحكومية، وشدة المواجهة العنيفة بين المجتمع والدولة جراء ضعف الوساطة السياسية في البنية المؤسساتية، التي كانت أدائها اليومي بعيدة كل البعد عن ثقافة الحوار والنقاش والتفاوض والمشاركة والتشارك…..إلخ.
لقد مكنت التجربة “اليوسوفية” (نسبة إلى اليوسفي)، بشهادة الجميع وطنيا ودوليا، من إنقاذ البلاد من الإفلاس، لتتاح لدولة العهد الجديد فرصا ثمينة لإنجاح الانتقال المؤسساتي، وتمديده إلى المنظمات الحزبية والجمعوية والنقابية (إعطاء الانطلاقة لربط المسؤولية بالمحاسبة). لقد أتاح هذا الرجل القوي، بفكره وذاكرته وخبرته السياسية، فرصا ثمينة للبلاد لبناء العمل المؤسساتي العصري، ودافع باستماتة، وبمنهجية متواصلة، عن حق الشعب المغربي في التحرر من الضغوط الأجنبية، ومن مكبلات السلطتين التقليديتين الباليتين القبلية والتراثية، وحقه في المشاركة القوية في تدبير شؤون بلاده المختلفة.
فكس ما نعيشه اليوم من تماهي مع تدخل المؤسسات الأجنبية (الخلق المتكرر لخطوط الائتمان المالي)، كان المرحوم عبد الرحمان واعيا تمام الوعي بكون المغرب جزيرة مطوقة من كل الجهات، وتحتاج، كدولة ذات سيادة شعبية، إلى استقلالية مالية مناهضة للمديونية الخارجية وثقلها.
إن ما حققته حكومة التناوب التوافقي في ظرف وجيز، لم يتجاوز خمس سنوات، لم تكتب له الاستمرارية السياسية والفلسفية المرسخة لمنطق ثقافة سلطة عمومية جديدة. إن عملية التوقيف لهذا المسار الجديد، الذي قاده رجل عظيم من طينة المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، ترتب عنه بشكل أوتوماتيكي هوة ما بين السياسة الديمقراطية والتنمية. إنه وضع جديد أبان عن ظهور تناقضات واضحة، تقابلت من خلالها قدرة الدولة على مستوى الخطاب من تشخيص الأوضاع وتقديم إجابات في مختلف مجالات حياة المجتمع، وتراجع مكانة المكون الحزبي في التنمية. إنه الوضع الذي تمخضت عنه التراجعات المتراكمة في منطق ومردودية الأداء الحكومي منذ تولية الأستاذ جطو مهام الوزارة الأولى، في محطة تمت تسميتها بمحطة الخروج عن المنهجية الديمقراطية.
إن هذا الاختلال الذي ميز هذا التقابل، أبعد الزعامة السياسية العارفة عن مسار قيادة التغيير، الزعامة ذات الوزن النضالي الثقيل الضامن لقيادة دواليب الدولة بجدارة واستحقاق. لقد تم استخلافها بفاعلين نمطيين من نوع خاص، إلى درجة أبرزت الأوضاع اليومية، باليقين التام، إشكالية ارتباط التنمية بالزعامة السياسية والقوة الحزبية.
لقد لمس المغاربة لأول مرة من خلال التجربة “اليوسوفية” أن تغيير أوضاعهم المعيشية والثقافية مرتبط أشد الارتباط بمدى نجاح المشهد السياسي المغربي في إنتاج الزعامات والنخب السياسية القوية القادرة على التعبير الصادق والفعلي عن الدور الريادي للأحزاب في التنمية.
إن هذه التجربة، برمزيتها السياسية، وتأثيراتها على مسار البناء الديمقراطي ما بين 1998 و2002، ستبقى محطة لامعة في تاريخ الشعب المغربي وفي عهد الدولة العلوية، محطة ابتعد من خلالها المجتمع والبلاد، بمسافة كافية، عن الكوابح القبلية والمعتقدات التقليدية المفرملة للعمل التنموي، لتبرز إلى السطح حاجة المغاربة إلى نموذج تنموي جديد تلعب فيه الأحزاب العصرية الديمقراطية الدور الريادي في التفكير والتنفيذ.
- اليوسفي وأولوية تقوية الثقة في ارتباط السياسة بالإدارة
لا يمكن لأحد أن ينكر أن الإدارة قبل 1998، بشقيها المدني والأمني، كانت تثير نوعا من الخوف في نفوس المسؤولين الكبار في الدولة ونفوس الأفراد والجماعات في المجتمع. وكان تدبير مصاريف بنود الميزانيات عبر الطلبيات والصفقات بعيدا كل البعد عن قواعد الشفافية والتنافسية والنزاهة. وكانت مبررات تفضيل بعض الشركات، بدواعي إمكانياتها المادية والتقنية والبشرية، وتمكينها من احتكار إنجاز المشاريع العمومية في مختلف المستويات الترابية مردودا عليها.
ووعيا بهذه الأوضاع، أعطى المرحوم اليوسفي أهمية قصوى لتعديل قانون الصفقات لفتح باب التنافس أمام المقاولات والشركات بمختلف أحجامها. كما كان لخلق البوابة الإلكترونية الرسمية فيما بعد في هذا المجال دورا هاما في إضفاء الشفافية في الإعلان عن الصفقات، وتتبعها وتقييم إنجاز المشاريع التنموية المرتبطة بها من طرف المفتشيات المركزية لمختلف الوزارات والمجالس الجهوية للحسابات.
في هذا المحور، ومن أجل تخليق تدبير الميزانيات العمومية في مختلف المستويات الترابية، ركز قائد ومؤسس حزب الوردة على توطيد علاقة المواطن بالجهاز التنفيذي رافعا رهان إنجاح إصلاحين متلازمين، يتعلق الأول بتخليق تدبير الشأن العام، والثاني باستكمال الصرح الإداري الترابي. لقد أخذت حكومته على عاتقها، بكل عزم وإرادة، توفير شروط الكفاءة والنزاهة والمسؤولية والشفافية في التدبير العمومي من خلال تمديد إصلاح النصوص القانونية لتشمل تعديل الميثاق الجماعي وقانون الحريات العامة وقانون الصحافة وتعليل قرارات الإدارة،…إلخ.
كما أبرز اليوسفي رحمه الله تشبثه بالإصلاح التام والشمولي قولا وفعلا من خلال مواجهة ظواهر التقاعس في عمل حكومته باتخاذ العدد الكافي من الإجراءات الاحترازية والوقائية ضد الفساد، بحيث تعاطت كل الوزارات مع هذا الملف بالحزم الضروري مركزة على تدقيق المراقبة والقيام بالتحريات والتفتيشات والمتابعات التأديبية والقضائية الضرورية، والتي طالت عددا من المرافق والمؤسسات العمومية بعزيمة لم يلمسها المغاربة في السابق (القرض الفلاحي، صندوق الضمان الاجتماعي، البنك الشعبي،…). إن هذه الخطوة شكلت إشارة سياسية قوية عبرت عن تشبث الحكومة والجهازين التشريعي والقضائي بالسير قدما في المسار الإصلاحي للبلاد، وتشديد العزم على مواجهة الحالة المتدنية التي تعيشها مرافق القطاع العام من خلال تضافر الجهود المتكاملة بين السلط الأربعة لإحلال ثقافة المساءلة والمحاسبة.
وإنصافا للمرتفقين والمتعاملين مع الإدارة من مقاولات ومواطنين، بذلت الحكومة مجهودا جبارا لحمل الإدارات والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية على تنفيذ الأحكام الصادرة في حقها، والوفاء بالتزاماتها درءا لإهدار الحقوق، وصونا لنزاهة المرفق العام، وتكريسا لدولة الحق والقانون في مجال الأعمال. ولإعطاء دفعة قوية لتحقيق أهدافها في هذا المجال، بادرت مؤسسة الوزير الأول مطالبة تسريع هيكلة القضاء التجاري لضمان حقوق الفاعلين في عالم التجارة والاقتصاد.
ولخلق الروابط ما بين مختلف الإصلاحات المتشابكة المفتوحة، أعطى اليوسفي اهتماما بالغا لاستكمال بناء الصرح الإداري الترابي بالقيام بإصلاح شامل لنظام اللامركزية ببلادنا، وتفعيل المفهوم الجديد للسلطة، كاختيار استراتيجي لبعث الثقة بين الإدارة والمواطن، وإبراز الرسالة التنموية التي تضطلع بها في المقام الأول الإدارة الترابية بمختلف مكوناتها.
ومن أجل تنشيط الرواج التجاري ترابيا، وتنشيط الدورة النقدية المنعشة للادخار والاستثمار، أعطى اليوسفي للحوار الاجتماعي مكانة الرافعة لإنتاج السلع والخدمات للاستجابة للاستهلاك المتصاعد بفعل ارتفاع القدرة الشرائية الناتجة عن ارتفاع الأجور. كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه، قامت الحكومة بتسريع ملف تسوية وضعية المطرودين والموقوفين لأسباب سياسية أو نقابية، وتمكينهم من حقوقهم المادية كاملة، وتمت ترقية الموظفين والأعوان بكيفية استثنائية، وإحداث 4000 منصب شغل خصصت لترسيم الأعوان المؤقتين والمياومين العرضيين. هكذا تحول إقرار الترقية الاستثنائية إلى عرس وطني أدخل البهجة والسرور على الأسر المغربية من الطبقتين الوسطى والسفلى. لقد تمكن 106000 من الموظفين والأعوان من الاستفادة من هذا الإجراء الخاص الذي كلف وحده ميزانية الدولة والمؤسسات العمومية ما قدره 6.8 مليار درهم موزعة بين سنتي 2001 و 2002. كما أعطيت عناية خاصة لمراجعة النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية، وتعميم الاستفادة من نظام المعاشات على جميع المتقاعدين، واتخاذ إجراءات وإعفاءات جبائية لصالح الفئات المستضعفة لتمكينها من ولوج الخدمات الصحية والاجتماعية، ناهيك عن تمكين صغار الفلاحين من التغلب على مديونيتهم، واعتماد محفزات تشجيعية لتنمية المقاولين والمنعشين الشباب في مختلف الوحدات الترابية للمملكة.
وتفعيلا لتعهداتها المسطرة في برنامجها، نجحت الحكومة في سن نظام بديل للأجور في الوظيفة العمومية وفي إقرارها لدعوة المجلس الأعلى للوظيفة العمومية للاجتماع لأول مرة في تاريخ المغرب المستقل وذلك لتدارس القضايا المتعلقة بالإصلاح الإداري، وتحويله إلى محرك قوي للتنمية، وكذا في اتخاذها لقرارها الرامي لتعميم الاستفادة من نظام المعاشات.
- اليوسفي وطموح بناء النسق الديمقراطي القار
المنطق الإصلاحي اليوسفي وبناء مغرب الرقي في زمن قياسي
ما من شك أنكم، قرائي الأعزاء، لامستم بجلاء القوة السياسية والفكرية والمعرفية للمرحوم اليوسفي، قوة بركائز ثابتة، ومنهجية مدروسة، وبالتزام تام، وأبعاد إنسانية عالية القيمة لبناء وطن بنظام ملكي موحد لترابه، وحامي لسيادته، ومقوي لتلاحم الشعب والعرش، وطن بروح جماعية متضامنة لا تترك أي هامش للاختراق الخارجي، ولا لنفاذ الأفكار الهدامة إلى داخله.
لقد وضع رجل الاستراتيجيات المحكمة نصب عينيه، مسلحا بكل ثقله السياسي والحقوقي التاريخي، تحويل مطالب حزبه النضالية، التي تراكمت لمدة تفوق أبع عقود، إلى مشاريع وأوراش حكومية كبرى، ساعيا، بكل ما لديه من قوة ومصداقية، مواجهة كل الذرائع التي يمكن الاستناد عليها من طرف المناوئين للتجربة لإصدار الاتهامات والهجوم على هذه المحطة التاريخية في حياة المغرب المستقل. لقد فكر زعيم الوردة بالعمق المطلوب من أجل ترجمة كل مطالب حزبه زمن المعارضة إلى إجراءات قابلة للتفعيل. لقد نجح بكل المقاييس في حرصه الشديد على تحويل هذه المطالب التاريخية إلى برامج إجرائية، مشيدا بذلك حاجزا سميكا مناوئا للإغراءات المولدة للتماهي والخضوع لأصحاب النفوذ في التشريع والتنفيذ. لقد توفق في ربط تجربته السياسية، بعمق منطقها الشعبي، بالتجربة الإبراهيمية (نسبة للمرحوم عبد الله إبراهيم).
إن الحب الكبير الذي عبر عنه المغاربة على المستويين الشعبي والمؤسساتي من طنجة إلى لكويرة لليوسفي، الذي غادرنا لدار البقاء، ما هو في العمق إلا تعبير عن وعي متأخر بهدر فرصة بناء مغرب الرقي في وقت قياسي. إن التعابير الجياشة التي عمت المملكة ما هي إلا اعتراف بصدقه السياسي في القول والممارسة. إنه الصدق في النضال الذي سعى من ورائه الفقيد تحويله إلى مدرسة تربوية لخدمة الوطن وتقوية شعور الانتماء إليه.
إنه كذلك حب بنجاح المقاوم المخلص لبلده في خلق القطيعة مع الماضي بمنهجية محكمة، وقدرة فكرية ومعرفية كبيرة، قطيعة أبرز من خلالها إمكانية خلق مغرب جديد في الأفق القريب، مغرب متصالح مع ذاته، وقوي بشعبه ومؤسساته. لقد غادر المعتقلون والمختطفون السجون الرسمية وغير الرسمية بحمولتهم السياسية والحقوقية الثقيلة، وعولجت ملفاتهم بإنصاف وتقدير. وعاد المغتربون والمنفيون إلى أرض وطنهم. وأنصف الموظفون العموميون بتمكينهم من حقوقهم المهضومة منذ ما يفوق عشرين سنة بالنسبة لعدد كبير منهم.
لقد حقق رفيق المفكرين والأكاديميين الأغر، بمشاركة شعبية ومؤسساتية، نجاحا مبهرا في تشخيصه للإرث الثقيل، وتقييمه للثروات والإمكانيات الترابية للمملكة. وكانت خطته لتخفيض المديونية إلى أدنى المستويات، وربحه لجزء كبير من الميزانية السنوية، تعبيرا على ذكائه ومكانته النضالية الدولية. لقد تحملت البلاد لعشرات السنين عبأ ثقيلا حرم المغاربة من الحق في تحقيق نسب نمو تليق بحضارتهم. لقد حولت الحكومة هذا الربح السنوي المبهر إلى دعامة أساسية لإنجاح سياستها الاجتماعية، بحيث أعطت الأولوية إلى تحسين مستوى عيش المغاربة البسطاء من خلال الاستثمار في تمويل مشاريع القطاعات الأكثر مردودية في إطار منظومة مؤسساتية باختصاصات واضحة، وعلاقات قوية مغذية للثقة السياسية.
لقد كان الزعيم يعتبر توسيع فضاء الحريات الجماعية وتحصين الحياة العامة، واستكمال البناء المؤسساتي، وتخليق تدبير الشأن العام من أولويات الأولويات للوطن. بالنسبة له، الديمقراطية لا تستقيم في معانيها، والحياة العامة لا يكتمل دورها، دون ضمان الحريات الجماعية وترسيخ التعددية وحرية التعبير.
في هذا الصدد، تم اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لتعجيل تفعيل إستراتيجيته المحكمة لتوفير الوسائل والضمانات اللازمة لتشجيع المواطنين على المشاركة الآمنة في بناء وطنهم. لقد كان حدث تنصيب المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم رمزية كبرى للتعبير عن الإرادة الحقوقية لحكومته، مدعما خطته الشعبية بإدخال إصلاحات على قوانين الحريات العامة، وتكريس حرية التأسيس في قانوني الجمعيات والصحافة، مع تعزيز الضمانات القضائية لحرية هذه الأخيرة. كما أن إدراكه الدائم للدور السياسي المحوري للمجال السمعي البصري، جعله يولي مكانة رائدة لإصلاح هذا القطاع، معتبرا ذلك ركيزة من ركائز التأهيل السياسي للبلاد. لقد حول هذا الرجل العظيم انشغالاته المتكاملة إلى واقع تنفيذي من خلال التمكن من إعطاء الانطلاقة لورش تحرير القطاع وإقامة قطب سمعي بصري عمومي فعال وتنافسي، وتوفير الشروط اللازمة لاحترام حرية الرأي والتعبير، والنهوض بالإبداع الوطني وتحصينه بإحداث “هيئة عليا للاتصال السمعي البصري كمؤسسة مستقلة”، صنفها المرحوم في مصاف الأجهزة المؤسساتية الكبرى لتفعيل إستراتيجية حكومته السالفة الذكر في هذا المجال الحيوي.
لقد تتبع العالم كيف ساند الرأي العام المغربي الخطوات الرصينة التي اتخذها “عراب الديمقراطية الصرفة” لإنهاء احتكار الدولة لهذا النوع من الإعلام، ولما بذله من جهد لتقوية مرفق عام للإذاعة والتلفزيون يتلاءم والمتطلبات الجديدة للمشهد السمعي البصري ببلادنا. لقد عبر المغاربة عن تأييدهم لهذا الرجل وهو يناهض العوائق التي تقف أمام حرية تعبير الأفراد والجماعات، وحاول بكل ما لديه من قوة مواجهة آليات الردع البالية.
لقد أقنع المغاربة بأن لا سبيل لتوفير حياة سياسية سليمة ومنيعة دون النجاح في قيام مؤسسات ديمقراطية، وأن بناء مغرب مزدهر ماديا، وعادل اجتماعيا، يظل إلى حد بعيد، رهينا بمدى قدرة الدولة والمجتمع على الالتصاق بالتعاون والتضامن والحرص الشديد لربح رهان الدمقرطة السياسية واستكمال البناء المؤسسي وتخليق تدبير الشأن العام.
اليوسفي وطموح تحقيق التزكية الشعبية لتجربة الانتقال الديمقراطي
جميع المغاربة تابعوا كيف أرهق اليوسفي نفسه طوال فترة قيادته لحكومته طامحا أن يقرب السياسة من الناخبين، وجعلهم يلامسون دورها ووقعها الإيجابي على حياتهم اليومية. منذ البداية، اتخذ ما يلزم من الإمكانيات والإجراءات للرفع من إيقاع تحركاته وبرامجه الطموحة، وتسلح بالحرص الشديد على ضمان النجاعة والمردودية القصوى في تنفيذها. لقد استغل كل ما لديه من امكانيات مادية وبشرية لإقناع الجماهير بمزايا الممارسة السياسية الديمقراطية، وضرورة الدفاع عنها من خلال التجربة المغربية الفتية عبر المشاركة المكثفة في الانتخابات المقبلة.
لقد تابع المغاربة حدة انشغال عبد الرحمان بيوم الاقتراع البرلماني. لقد كان يوما عسيرا وشاقا بالنسبة له. لقد كان يعتبره يوما استثنائيا في تاريخ بناء الدولة الوطنية. هاتفه الشخصي في إقامته ومكتبه في الوزارة الأولى لم يتوقف رنينه من الصباح إلى أن تم الإعلان الرسمي عن النتائج من طرف وزارة الداخلية. لقد استقبل وفودا عالمية ذلك اليوم مقدما الإجابات الرصينة عن تساؤلاتهم، آملا أن يبرهن للعالم النجاح في امتحان التجربة المغربية الريادية على المستويين العربي والمغاربي.
إن عبارة “تنظيم انتخابات غير مطعون في مصداقيتها” كانت آخر ما صرح به اليوسفي في برنامج تلفزيوني بمناسبة “العشرية الأولى من حكم جلالة الملك محمد السادس”. لقد صرح بها ولم يضف شيئا آخر إلى هذه الجملة المهمة في المسار السياسي المغربي.
إنه الرجل الذي حمل نفسه مسؤولية ثقيلة منذ نجاحه في تشكيل حكومته، مسؤولية ربط الأداء الحكومي برهان إرضاء الجماهير وإقناعهم بمزايا السياسة الديمقراطية. لقد جعل من الارتقاء بالمسلسل الانتخابي في عهده مطمحا عزيزا عليه، معتبرا شفافية ومصداقية الانتخابات التشريعية لسنة 2002 السبيل الوحيد لوضع الحقل السياسي في مأمن مما لحقه في الماضي من انحرافات وخروقات سافرة أساءت بشكل خطير إلى التجارب الانتخابية السابقة ولسمعة المغرب السياسية.
لقد اتخذ كل ما يلزم لربط التصويت بالبرامج الحزبية من خلال الاعتماد الرسمي على نمط الاقتراع باللائحة كآلية لمحاربة الغش واستعمال المال الحرام في تزوير الإرادة الشعبية ونسف الديمقراطية. إن التصويت على “حزب” بدلا من التصويت على “شخص” بدافع ذاتي أو قبلي أو عقائدي أو غنائمي، كان بالنسبة له الآلية الوحيدة لإعادة الاعتبار للعمل السياسي المنظم والمسؤول، والارتقاء بالعملية الانتخابية إلى التنافس بين البرامج والأفكار والاختيارات. لقد كان يطمح إلى جعل التصويت آلية لتقييم تقابل البرامج السياسية بالحصائل الحكومية.
لقد وضع هذا القائد العفيف نصب عينيه، في كل ساعات أيامه وهو يرأس الحكومة، تحويل المنطق السالف الذكر وأساليبه المتعارف عليها كونيا إلى ركيزة لتقويم الدور التأطيري للأحزاب السياسية تماشيا مع المبادئ الأساسية للدستور. إنه المنطق الذي كان يعتبره السبيل العقلاني الوحيد لإضفاء الوضوح والشفافية على تشكيل التحالفات الحزبية اعتمادا على الأسس الأخلاقية، التي تستمد مرجعيتها من تجانس الخيارات وتلاؤم البرامج والتقاء التوجهات.
لقد كان همه الأساسي هو الترسيخ المستقبلي للشروط الموضوعية في المشهد السياسي المغربي لتشكيل الأغلبيات المسؤولة والمتماسكة التي تنبثق عنها حكومات قوية ومنسجة. لقد كان يعتبر تحقيق هذا المطمح بمثابة إنجاز قياسي في التاريخ السياسي المغربي، إنجاز سيسهل على الدولة تحقيق مستويات عالية من الثقة ما بين الجماهير والمؤسسات من خلال تثبيت منظومة انتخابية تسترد من خلالها المؤسسات الاعتبار والمصداقية في تدبير الشأن العام وترسيخه في أذهان الناخبين، وبالتالي تثبيت المصالحة الدائمة للمواطن مع مؤسساته، من خلال جعل التنفيذ اليومي لمضامين السياسة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مندمجا بالقوة اللازمة في حياة الشعب المغربي.
- اليوسفي، رجل تاريخ ربط السياسة بمصلحة وتقييم الشعب المغربي
اليوسفي، إبداع في تشخيص الإرث الثقيل وشجاعة ونجومية في رفع تحديات الإصلاح
لقد لامست مصادر القرار المؤسساتية خطورة الأوضاع بالمغرب في نهاية الثمينات وبداية التسعينات. إنه الاعتبار الوطني الذي كان دافعا قويا، لم يستحضر فيه حزب القوات الشعبية أي تردد، لاتخاذ قرار قيادة الحزب لمشروع إنعاش البلاد، متحديا مستويات التأزم التي عمت كل مجالات حياة الدولة والمجتمع. لقد استجابت القيادة الحزبية، وبدون أن تعتبر ذلك مغامرة سياسية، للإرادة الملكية المعلنة رسميا للانفتاح على الطاقات الوطنية تحت شعار إعطاء الانطلاقة لتطوير نسق سياسي جديد، يدخل البلاد إلى مرحلة تثبيت ركائز تأهيل حياتها السياسية، وتقريب منافع السياسة الديمقراطية الإصلاحية من الجماهير الشعبية. لقد كان عبد الرحمان اليوسفي، كقيادي لحزب معارض تاريحي عريق، واعيا تمام الوعي بصعوبة المهام والتحديات المرتبطة به. إنه الوعي الذي عبر عنه من خلال تقديمه لحصيلة عمل حكومته كالتالي: “والواقع أننا واجهنا وضعية كان يتجلى لنا يوما بعد يوم طابعها المقلق. فبلدنا كان على عتبة أزمة اجتماعية شاملة، وكان اقتصادنا ذا تنافسية ضعيفة. أما الادخار والاستثمار فكانا دون المستوى بسبب انعدام أي رؤية واضحة وفقدان للثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين، وكانت المالية العمومية على جانب كبير من الهشاشة بفعل عبء نفقات التسيير وحجم المديونية العمومية الخارجية على الخصوص، بتلازم مع تجاوزات على صعيد العجز العمومي، بينما كان القطاع العمومي يجنح نحو الانهيار نتيجة سوء تدبير بعض المؤسسات والمقاولات العامة التي تحولت إلى قلاع منيعة. والأخطر من هذا وذاك، أننا اصطدمنا بواقع مجتمع كان ولا يزال يئن من أثار ماض مؤلم في مجال حقوق الإنسان “
إن الوعي بجسامة المسؤولية في مواجهة هذا الإرث الثقيل، دفعه إلى تخصيص وقت كاف للإعداد المنهجي وتوفير شروط العمل السياسي الجاد، رافعا تحدي إخراج البلاد من المنطقة السوداء/الرمادية من خلال ترشيد النفقات وتخفيض المديونية إلى أدنى المستويات الممكنة، وإعطاء الانطلاقة للمشاريع المهيكلة للتراب الوطني، مركزا طوال أيام حياة حكومته على النهوض بالأوضاع الاجتماعية، فاتحا أوراشا الإصلاحية عديدة ومتنوعة في كل مجالات العمل الحكومي، وعلى رأسها قانون الصفقات العمومية، والتربية والتعليم والحريات العامة وحقوق الإنسان.
لقد توج مجهوده بتوفير قسط هام من ميزانية الدولة سنويا نتيجة التقليص الكبير للمديونية الخارجية، الشيء الذي مكنه من إنجاح الحوار الاجتماعي، ساعيا بكل ثقة تحسين أحوال الشغيلة في القطاعين العام والخاص، وتقوية الطبقة الوسطى المنشطة للحياة الاقتصادية المحلية، والمنعشة للأنشطة التجارية والحرفية الصغرى المنتشرة في الأسواق الأسبوعية والأحياء الشعبية (الفئة العريضة من المجتمع المغربي). إنها الحصيلة التي خلقت رواجا اقتصاديا منتجا واستقرارا ترابيا في مختلف أقاليم وجهات المملكة.
اليوسفي والنجاح في تفعيل منهجية ربط السياسة بإرادة الشعب
لقد سبق للمرحوم اليوسفي أن اعتقل في السابق بسبب اقتناعه التام الذي جسده بتصريح إعلاني طالب من خلاله ربط مسؤولية الحكومة بتقييم الرأي العام (أي ما نسميه اليوم بربط الحكم بصناديق الاقتراع أي بالمحاسبة الشعبية). فبعدما انتقل التدافع المسؤول من أجل تحويل السياسة إلى ترجمة معلنة لإرادة الشعب الواعية في إطار التوافق من طابعه النضالي والمطلبي الشعبي إلى الطابع المؤسساتي التفعيلي، تحول تعيينه إلى مرحلة تاريخية لتقوية الروابط ما بين السلطات الأربع للدولة المعروفة كونيا: الحكومة، البرلمان، القضاء والإعلام. لقد وضع هذا القائد هدف ترسيخ هذا الترابط الجوهري في العمل الديمقراطي إلى انشغال أساسي في قيادته لتدبير الشأن العام. وفعلا كان، لقد حقق أيقونة السياسة المغربية، بشهادة كل المتتبعين وطنيا ودوليا، ارتقاء قياسيا في المجال المنهجي والحكامة التفعيلية.
ففي إطار التواصل مع البرلمان، تم لأول مرة عرض البرنامج في بداية الولاية الحكومية، ثم العودة إليه عند منتصفها لتقديم عرض مرحلي بالمنجزات والأوراش المفتوحة وآفاق العمل، ثم تقديم الحصيلة في آخر الولاية. لقد توجه اليوسفي من خلال منهجيته إلى الشعب المغربي، معتبرا إياه شاهدا على هذه المحطة التاريخية، مصوبا رسالته السياسية إلى الضمير الجماعي للمغاربة في شأن ربط المسؤولية السياسية بالمحاسبة الشعبية.
لقد حاول بكل ما لديه من قوة الرفع من قيمة البرنامج الحكومي بتحويله إلى التزام تعاقدي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، هادفا إرساء هذه الثقافة في الممارسة المؤسساتية والوعي الشعبي على السواء. لم يضيع هذا القائد التاريخي أي فرصة زمنية لزرع المبادئ الديمقراطية السالفة الذكر في ضمير الأمة المغربية متخذا كل الوسائل الممكنة لسن عرف “تقديم الحصيلة”، الواقعية والموضوعية، في التوقيت المناسب، وتحويلها إلى آلية لتقييم الأداء الحكومي، ومعيار لتجديد الثقة الشعبية من عدمه في مكوناتها في المحطة الانتخابية المقبلة. لقد نزل الزعيم عبد الرحمان بكل ثقله النضالي من أجل ترسيخ دولة المؤسسات بثقافة سياسية جديدة، توضح بجلاء المعنى النبيل لتحمل المسؤولية على أعلى مستوى في أجهزة الدولة، وأهمية تفعيل منهج الحوار بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
لقد ثابر هذا القائد الاستثنائي في الحياة السياسية المغربية، ولم يهدأ له بال منذ الساعة الأولى من تخطيه عتبة مكتبه بالوزارة الأولى، من أجل التعبير الفعلي كون قيمة التجربة لن ترتقي إلى المستوى السياسي المطلوب ما لم تلعب مؤسسة الوزير الأول الأدوار المنوطة بها في مجالات التنفيذ وروابطها بالشرعية السياسية الانتخابية. لقد حرص أن يجعل منها الوظيفة الدستورية بالمقاييس الديمقراطية الدولية بالرغم من كون دستور 1996 لم يحدد ذلك بشكل واضح ومفصل. لقد قاوم بشدة كل ردود الأفعال المعرقلة، التي كانت تطمح في النجاح في مضايقته، وبالتالي زرع التذمر في نفسيته بالقدر الذي يفرض عليه التخلي الكلي أو الجزئي عن بعض انشغالاته السياسية المعلنة، والتقليص من حدة عزائمه لبناء دولة الحق والقانون بالتدرج. فإضافة إلى عدم تقبله للمشاريع “العرجاء” ذات الحصائل الناقصة أو الضعيفة، كانت الضمانة الملكية حافزا له للسعي القوي لتحقيق نتائج مشاريع النسق السياسي المتوافق عليه من خلال تحويل مهامه المؤسساتي في تأطير العمل الحكومي وتنشيطه ولعب الأدوار السياسية في مجالي التنسيق والتحكيم إلى سلاح ناجع لردع جيوب المقاومة (لقد توفق المرحوم في وضع كل نخب المخزن التقليدي أمام امتحان الحكامة الجيدة).
لقد اعتمدت حكومته، المسلحة بالثقة والدعم الملكيين، على الحوار والتشاور من أجل إثمار التعامل والتفاعل مع كافة الفاعلين (أصحاب سلطة)، بحيث التزم اليوسفي بقيم التفاوض المثمر المراعي في نفس الآن لمصالح الفاعلين والمواطنين والدولة في تدبير الملف الاجتماعي، مبرهنا لمفاوضيه عن القدرة الحكومية على الوفاء بالالتزامات المبرمة.
ومن أجل توفير الوسائل المالية الضرورية لتنفيذ مشاريعه، عملت الحكومة، منذ البداية، على انتهاج سياسات قطاعية بإعطاء الأسبقية للقطاعات الأكثر إنتاجية والواعدة في مجال إحداث فرص الشغل. إن تشبثه بالمقاربة الاندماجية في بلورة وتنفيذ المشاريع التنموية، جعله يسهر باستمرار في ارتقاء مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى مكونات متكاملة تنضوي في إطار نسق شمولي، وصيرورة بأبعادها الزمنية القصيرة والمتوسطة والبعيدة. لقد جعل لأول مرة من سياسة إعداد التراب أرضية تنموية للترشيد الجيد للاستثمارات العمومية وتوزيع المهام على أساس توضيح المسؤوليات بين الفاعلين.
لقد تصارعت حكومته مع الزمن من أجل تحقيق تشخيص دقيق للإمكانيات الاقتصادية والبشرية للوحدات الترابية في مختلف جهات المملكة من خلال منظور جديد لسياسة إعداد التراب الوطني، والذي توج بالميثاق الوطني لإعداد التراب. وفي المجال الاقتصادي وإنعاش الشغل، تم الاعتماد على مقاربة مبنية على دعم الادخار والاستثمار كقاطرة حقيقية وقارة لإنعاش التشغيل، وعلى تحرير بنيات الاقتصاد الوطني باعتبارهما عاملين أساسيين لتهذيب السلوك المستقبلي للفاعلين الاقتصاديين، ولبعث ثقافة المبادرة الحرة كإطار أمثل للاندماج المهني الحقيقي لفئات مؤهلة عريضة من الشباب المغربي.
- اليوسفي والانطلاقة القوية لبناء المشروع الديمقراطي الحداثي
دعامات أخرى للتحديث الثقافي عند اليوسفي : الجالية المغربية، التربية والتعليم والحق في التعبير الثقافي الحر.
إضافة إلى حرصه الشديد لنصرة قضايا المرأة المشروعة، ودفاعا منه على حق المغاربة في تملك وعي ثقافي جدير بتراثهم الثقافي الحضاري على أسس معرفية وعقلانية، حول المرحوم اليوسفي عمل حكومته إلى فضاء للحوار والتناظر الوطني الديمقراطي الذي تتكامل فيه المجالات بقضاياها الحيوية. في هذا الصدد، جعل مبدع النهضة المغربية من حقوق الجالية المغربية بالخارج وتطوير المنظومة التربوية والتعليمية ببلادنا دعامتين أساسيتين لتحويل العمل التنفيذي الرسمي إلى محطة أساسية للانطلاق بحكمة وتبصر في بناء المشروع الحداثي الديمقراطي، المشروع الذي حوله بكفاءته ووزنه السياسي إلى شعار، بصدى وطني وإقليمي ودولي قوي، ميز العهد الجديد منذ سنة 1999 إلى اليوم.
إن تشبثه بتحويل الوطنية الصادقة إلى زاد غني لتغذية المستقبل في إطار استمرارية تطور المؤسسات وبناء دولة الحق والقانون، دفعه إلى جعل الأسس المعرفية والفلسفية مرجعا دائما في التعاطي مع كل الأوراش الضرورية في مرحلتي البلورة والتنفيذ لبناء المشروع السالف الذكر بخطى ثابتة، مشروع أراده أن يكون منطلقا لجعل السياسة في نفس الوقت آلية لتحسين مستوى عيش المغاربة، وقاطرة للنماء المستجيب للتطورات العالمية السريعة التي انطلق مسارها منذ بداية التسعينات.
فأفراد الجالية المغربية الذين يقيمون بمختلف دول العالم، بالنسبة له، يشكلون ثروة معرفية وتكنولوجية ومادية لوطنهم الأم. إنها الثروة الثمينة التي لا يمكن التعامل معها بمنطق الحياد أو التغاضي نظرا لما يمكن أن تلعبه من أدوار أساسية ومحورية في إعداد وبلورة المشاريع التنموية الترابية الداعمة والمعززة للنمو الاقتصادي وتحقيق الاندماج الاجتماعي ببلادنا. فإضافة إلى قدرتهم العالية لنقل الخبرات والتجارب التي راكموها، ومهاراتهم التي اكتسبوها لدعم تنمية الوطن الأم، اعتبرهم اليوسفي منذ البداية رموزا في مجال الدبلوماسية الثقافية والسياسية. لقد أبرز للرأي العام، من خلال تخصيص وزارة للسهر على تدبير شؤونهم وتقوية علاقتهم بوطنهم، أنهم جديرين بالثقة الكاملة في إشراكهم في تقوية الزخم الجديد الذي يميز دينامكية التنمية زمن انفتاح المملكة على كل أبنائها في مختلف المجالات والقطاعات والمشارب السياسية والإيديولوجية.
فإضافة إلى أهمية معطياتهم الديمغرافية، بعددهم الذي يتجاوز 6 ملايين نسمة، وبتوزيعهم على أكثر من 100 دولة، اعتبرهم اليوسفي باقتناع تام قوة اقتراحية وحوارية وتفاوضية واقتصادية واجتماعية في بلدان الاستقبال، نظرا لما برهنوا عليه من كفاءة وقدرة في التزامهم ودفاعهم عن المبادئ العالمية، وحضورهم القوي في مختلف المؤسسات والهيئات والقطاعات، وفي ارتباطهم وتشبثهم ببلدهم الأم المغرب، واستعدادهم الدائم للمساهمة الفعالة في تحقيق تنميته وتقدمه وازدهاره. إنهم بالفعل مرجع يجب الإنصات إليه بحكمة وتبصر في كل المجالات وعلى رأسها مجالات الحريات والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان والنهوض بوضعية المرأة.
أما بالنسبة لقطاع التربية والتعليم والتكوين، فقد اعتبره اليوسفي من القطاعات الأساسية في سياسة الدولة لكونه فاتحة للتقدم والنمو والاستقرار الاجتماعي والتكافؤ الحضاري، ومصدر أقوى القيم الإنسانية لتحصين الذات من مختلف أنواع الاستلاب والتطرف، وإعداد الشباب المغربي لربح رهانات القرن الواحد والعشرين. فاليوسفي في هذا المحور بالذات لم يميز بين التربية والتعليم (في الأسرة والمدرسة) عن التكوين، بل كانت فلسفته في تدبير هذا القطاع لا تحتمل التجزيء، الشيء الذي جعله يعتبر أن إصلاحه لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا من خلال منطق شمولي يجعل الهدر المدرسي-التكويني يلازم الصفر (تقوية الجسر التوجيهي ما بين المستويات التعليمية والشعب التكوينية والمهنية). إنها الاعتبارات التي جعلته ينجح في تجسيد النتائج الملموسة من خلال بلورة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والسهر على تنفيذ مضامينه بالتركيز على أربعة محاور أساسية، أولها إلزامية التعليم وتعميمه، وثانيها ضمان جودة التعليم، وثالثها ملائمة تعليمنا مع عالم الشغل، ورابعها تقوية الجسور عبر التوجيه ما بين التعليم والتكوين المهني. وفي هذا الصدد، اعتبر اليوسفي سنوات 2000/2009 عشرية وطنية للتربية والتكوين، وأكد على ضرورة إيلائها الأسبقية بعد الوحدة الترابية.
ولجعل الأسرة والمجموعات الترابية (الأحياء والدواوير) أكثر استعدادا للمشاركة في تنمية مجالاتهم الترابية، ركز اليوسفي على كل ما من شأنه أن يساهم في خلق شروط التعبير الثقافي الحر. فبالرغم من أثقال الماضي وإكراهات الحاضر، تميز عمل حكومته في إدارة الشأن الثقافي بوضع إستراتيجية متكاملة ومتلائمة مع تطلعات مغرب الألفية الثالثة، مبنية على الحوار والتشاور والشراكة مع الهيآت والفعاليات المهتمة بالثقافة. كما استحضرت الحكومة التطورات الوطنية وتأثيرات ومتطلبات التطورات الدولية (العولمة)، مع الحرص بالأساس، على تمكين البلاد من هياكل ثقافية حديثة، وصيانة التراث وتأهيله وتثمينه. لقد كان هم الحكومة الدائم هو خلق الظروف الملائمة المتيحة لتفجير الطاقات والإبداع والخلق لدى الأطفال والشباب والفئات النشيطة المنتجة.
فتجسيدا لخطته الوطنية في هذا المجال، عملت الحكومة على توسيع وتطوير البنيات الأساسية المساعدة على إنتاج ونشر وترويج المنتوج الثقافي وصيانته، وإنشاء عدد من المؤسسات الثقافية الكبرى، أبرزها المكتبة الوطنية للمملكة، والمتحف الملكي للتراث والحضارات، وتقديم الدعم للأعمال المسرحية الجادة وتشجيع الكتاب والفنون المشهدية والجمعيات الثقافية الفاعلة ماديا ومعنويا،… كما أولت حكومة اليوسفي أهمية قصوى لقطاع تقنيات المواصلات والإعلام والبريد والبحث العلمي والتواصل وتمكنت بهذه المجهودات من تقليص “الهوة الرقمية”، وإدماج بلادنا في مجتمع الإعلام والمعرفة، كامتداد طبيعي لتحرير القطاع.
إن ما قام به زعيم الوردة خلال أربع سنوات فقط يعتبر اليوم جسرا قويا وصلبا مكن المغرب من المرور من مرحلة التخلف والبهوت الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحقوقي، إلى مرحلة مكنت اليوم العهد الجديد من دعوة المغاربة بكل ثقة إلى بلورة عقد اجتماعي متطور، يكون أساسه أرضية نموذج تنموي جديد وشامل يستمد مقوماته من الحياة السياسية الشعبية.
إن منهجه التحاوري والتفاوضي القار، والذي لم يقبل يوما أي مساومة أو تغرير من أجل التخلي عنه، جعله منزها ونزيها في تعامله مع كل الفرقاء. لم يسمح لنفسه يوما في تمرير قانون خارج ضوابط الحوار والالتقائية. وقد تأسف اليوسفي قيد حياته لتعثر قانون الشغل بالرغم من تكثيف اللقاءات الحوارية والتفاوضية بشأنه، القانون الذي تمت المصادقة عليه بسهولة في الشهور الأولى من عهد حكومة السيد إدريس جطو.
- الزعيم اليوسفي قائد الثورة المؤسساتية الهادئة بالمغرب
اليوسفي يمثل بالنسبة لأجيال المغاربة المتعاقبة منذ الاستقلال رمزا استثنائيا في التاريخ السياسي المغربي، تمكن بجدارة واستحقاق من قيادة الجهاز التنفيذي لفترة انتدابية كاملة، ومن إشعال ثورة مؤسساتية سلمية وهادئة وبناءة بالبلاد، الثورة التي خلقت رجة قوية في منطق ممارسة السلطة في كل أنحاء المملكة. إنها ثورة إصلاحية استندت على تشخيص أوضاع كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالدقة المتناهية، واعتمدت على المناهج العصرية للتدبير، لتتفوق في خلق التحولات الأساسية في الدولة والمجتمع على السواء، تحولات مكنت البلاد من النجاح في تجاوز أخطر منعطف في تاريخها، لتعبد لنفسها طريقا جديدا وضع أعيان وأعوان الدولة ورواد وفاعلي المنطق السابق (منطق الصراع السياسي) أمام امتحان الاندماج في بناء مشروع الدولة المؤسساتية بسلطها الأربع المميزة للنظام الديمقراطي المتعارف عليه دوليا: التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية. إن المنطق الوطني التي قاد به عبد الرحمان طيب الله ثراه “قطار” حكومته، بدعم ملكي واضح المعالم، لم يترك أي فرصة لنخب المخزن القديم سوى الركوب في إحدى القاطرات متفاعلين إيجابيا مع التجربة بدون قيد أو شرط أو التموقع المفضوح في خانة جيوب المقاومة المعادية لمصالح الشعب المغربي، والمناوئة للتغيير والتطور الذي أصبح شعارا رسميا للدولة بكل مؤسساتها.
إن حرصه الشديد بالتقيد الصارم بمقومات وقيم المنهجية الديمقراطية جعله أكثر تشبثا بتفعيل دوره كاملا، كمؤسسة ثانية في هرم سلطات الدولة، خاصة ما يتعلق بربط المسؤولية (في تنفيذ البرامج التنموية واعتماد الأنماط التدبيرية) بالمحاسبة (الإدارية والقضائية والسياسية). لقد حول برنامجه السياسي إلى إشارات بارزة ميزت سنوات ولايته التنفيذية بالكامل، ليجعل منها تعبيرا ملموسا على أرض الواقع عن الوعي العميق لوزيرها الأول بحجم الانتظارات والحاجيات الشعبية، والسعي المتواصل للاستجابة الإيجابية لها.
في هذا الصدد، صرح اليوسفي في نهاية ولايته، أن التحديات والرهانات الرئيسية التي تواجهها البلاد أصبحت اليوم واضحة ومحددة، وأضاف أن الإصلاحات الأساسية، التي تشكل أسس المغرب الديمقراطي والعصري والمتضامن للقرن الحادي والعشرين في مجالات الحريات العامة واللامركزية والجهوية والتربية والتكوين والتكنولوجيات الحديثة والإعلام والحماية الاجتماعية، قد تم الشروع في تنفيذها بالقوة اللازمة، ويتعين مواصلتها إلى النهاية، وإنجاحها وترسيخها كثقافة في التدبير الديمقراطي لشؤون البلاد المختلفة.
لقد نزل صانع التحولات المحورية والجوهرية في منطق ممارسة السلطة بالمغرب بكل ثقل تاريخه النضالي، إلى جانب إخوانه في حزب الوردة، ليوضح للمغاربة السبيل الوحيد الذي وجب النضال والدفاع عنه بسلمية وهدوء واستماتة لبناء مستقبل يكون في خدمة الشعب المغربي برمته. إنه التصريح، المصحوب بنجاعة وقوة التفعيل الميداني، الذي راهن عليه زعيمنا الصادق لتحويل الاستحقاقات 2002 إلى عرس وطني لتثبيت التناوب الديمقراطي على الحكم، عرس احتفالي يثبت مسار وطني جديد للتقدم في تحقيق وإتمام الإصلاحات الكفيلة بتمكين المغرب من المرور إلى الديمقراطية.
إن الطموح الكبير الذي تملك جوارح الزعيم التاريخي للعمل الحزبي خلق فيه يقظة دائمة ونباهة شديدة في الاقتراح والتوجيه والتحكيم متشبثا بضرورة تنزيل مطالب حزبه النضالية على أرض الواقع بالقوة اللازمة التي يستحقها أبناء هذا الوطن. لقد ثابر بدون انقطاع، بالرغم من كبر سنه ووضعه الصحي، إلى أن لامس نوع من الرضا المجتمعي على خططه وواقعيتها ووقعها على حياة الشعب أفرادا وجماعات. لقد لامس المغاربة كيف نجح عبد الرحمان في تجاوز المرحلة الحرجة التي وصفها المرحوم الحسن الثاني بعبارة: “البلاد مهددة بالسكتة القلبية”، وتابعوا كيف تشبث في كل لحظات فترة تحمله مسؤولية الوزارة الأولى بتحقيق رهان الرفع من الوعي السياسي بالبلاد وربطه بإتمام التطبيق التدريجي للإصلاح الشامل.
إن استهدافه للمستقبل، عبر إصلاح الحاضر وتجاوز معيقات الماضي، جعله، كما سبق توضيح ذلك أعلاه، يولي لنظام التربية والتكوين أهمية قصوى في انشغالاته اليومية. إنه القطاع الذي يعد بالنسبة له أحد مفاتيح المستقبل، لأن لا مستقبل إلا عن طريق تربية وتكوين الأجيال الصاعدة.
إن حرصه على النجاح في الصمود أمام قوة أمواج المقاومة العاتية، حول دعواته المتكررة لمحاربة البطء في تنفيذ البرامج الحكومية إلى سلاح للتذكير بحق المغاربة في تذوق حلاوة التنفيذ القوي لأسس التوافق السياسي بآفاقه البارزة الضامنة لتيسير المرور إلى مراحل متقدمة، تمكن من الوطن والمواطنين من:
- تفعيل مبدأ تساوي وتكافؤ الفرص وإعطائه مدلولا أشمل وأكمل،
- جعل تكريس الحق في الشغل على أوسع نطاق مفتاحا لحماية كرامة الإنسان وأمله في العيش الرغيد،
- ربط مواصلة العمل الجاد بتحقيق هدف تقليص الفوارق الاجتماعية،
- تقوية شبكات الحماية الاجتماعية وآليات التضامن داخل الأمة المغربية.
إن شعار إنجاح التوافق السياسي كان بالنسبة لليوسفي تعاقدا سياسيا صعبا نظرا لما يتطلبه من عناء في التفكير والتفعيل، ومن صراع مع الزمن من أجل تحويل ارتقاء فضيلة ثقافة التوافق إلى آلية تقود البلاد إلى التناوب الديمقراطي المستند على التعبير السياسي العقلاني والواعي للكتلة الناخبة، تعبير تتمخض عنه القيم المغلبة للمصلحة العليا للوطن على الحسابات الذاتية أو الحزبية. وفعلا كان، لقد كانت نتائج استحقاقات 2002 اعترافا شعبيا لما أسداه هذا الزعيم من خدمات لوطنه، خدمات جليلة أنقذت البلاد من الإفلاس، وأعادت الحياة للمجال السياسي، وأنعشت الاقتصاد الوطني، وأعادت الأمل في إمكانية تقوية وتوطيد الثقة بين المؤسسات والمواطنين.
هذا، فبالرغم من قصر مدة تحمله مسؤولية الوزير الأول (1998 ـ 2002)، يحس الناس اليوم أنهم مدينون لهذا الرمز لما أسداه من خدمات صادقة للوطن. لقد نجح من خلال قيادته لهذه التجربة من إزالة حالة التوتر الحاد الذي شعر به الناس طوال عقود عجاف، ومكنهم من الوعي بقيمة الرصيد السياسي لحزب القوات الشعبية الذي عبر عن القدرة السياسية الفائقة على تحويل المطالب النضالية إلى إنجازات ملموسة في الواقع، وإلى مرتكزات أخلاقية حملت في طياتها تحديات، وأبرزت في بلورتها وتنفيذها رؤية جديدة خلقت طموحا مجتمعيا غير مألوف في السابق. لقد تحولت التجربة إلى حوارات وطنية دائمة فتحت الباب لطيف واسع من أبناء هذا البلد للتعبير على طموحاتهم وحقهم في استغلال معارفهم في خدمة بلدهم.
إن ما أسداه اليوسفي من خدمات قيمة وثمينة جعلت أذهان المغاربة اليوم واعين تمام الوعي بالجانب الإنساني المميز لمجريات الأحداث في الدول الديمقراطية، مستحضرين العلاقة الوطيدة بين التجارب السياسية الجادة وإنتاج الرموز التاريخية المحدثة للتغيير والمنعطفات الإيجابية في اللحظات المناسبة. لقد اعتبر المغاربة عبد الرحمان نجما سياسيا في تقوية وعيهم بالمستقل، وبإمكانيات كسب معارك المنافسة المجتمعية حاضرا ومستقبلا. إنه الرمز الذي ارتبط تاريخ حياته بخلق التحول في منطق تعامل الدولة مع السياسة بإرادة حماية المكتسبات، وتقوية الأمل في المستقبل، وإعادة الثقة في العقيدة السياسية الديمقراطية، وارتقاء مفهوم الشعبية بشكلها الأنقى والأكثر أصالة، وحمايتها من تفشي الشعبوية القاتلة.
- اليوسفي وتحدي رفع تنافسية الاقتصاد الوطني زمن العولمة
إن الوعي التام بالتدهور العام الذي أصاب القطاعات الاقتصادية الوطنية كان بالنسبة لعبد الرحمان دافعا قويا لتجاوز كل معيقات العمل الوطني الجاد لإنقاذ البلاد من الكساد الذي استشرى في كل مجالاتها الحيوية للوطن (السكتة القلبية). لقد ربط زعيم الاتحاديين بالقوية اللازمة تأهيل الاقتصاد الوطني بجهود توفير شروط الانطلاقة الاقتصادية الصحيحة والواعدة. وعليه، فقد بذلت حكومته من أجل ذلك كل ما بجهدها لإعادة الحياة والنشاط لكل القطاعات الاقتصادية، وتمكينها، بتدبير عقلاني لإمكانياتها، من خوض غمار المنافسة الدولية. لقد كان رهان توفير الشروط الضرورية لتحقيق نمو اقتصادي مستقر ودائم من خلال إعادة تشخيص واستغلال إمكانيات البلاد من أولوية أوليات اليوسفي السياسية. إنه السبيل الوحيد بالنسبة للمغرب للسير قدما، بالشجاعة والاطمئنان المطلوبين، في اتجاه ضمان ثقة الفاعلين المحليين والدوليين في المسار الديمقراطي والتنموي للبلاد. لقد أعطى في هذا الشأن أهمية قصوى للتركيز على تأمين التدبير السليم والشفاف للمالية العمومية، هادفا من وراء ذلك تقوية المناعة المالية للوطن بتوفير شروط ضمان الحفاظ الدائم على التوازنات العامة، وتمويل الأنشطة الاقتصادية الواعدة في مجال المردودية والمناعة المناوئة للتأثيرات السلبية للتطورات الدولية.
وللرفع من وقع المجهودات المبذولة ميدانيا، في تسابق مع الزمن ومع التأثيرات الطبيعية السلبية، اتخذت الحكومة الإجراءات اللازمة لتجاوز آثار الجفاف، وارتفاع فاتورة الطاقة، وكذا إنقاذ عدة مؤسسات عمومية المهددة بالإفلاس جراء سوء التدبير الذي عرفته لعقود مضت. وسعيا منه للتحكم في المؤشرات السوسيواقتصادية، تم إنضاج خطة اقتصادية جديدة مكنت حكومة التناوب التوافقي من التحكم في التضخم من أجل الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وكذا تطويق العجز في الميزانية، والرفع من التوفير العمومي، وما لذلك من تأثيرات ايجابية على ظروف تمويل الاستثمارات.
الورش الريادي الهام، الذي رسخ في أذهان المتتبعين قوة الكفاءة السياسية لحزب بن بركة، يتجلى في النجاح المبهر الذي حققته الدولة في تدبيرها لمصلحة الدين الخارجي. لقد حقق اليوسفي إنجازا مبهرا ميز بشكل واضح التفوق العلمي والتقني والسياسي لحكومته. إنها المرة الأولى منذ الاستقلال التي تمكن المغرب من خلالها من تقليص المديونية الخارجية من 19.1 مليار دولار إلى 14.1 مليار دولار إضافة إلى تسجيل فائض مهم، لأول مرة كذلك، في ميزان الأداء (balance des paiements)، وبالتالي تمكين البلاد من تحقيق ارتفاع قياسي في رصيدها من العملة الصعبة.
وبفضل الإنجازات المشجعة المذكورة أعلاه، تمكن رجل المهمات الصعبة من مواجهة التعقيدات والعراقيل أمام الاستثمارات، بحيث اتخذ في التوقيت المناسب قرار إنشاء اللجنة الوزارية للاستثمارات والتي حققت، تحت إشرافه، نتائج جد مشرفة في مجال تنشيط الاقتصاد الوطني، نتائج جسدها ارتفاع حجم الاستثمارات إلى 25 مليار درهم، ومناصب الشغل القارة المحدثة إلى 32000، ناهيك عن المصادقة على 63 اتفاقية استثمار بمبلغ إجمالي تجاوز 45 مليار درهم.
لقد خلق اليوسفي، بقيادته لحكومة الانتقال الديمقراطي، إنجازات اقتصادية هيكلية عبرت عن انطلاق مسار استرجاع المملكة لثقة المستثمرين. هكذا، تمكنت الحكومة من الرفع من مستوى الاستثمار ب 25 بالمائة خلال فترة 1998ـ2002 مقارنة مع فترة 1993ـ1998. كما أن حجم الاستثمارات الخارجية المحققة التي تم استقطابها خلال 4 سنوات لم يتم تجميعه خلال العشرين سنة الماضية.
من أجل إبراز الأهمية التي آلتها الحكومة لمجال تشخيص وتسويق الإمكانيات الثقافية والطبيعية والترفيهية والتجهيزية التي تتوفر عليها البلاد، جعل اليوسفي من انشغاله بالتنمية السياحية ورشا أساسيا في برنامج حكومته. لقد تم تسطير إستراتيجية وطنية لاستقبال عشرة ملايين سائح أجنبي في أفق 2010 وإعطاء الانطلاقة لتفعيلها بحزم كبير.
بنفس الاهتمام، شددت الحكومة من عزمها لإدخال تغييرات جوهرية على طرق استغلال الثروات البحرية بمنظور يضمن تقوية النسيج الاقتصادي الوطني وضمان الأمن الغذائي بالبلاد. ومن أجل ذلك، وبعد تعذر التوصل إلى صيغة جديدة للتعاون على أساس الأرضية التي اقترحها المغرب، بادرت الحكومة في نفس الوقت إلى فك الارتباط مع الإتحاد الأوربي والقيام بمراجعة التشريع الوطني للصيد البحري وإعادة هيكلة كافة مسالكه في إطار إستراتيجية واضحة المعالم، تهدف إلى ضمان الحفاظ المستمر للموارد السمكية الوطنية والرفع بشكل دائم من مردودية هذا الميدان الحيوي إلى أعلى المستويات الممكنة.
ولإبراز مؤهلات الدرابة اليدوية المغربية وتاريخ حرفها المجيد، قام اليوسفي بإعادة تشخيص قطاع الصناعة التقليدية والمهن المرتبطة به (يشغل 20 بالمائة من ساكنتنا النشيطة)، لتباشر حكومته مسلسلا اندماجيا للتأهيل الشامل لهذا القطاع الحيوي من خلال ميثاق وطني للصناعة التقليدية (الكتاب الأبيض).
وباستحضار دور قطاع الإسكان في تنشيط الحياة الاقتصادية الترابية، فتح أيقونة السياسة المغربية في نفس الوقت ورش تشجيع المنعشين العقاريين بمنطق جديد، وحرص على السهر عن قرب على مواجهة السكن الغير اللائق بصرامة شديدة، وتعزيز الإطار القانوني في هذا المجال خصوصا في مجالات العلاقات الكرائية، والرهون العقارية والملكية المشتركة.
ولتسهيل إدماج الشباب في سوق الشغل، تم تفعيل القانون المتعلق ببرنامج التدريب والتكوين من أجل إدماج الشباب حاملي الشهادات، والتكوين التأهيلي، وتسهيل عملية منح القروض للمقاولين والمنعشين الشباب، وإعطاء الانطلاقة لبرنامج التشغيل الذاتي، وتطبيق الاتفاقيات القطاعية المبرمة مع المؤسسات العمومية، وتنشيط مشاتل المقاولات. لقد أعدت الحكومة بشكل متوازي، وسهرت على عملية تنفيذه عن قرب، الإطار التحفيزي الذي تم وضعه لفائدة المستثمرين الخواص، وكذا ميثاق المقاولات الصغرى والمتوسطة الذي جاء ليسد فراغا قانونيا طالما اعترى نشاط هذه الشريحة الواسعة من المقاولين ذات الوزن الهام داخل نسيجنا الاقتصادي.
- اليوسفي وربط إرادة التحديث بإدماج المرأة في التنمية
بالرغم من المقاومة الشديدة والإستراتيجية لتجار التقليدانية القاتلة، استطاع القيادي الشهم من تحويل قضية المرأة إلى ورش وطني كبير. لقد فطن اليوسفي منذ البداية صعوبة نفاذ النقاش بمنطق حداثي داخل الروح الجماعية للمجتمع المغربي. لذا، فقد أخذ ما يلزم من الوقت ليجعل من هذا المشروع ورشا مقنعا ووطنيا بامتياز من خلال إنضاج تصور شامل ومندمج وواضح ربط في العمق وضعية المرأة وحريتها بالقدرة على معالجة أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية.
وبالرغم من الإعداد الجيد، تمكن تجار التقليدانية من تجييش التابعين، ليتم فبركة سيناريو غريب لم يتوقعه أي وطني يحب بلاده. لقد أعطي الانطباع وكأن هذا الموضوع سيتحول إلى صراع قوي في المجتمع، صراع قد يتطور إلى درجة قد تمس بالأمن والاستقرار.
أمام هذه التطورات، تسلحت الحكومة بالحكمة والصبر، لتربح رهان امتداد النقاش إلى المجتمع من خلال السهر عن قرب عن تنشيطه بروح وطنية موجهة آفاق الحوار إلى خدمة المستقبل ومصلحة الشعب المغربي المادية والمعنوية. إن ما آل إليه المشروع كان إيجابيا جدا، وتوجت الحصيلة الحكومية في هذا المجال بإبراز مصداقية ونزاهة المسؤوليات الملقاة على عاتق الجهاز التنفيذي في إدماج المرأة المغربية اقتصاديا واجتماعيا.
وفعلا كان، لقد تمت مراجعة مدونة الأحوال الشخصية، وتم تحويلها إلى مدونة للأسرة يتقاسم فيها الزوج مع زوجته مشروع خلق جيل نافع لبلده. لقد شكلت هذه القضية مناسبة مكنت المغرب لأول مرة في تاريخه التنفيذي، تحت الإشراف المباشر لمؤسسة إمارة المؤمنين، من تأسيس ثقافة جديدة في هذا المجال أساسها الاجتهاد العقلاني بركائز مشكلة من المعارف الفكرية الصرفة المبررة لحاجة الجماهير المغربية لمصالحة ثقافية علمية بين الهوية والتحديث في إطار مرجعيتنا الإسلامية السمحة.
النتائج كانت مبهرة للغاية. لقد استطاع بأثر رجعي عدد كبير من أبناء الأمهات المغربيات المتزوجات من الأجانب (الزواج المختلط) من الجنسية المغربية، وتم فك الحصار النفسي على مجهولي الأب بتمكين الآباء البيولوجيين من الحق في الاعتراف بأبنائهم وبناتهم (الإقرار بالبنوة). لقد خلق نوع من التكامل في هذا المجال ما بين قانون الحالة المدنية ومدونة الأسرة والقانونين المدني والجنائي، لتتحول بذلك إرادة رفع شعار “حماية الطفولة والأمومة والبحث عن ارتقاء مفهوم الأسرة” إلى واقع معاش تمت حمايته قانونيا من العبث والقهر النفسي، الذي يتعمد ممارسته، لأسباب في نفس يعقوب، رواد محترفي التجارة السياسية، الذين ساعفتهم في السابق ظروف البلاد في احتكار سوق التقليدانية المربحة ماديا، والمؤثرة على مصادر السلطة، والضامنة للمواقع السياسية بدون عناء أو نضال.
لقد خطى المغرب خطوات كبيرة في مجال تمدرس الفتيات في العالمين القروي والحضري، وتمكنت المرأة من تحقيق نسبة متنامية في مجال إسناد مناصب المسؤولية بشقيها الإداري والسياسي. وتطورت التشريعات في مجال حماية المرأة من العنف والتحرش،…. إنه الورش العزيز على قلب زعيمنا الفذ، بحيث كانت مناسبة الاحتفال بعيد المرأة، الذي تصادف كل سنة عيد ميلاده، فرصة متكررة ليذكر المغاربة ومصادر القرار السياسي والإداري والديني بحاجة المغرب المستقل إلى مزيد التراكمات في مجال ترسيخ حرية المرأة وإدماجها في التنمية.
- اليوسفي، التنمية القروية، الأوراش الكبرى ومواجهة التهميش الاجتماعي
لقد فطن اليوسفي منذ البداية أن التغاضي عن مواجهة العجز والتهميش الاجتماعي سيشكل لا محالة عائقا أساسيا للإرادة السياسية لحزبه وحكومته الائتلافية لتحقيق التغيير المـأمول. لقد كان متأكدا أن الأوضاع المزرية التي يتخبط فيها غالبية الشعب المغربي بمختلف فئاته العمرية لا يمكن أن تساعد على تحقيق أي فعالية اقتصادية أو تنموية إلا في حالة إحساس المغاربة من طنجة إلى لكويرة بوجود انشغال حكومي حقيقي بقضايا وصعوبات حياتهم المعيشية اليومية. وكما سبق لي أن أشرت إلى ذلك أعلاه، لقد ربط اليوسفي، الزعيم السياسي الفذ في المغرب المستقل والحامل لهموم الشعب المغربي بكل صدق وأمانة، المقاومة الحازمة للعجز الاجتماعي بالأهمية البالغة التي يجب أن توليها الحكومة للحوافز المشجعة للاستثمار الداخلي والخارجي، بالشكل الذي يمكن البلاد من تحقيق نسبة نمو تمكن الدولة من الرفع من مستوى خلق الثروات وتوزيعها على مختلف الوحدات الترابية بمنطق التكامل والتضامن. لقد اعتبر عبد الرحمان رهان ربح تحدي التشغيل، ومن تم ربح رهان مواجهة تراكمات الماضي في مجالي الفقر والإقصاء الاجتماعي، خصوصا في العالم القروي، انشغالا مؤرقا سياسيا، انشغال بالنسبة له يجب أن يخالج وأن لا يفارق مخيال كل مصادر القرار في البلاد، في النوم وفي اليقظة، من أجل التعاون لإخراج البلاد من أوضاعها المقلقة بسلام.
وعليه، لقد بادر منذ بداية ولايته التاريخية إلى بلورة إستراتيجية شاملة ومندمجة للتنمية الاجتماعية تقوم على سن سياسة إرادية لتشغيل الشباب من جهة، وعلى اعتماد سياسة اجتماعية تضامنية من جهة أخرى. كما تم التركيز على تطوير الخدمات الاجتماعية ذات الأولوية، وتسريع وثيرة استفادة السكان القرويين من التجهيزات الأساسية، وتدعيم برامج السكن الاجتماعي.
ولترميم الاحتياط الاجتماعي بالبلاد، وإعطائه المكانة العمومية والصورة المواتية التي يستحقها الشعب المغربي الأبي، تجند طاقم الوزارة الأولى لتسريع بلورة وتنفيذ مشروع مدونة التغطية الصحية الأساسية. لقد تم اعتبار هذه المبادرة، من طرف جل المتتبعين، من أبرز الإنجازات لحكومة اليوسفي. وتثمينا لإرادته المعبرة على مسؤوليته ونضاله التاريخيين قال اليوسفي : “ولي اليقين بأننا بتبنينا هذا الإصلاح ذي البعد الحضاري نكون قد عبدنا الطريق لتعميم ولوج الخدمات الطبية على مراحل بالنسبة لكل فئات مجتمعنا”. موازاة مع إعطاء الانطلاقة لهذا المشروع الريادي، لم يدخر اليوسفي أي جهد من أجل تأهيل البنيات المؤسساتية لإضفاء مضمون ملموس على الاقتصاد التضامني، حيث كرس كل الوسائل التي كانت بحوزته من أجل تأهيل جهازين أساسيين في منظومة الحماية الاجتماعية ببلادنا، وهما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي.
أما بخصوص حلم الرفع من جاذبية التراب الوطني في إطار الجهوية بالنسبة لرؤوس الأموال الوطنية والدولية، فقد سجل التاريخ أنه لم يفارق ذهن زعيم حزب الوردة. إنه الحلم الذي جعله يراهن على إنجاح مسعاه الثابت لتمكين التراب الوطني من البنية التحتية المحفزة للاستثمار. لقد أعطى لهذا الحلم، الذي حقق جزء كبيرا منه، اسم “برنامج الأوراش الكبرى (الطرق السيارة، الطرق السريعة، المطارات، الموانئ، السكك الحديدية، المركبات لتوليد الطاقة، السدود، المناطق الصناعية والخدماتية واللوجيستيكية،….).
ومن أجل تعميم الوقع الاجتماعي للمنظومة الاقتصادية الوطنية، ارتقى هدف تحقيق التنمية القروية إلى صدارة الأهداف ذات الأولوية في برنامجه الحكومي: لقد نجح عبد الرحمان في بلورة وتنفيذ إستراتيجية محكمة للتنمية القروية المندمجة حيث لم يتردد في تعبئة وتخصيص موارد مالية هامة لهذا المجال، والتي بلغت 9.5 مليار درهم كمعدل سنوي بزيادة 50 بالمائة عما كانت عليه سنة 1997 و1998.
في إطار تنفيذ إستراتيجيتها المتكاملة، تمكنت حكومته كذلك ، ذات الضمانة الملكية، من الرفع من وتيرة انجاز الطرق القروية، إضافة إلى الإجراءات الرامية إلى تكثيف التبادلات، وتحسين التمدرس، وتخفيض كلفة النقل واستقرار الأسعار. وفي نفس الاتجاه، تم التصدي للأمية بخفض معدلها من 75 بالمائة إلى 60 بالمائة.
أما ما يتعلق بتعميم الكهربة القروية والسكن الصحي، فقد عملت الحكومة على رفع وتيرة انجاز برنامجها إلى 1500 قرية سنويا عوض 1000 سابقا. كما أولت اهتماما بالغا للسكن القروي قوامه تنمية أقطاب حضرية متوسطة الحجم، خاصة في المناطق النائية. لقد كانت النتائج مبهرة بحيث تمكنت البلاد من التحكم في الهجرة وتوفير الشروط اللازمة لتنمية متوازنة للتراب الوطني.
وفي الميدان الفلاحي، القطاع العزيز على قلب عبد الرحمان بسبب كفاح الفلاحين من أجل استقرار البلاد، ارتكزت سياسة حكومته على محورين مركزيين، أولهما دعم عملية تنظيم الفلاحين بالمساهمة في إنشاء تعاونيات فلاحية وتحويلها، بالنسبة لصغار الفلاحين على الخصوص، إلى إطار ملائم يضمن لحياتهم الاقتصادية والاجتماعية مكانة في هيكلة القطاعات الترابية المنتجة، وثانيهما مواصلة بناء السدود لتوطيد وتوسيع المناطق السقوية مع إعطاء الأولوية للسقي الصغير والمتوسط لما له من دور في تأمين الإنتاج الفلاحي وتثمين الموارد المائية (انجاز عدد من السدود، خمسة منها تستعمل أساسا للري، كما تم تجهيز أكثر من 65000 هكتار إضافية للري، واستصلاح 53000 هكتار). وتثمينا للثروة المائية التي يتوفر عليها التراب الوطني، أنشأ اليوسفي لجنة وزارية للماء، تعمل تحت إشرافه المباشر حرصا منه على ضمان التنسيق التام لهذه السياسة القطاعية في إطار منظور شامل ومنسجم يضمن تعبئة واستثمار وحماية هذا المورد الحيوي.
وبشهادة كل المتتبعين، عبر الرأي العام عن ارتياحه للمسار الذي اتخذته البلاد، معربا عن ثقته الكاملة في القيمة الإنسانية لما حققه اليوسفي بحكومة ائتلافية نزل المرحوم الحسن الثاني بكل ثقله لإنجاح مهامها واستمرارها. لقد جسدت حصيلتها ثقل تجربة الرجل السياسية وسمو وطنيته وحبه للشعب المغربي. إنها الإنجازات التي برهن من خلالها عن الدقة والقوة في الفعل وفي اختيار النظم المنهجية في التدبير والتنفيذ، القوة التي اعتمدت مقاربات الاندماج والمشاركة والتشارك المشروطة بالرفع من مستوى تكامل ومردودية كل العمليات والمشاريع المندمجة التي تبناها، والمصحوبة بكل الاحتياطات الضرورية لتفادي الإهدار والتبذير للموارد.
وحرصا منه على ربط التمويل بتنويع وتطوير الأنشطة الفلاحية، رفعت الحكومة شعار تحويل مؤسسة القرض الفلاحي إلى أداة فعلية ضامنة للحركية المالية الميسرة للرفع من وثيرة المبادلات الاقتصادية بالعالم القروي، والمخففة لعبئ تدبير الماضي باللجوء إلى اعتماد مقاربة موضوعية، بأبعاد مرضية للجميع، في معالجة مديونية الفلاحين الصغار والمتوسطين، بحيث ارتفعت مساهمة الدولة المباشرة لتحقيق هذا الهدف إلى مبلغ 1.2 مليار درهم.
ولهيكلة مجال التنمية القروية مؤسساتيا، وتعبيرا عن الحرص الحكومي لضمان استمرارية إنجاز كل العمليات المندمجة المبرمجة، اعتكف اليوسفي في آخر ولايته على وضع نظام ملائم لصندوق التنمية القروية لتأمين موارد مالية قارة لهذا العالم الشاسع ترابيا. لقد كان طموح عبد الرحمان تحقيق النجاح الكامل في تفعيل هذا الإجراء لأهميته البالغة، والرامي إلى تفادي أعطاب الماضي التي جعلت تدخلات الدولة في السابق متذبذبة وارتجالية وضعيفة المردودية والوقع.
ودائما في إطار حرصه على تقوية الوطنية وحب الانتماء للوطن والغيرة عن المجالات الترابية وحقها في التنمية، لتشمل كل المواطنين في مختلف جهات المملكة بتضاريسها الوعرة، وعد اليوسفي، في حالة استمرار الإصلاحات في إطار الانتقال الديمقراطي، بوضع إطار قانوني يتعلق بالمناطق الجبلية من أجل تمكين سكانها من استثمار الموارد المتوفرة لديهم فيما يحقق تحسين حياتهم المادية وتهيئة مجالاتهم الترابية.
إنها المنجزات الواقعية والمدروسة بعناية قصوى التي جعلت اليوسفي لا يتردد في التصريح كون وضعية العالم القروي في آخر ولاية حكومته عرفت تحسنا مهما ونسبيا في آن واحد رغم الثلاث سنوات المتتالية من الجفاف.
- اليوسفي وتشبثه بإحداث الانفجار التنموي المستحق بالإتحاد
إن التاريخ يشهد اليوم أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزب وطني جعل دائما مصلحة الوطن والمواطنين في جوهر وصلب انشغالاته النضالية اليومية. إنه حزب مناضلي وشرفاء هذا البلد الزاخر بالطاقات والزعامات الاتحادية. إنه كذلك الحزب، الريادي والمؤسس لمنطق الإصلاح السياسي من الداخل، الذي قدم التضحيات الجسام من أجل الحرية والديمقراطية والتنمية، وأنجب من رحمه زعامات كبيرة، ورجالا سياسيين من العيار الثقيل، ومفكرين وأهراما في العلم والثقافة والسياسة. وعندما نتأمل اليوم الخطاب السياسي المؤسساتي والمجتمعي نجده مفعما بالمواقف والمفاهيم التي أنتجها هذا الحزب العريق، وتفاوض من أجلها باحترافية مع النظام السياسي رافعا شعار الأولوية للمصلحة العليا للوطن ووحدته وثوابته، ومتشبثا باستمرار برهان تمكين المواطن المغربي من ملامسة وقع السياسات التنموية ودور وكفاءة مؤسسات الدولة في البلورة والتنفيذ على تحسين المستوى المادي والمعنوي لحياته اليومية. إنه الحزب الذي خاض به المرحوم عبد الرحمان اليوسفي معركة إحداث الانفجار التنموي الذي يستحقه المغاربة.
من المؤكد أن استحضار التاريخ النضالي لهذا الحزب طوال عقود المعارضة والحصيلة الثرية للحكومة التي قادها كاتبه الأول المرحوم عبد الرحمان اليوسفي لا يمكن أن يسمح للمتتبعين بتصنيف حزب القوات الشعبية إلا في خانة الأحزاب الوطنية الريادية في العالم (عضو نشيط وفعال في الأممية الاشتراكية). إن تاريخه الفكري والنضالي أبعده ونزهه عن التصنيفات الدونية الشائعة الرامية إلى تبخيس العمل الحزبي. لقد تحول بفعل تراكم التجارب والمنجزات إلى فضاء سياسي رحب وزاخر بالمواقف والمفاهيم والقدرات الإقتراحية في مختلف المجالات. إنها حصيلة تاريخية مشرفة تقابلت وتعايشت وتكاملت فيها المطالب السياسية التاريخية ومستويات تحقيقها حكوميا في فترة انتدابية واحدة. لقد ارتقت اليوم بفعل ضغط التطورات الوطنية والدولية إلى أمانة سياسية ثقيلة، جعلت دعوات إحياء تراث هذا الحزب النضالي والاعتراف به مجددا وبنفس جديد إلى مسؤولية جسيمة يتحملها كل المغاربة الغيورين عن تنمية ورفاه وطنهم. إنها الدعوات الملحة والمؤرقة التي تستحضر الحاجة إلى اليقظة الشعبية في التمعن والتفكير والتركيز على تقوية الإيمان كون التنظيم الحزبي هو الفضاء الواسع الوحيد الذي يمكن له أن يستوعب في نفس الوقت العمل المعرفي والميداني التشاركي بنزعة إنسانية حاضنة للطموحات الفردية والجماعية المغذية للوطنية. إن قوة الوطنية في النضال الحزبي هي المصدر الوحيد المولد لقوة الوطنية في عمل المؤسسات والمجتمع المدني والأمني والعسكري.
إن التأمل بالقوة اللازمة في صفحات هذا الكتاب لا يمكن أن يستنتج منه القارئ إلى حاجة المجتمع المغربي اليوم إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. إنها حاجة البلاد إلى تقوية الوساطة السياسية الناضجة بمصادر شرعية جديدة ومتجددة، وساطة تغذي الإدراك والوعي السياسي الجماعي بمتطلبات العصر وما تستدعيه من تنمية قدرات ومؤهلات بشرية كافية لمواجهة عوائق الالتقائية والتعاون والتضامن في إطار المرجعية الإنسانية الرافعة لشعار حق المواطنين في المشاركة في بناء غذ أفضل. لقد عرف المغرب بفضل هذا الحزب تحولات إيجابية، وخطى، بشهادة الجميع، خطوات هامة إلى الأمام. لقد تجاوزت البلاد معيقات وويلات الماضي القريب، التي تجسدها بجلاء تبعات محاصرة الملك مولاي عبد الحفيظ بمدينة فاس، وتحويل الحماية الأجنبية الفردية إلى شعار حماية مجتمعية كاذبة. إنه التجاوز الذي زرع في نفوس المغاربة نوع من الأمل في بناء الغد الديمقراطي الذي تستحقه البلاد. إنه الغد الذي تم تدشينه بالمرور إلى نسق مؤسساتي متطور ومتميز بأنشطته السياسية، يتطلع من خلاله الشعب المغربي إلى ضمان التنزيل الفعلي لمقتضيات دستور 2011، والتفكير في تعديله. إن حاجة البلاد إلى حضور قوي لحزب الوردة ليس مطلبا اعتباطيا بل تمليه رهانات الاستجابة للتحديات المستقبلية. فإذا تم اعتبار الدستور الحالي مؤسسا ومجسدا للإرادة المجتمعية لتثبيت الابتعاد المؤسساتي الآمن عن العصبية القبلية والعقائدية، وتعبيرا عن بروز المؤشرات الواضحة المدعمة للخصوصية السياسية والهوياتية المغربية، فإن التفكير العميق في تعديله تفرضه التطورات العالمية لما بعد الكورونا في زمن ما بعد الحداثة الغربية.
فبقوة وجود هذا الحزب، تمكن المغرب من عبور عدة مراحل أساسية في تاريخه السياسي. لقد تم خلق المدارس العصرية إلى جانب دعم المؤسسات الفقهية التقليدية عهد الحماية، وتشكلت النخبة السياسية إلى جانب الإقطاع، واشتدت المقاومة لتتوج بمفاوضات إيكس ليبان بالاتفاق المعروف، ومر المغرب والمغاربة إلى مرحلة بناء المؤسسات العصرية بوجهات نظر مختلفة ومتباينة، بل ومتصارعة في غالب الأحيان، تجاذبت وتفاعلت بحذر شديد بحمولاتها الوطنية مع تأثيرات محيطيها الجهوي والدولي. لقد تم إقرار منهجية النضال الديمقراطي بفعل الوعي الشديد بسمات غليان وفوران وهيجان أوضاع المحيط. لقد مر المغرب بتفاعلاته من مرحلة طغيان العصبية القبيلة والعقائدية (الزوايا) إلى مرحلة بناء المؤسسات في جو مشحون، تفاعلت من خلاله بقوة ما سمي بالأحزاب الإدارية (الحكومات المتعاقبة) وأحزاب المعارضة (الأحزاب الوطنية المتفرعة عن الحركة الوطنية)، لتتشابك المواقف وتتصارع داخليا، محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا، مباشرة بعد إقرار وإعطاء الانطلاقة لميثاق اللامركزية واللاتركيز الإداري.
لقد انقشع الغموض نسبيا سنة 1975 بانفتاح النظام وقبوله تفعيل مبدأ إشراك نخب الأحزاب الوطنية في التدبير الترابي في إطار نوع من الاستقلالية المعنوية والمالية. إنه الورش الوطني الذي اعتبره المتتبعون بمثابة ترخيص صريح للتدافع السياسي الهادف لبناء الخصوصية المغربية بالتدرج. إنها التجربة، التي يمكن وصفها بالريادة مقارنة مع أوضاع الأقطار العربية والمغاربية. إنها التجربة التي أتاحت للفاعلين المغاربة، كممثلين للوحدات الترابية للمملكة، فرص التواصل والتفاوض والتفاعل والتلاقح مع الدولة بوسائط بشرية وإعلامية في أفق بناء وترسيخ القيم الديمقراطية في المجتمع.
إن الحصيلة المعبرة اليوم عن ما حققه المغرب في هذا المجال (الديمقراطية الترابية) يمكن اعتباره إيجابيا رغم طول مراحل ترسيخ قيمه مجتمعيا. ولذلك يمكن القول أن البداية، وما تلاها من تطورات سياسية، تشكل اليوم رصيدا تاريخيا متميزا في العمل السياسي عربيا ومغاربيا، رصيد عبر عن تجاوب واضح بين الملكية وإقرار حزب الوردة لإستراتيجية النضال الديمقراطي. وهنا قد يأسف البعض لما حدث من اختلال في موازين القوى السياسية في المجتمع من حين لآخر، وتضارب السلطات التقديرية في شأن منطق الاستمرارية الآمنة، وانعكاساتهما على مصداقية الاستحقاقات الانتخابية المتتالية. فعلا، لقد تميز المسار بكامله بنوع من الهدر الزمني في بناء المشروع الديمقراطي الوطني بسبب التذبذب الذي ميز في عدة محطات النسق الوطني لبناء مقومات الثقة في العمل السياسي المشترك.
على أي، فمغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، لقد انبثق عن حدث ومشاريع حكومة المرحوم عبد الله ابراهيم وضعيات سياسية جديدة، التي منحتها صيرورة توالي الأحداث ما بعد إعلان الإطاحة بها ميزة الاستمرارية. إنها الصيرورة، التي من ميزاتها البارزة تيسير عملية تشكيل الهياكل المؤسساتية، وعلى رأسها مؤسسة أمير المؤمنين، والتراجع النسبي للعصبيتين القبلية والعقائدية، والصمود المجتمعي لاختراق المذاهب الدينية الهدامة، التي جعل العالم يقر بالخصوصية الثقافية المغربية.
إن الإجماع على اعتماد المذهب المالكي بالمغرب، والذي دافعت عنه تاريخيا وبقوة جل المكونات المغربية الأمازيغية والأندلسية والعربية والصحراوية، كان اختيارا صائبا لما لعبه من أدوار ملموسة في تحويل منظومة التنشئة المغربية التاريخية إلى فضاء ثقافي متسامح ومنفتح على الغرب عبر الأندلس. إنها الخصوصية الثقافية التي ترعرع فيها الفلاسفة والمفكرين والفقهاء، والتي شكل مضمون تراكماتها وتجاذباتها مع الحضارة المشرقية ومفكريها المعاصرين مادة فكرية دسمة ساهمت في خلق مشروعين مجتمعيين بارزين إقليميا وجهويا، مختلفين جزئيا ومتكاملين كليا، وهما مشروعي كل من محمد عابد الجابري رحمه الله وعبد الله العروي أطال الله في عمره. إنهما المشروعان الثقيلان معرفيا اللذين مكنا المغاربة من تذوق مزايا وفوائد ارتباط الفكر في الممارسة السياسية وتدبير الشأن العام الحكومي في عهد الوزير الأول المقاوم عبد الرحمان اليوسفي. كل المغاربة يتذكرون اللقائين المتلفزين اللذين استضافت من خلالهما بشكل متتالي، وفي فترة محورية، المرحومة مليكة ملاك الهرمين السالفي الذكر.
لقد عاش المغرب بنخب من عائلات معينة (الوزراء والعمال) لمدة طويلة إلى درجة مل المغاربة من تكرار تعيينها، وتجاوز في مسار بناء الدولة المؤسساتية العصرية العوامل الاضطرارية التي كانت تفرض تعيين رجال السلطة من سلالة رؤساء القبائل، ليتم ربط هذه السلطة ووظائفها المؤسساتية بالمعاهد التكوينية العصرية. الأهم في هذا المسار كون المشهد السياسي المغربي لم يحتمل يوما الجمود، بل تميز بالحركية والصراع إلى أن برزت معالم مرحلة حاجة البلاد، بفعل حدة نشاطها السياسي والنقابي والمجتمعي إلى دستور جديد. إنه الدستور الذي تحول تاريخ المصادقة عليه إلى مناسبة رمزية للتعبير عن زمن ما بعد هدم جدار برلين (دستور 1996)، والذي أتاح الفرصة بعد ذلك لجميع المغاربة لاكتشاف وجود نسق معين لاستمرار الدولة وتطور منطق مؤسساتها بالتدريج سواء على مستوى البناء أو الفعل. إن المراحل الصعبة والعنيفة التي اجتازها المجتمع المغربي لم تشكل عائقا لمسار تقوية التحام الشعب بالعرش. لقد انفتح المشهد السياسي والمؤسساتي في مجال اختيار النخب القيادية على المستويين الإداري والتمثيلي على أبناء الشعب بعدما كان هذا المجال حكرا على بعض الأسر والمناطق الجغرافية المعروفة. فنسق التعيين في مناصب المسؤولية لا يستقر على حال، ومعايير الانتقاء التي تميزه تتطور تحت ضغط متطلبات الاستجابة لتحديات الحاضر والمستقبل، لتجد الدولة نفسها اليوم أمام متغيرات جديدة لا تسمح بالتردد في تطعيم شروط انتقاء نخب تقدمية جديدة، وقبول توسيع دوائر اختيارها أخذا بعين الاعتبار لمواقعها على مستوى المواقف والمعارف والسلوك.
بالطبع، إن ما عرفه المغرب من تطورات في مختلف مراحله ومنعطفاته السياسية، يشهد اليوم بالمكانة اللامعة والأدوار الريادية التي لعبها حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومناضليه، ليس من باب المسايرة والتكيف مع التطورات، بل من باب قوة مشاركته البارزة في خلق التحولات الإيجابية.
واعتبارا لقيمة مساهمته في تاريخ خلق التحول الديمقراطي والمؤسساتي، أصبح أمل انبعاثه مطلبا مجتمعيا ملحا. لقد تشكلت وتعددت مع مرور الأيام تقييمات تمجد تجربة عبد الرحمان اليوسفي، إلى درجة أصبح شائعا على مستوى الرأي العام ترديد سؤال عودة هذا الحزب التاريخي إلى عنفوانه السياسي. إنه العنفوان الذي يتطلب تجميع القوى، واستثمار الطاقات والكفاءات على قدم المساواة وتساوي الفرص، والهادف في عمقه للوصول إلى بلورة أرضية سياسية إتحادية جديدة عقلانية متوافق في شأنها، أرضية تلخص بإيجاز الماضي بنجاحاته وانكساراته، وتحلل منهجيا، وليس عضويا، منطق ممارسة السلطة في بناء الدولة المغربية ووصولها إلى الخصوصية المؤسساتية في زمن ما بعد الحداثة الغربية، وزمن التقاطبات الكونية الجديدة زمن الكورونا.
فبمجرد التأمل في الوضع الحالي، الذي تصادف من خلاله هاجس بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي بالمتطلبات السياسية والثقافية والعلمية لتجاوز محنة الكورونا والآفات المستقبلية المحتملة، تبرز مجددا القيم الفكرية لحزب الوردة، أولا من أجل تقديم الأجوبة الشافية لانتقادات ثقافة الفردانية النيوليبرالية وسلبياتها وأطروحات اختراق سيادة الدول وتقليص أدوارها وتدخلاتها. إنها وضعية حساسة جدا لا تحتمل التماهي مع الأحداث بفعل ما تحمله من متطلبات مرتبطة أساسا بالحاجة إلى تقوية العزم الصادق للتعبير عن الإرادة السياسية لتجاوز ميزة البطء في مسار الإصلاح بالتدرج، وعقلنة العمل الخاص والعام وترشيد موارده المالية والبشرية، وتقوية نجاعته بالوسائل المطلوبة وتحويله إلى رافعة للوعي النضالي. إن البلاد في أمس الحاجة اليوم إلى فلسفة تدبيرية جديدة بآفاق واسعة وكافية لاستيعاب القاعدة الكبيرة من النخب المجتمعية القيادية وتمكينها من استثمار معارفها وقدراتها لخدمة الوطن بكيفية تمتزج من خلالها الكفاءة والعزم على خلق مجالات العمل بالعدد الكافي، والبحث لتشكيل منظومة حوافز متنوعة ومقوية للمواطنة، ومناوئة بمستوى جاذبيتها لميولات هجرة العقول إلى الخارج.
أمام هذه الاعتبارات المرتبطة في جوهرها بالحاضر والمستقبل، لا يمكن أن لا ينبعث من الذاكرة الوطنية عطاء ودور حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لتأمين مرور البلاد من مرحلة لأخرى. إنه العطاء الذي يحرك النقاش السياسي الوطني من خلال تعمد البعض إلى التعبير عن الحسرة كمحاولة لتحويل تراثه إلى مجرد نوستالجيا في مجال الوطنية، ودفاع البعض الآخر عن انفراده في التوفر على المقومات الكامنة الكافية والضامنة لعودته بقوة إلى ميدان صناعة الحدث السياسي من خلال التعبير عن نفس جديد بخطاب سياسي وسيادي متجدد، ومقنع للجماهير بمضمونه وآلياته التنفيذية ومستويات وقعه التنموية. إن الفريق الثاني لا ينطلق من فراغ، بقدر ما يستحضر حجم القاعدة الديمغرافية لهذا الحزب (التي تضاعفت بمكونات أجيالها المتعاقبة)، وبقدرة الضمير الجمعي على الانبعاث لمقاومة أي اختلال مضعف لروابط الذات المناضلة بموقعها السياسي وطموحها الكامن والمستحق، انبعاث يعقلن مردودية الفعل النضالي في إطار المشاركة في بناء مغرب المرحلة الجديدة. فالدوافع البارزة في التنافس السياسي عبر العصور لم تكن يوما سببا في حدوث عقم مزمن في الإنتاج المعرفي الإنساني، بل كانت دائما مصدر انبعاث لأفكار وحقائق جديدة متميزة ومقنعة وجذابة للجماهير. إن هذه الدوافع، عندما ترتبط بصدق بهموم المواطنات والمواطنين في مختلف المستويات الترابية وبتحديات التنمية الترابية، تتحول إلى محفزات لتوسيع فضاءات الفعل المشترك وبلورة وتنفيذ المشاريع التنموية الطموحة والقابلة للتفعيل. وعند الحديث عن مفهوم المشروع، لا نعني بذلك الإعداد لبرامج انتخابية، بل نقصد بذلك المرور إلى مرحلة اعتماد دلائل العمل الترابي حزبيا ونقابيا وجمعويا (التنظيمات والهيئات المرتبطة به). إن الكدح لإقناع الجماهير يجب أن يمزج في مبادراته وبوضوح تام ما بين مضمون الخطاب السياسي الموضوعي وآليات تفعيله. نحتاج اليوم إلى سلوك نضالي صرف يدبر الحركية الحزبية اليومية بإتقان باعتماد منظومة دقيقة المرتكزات والقواعد لتقسيم الزمن اليومي للمناضل في مجال خدمة الوطن ومستقبله.
إنها أمانة الاعتراف المعنوي للدور الحزبي في تكوين شخصيات أجيال المناضلين على كل المستويات، اعتراف لا يمكن أن يكون بالقيمة المطلوبة ما لم يتم إقرانه بشكل وثيق بالعزم الصادق لتوريث التراكمات السياسية والثقافية للأجيال الصاعدة بمنطق يتيح لهم التمكن من تطوير مناهجهم ومعارفهم في مجال ربط خدمة الذات بخدمة الوطن ومستقبله.
لا يمكن لأي سياسي متتبع للأوضاع المغربية أن ينكر وجود مقاربة ثلاثية في التفاعل في إنتاج سياسات قيادة التغيير في بلادنا، ثلاثية لعبت وتلعب فيها الدولة ضمنيا أدوارا أساسية في إطار السعي لتحقيق نوع من التناوب في المشاركة في تدبير الشأن العام ما بين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. وكيف ما كان تقييم الرأي العام للمقاربة السالفة الذكر، التي ينعتها البعض بتدبير الدولة للمشاركة السياسية في إطار ترسيخ التناوب وتجديد النخب في أفق إنجاح الانتقال الديمقراطي على أساس توازن القوى السياسية، وينعتها البعض الآخر تارة بالاختراق وأخرى بالتحكم، برزت اليوم الحاجة إلى تجديد الروح المحركة لها. إنها الروح التي يجب أن تعتبر المورد البشري الحزبي (السياسي) الجاد رأسمالا وطنيا، وثروة ثمينة تستدعي ابتكار السبل والآليات لاستثمار وتطوير كل قدراتها ومعارفها الكامنة في الرفع من مستوى التنمية. فبقدر ما يتردد اليوم في حمولات الخطابات اليومية في شأن حاجة البلاد إلى عقد اجتماعي جديد، بقدر ما تبرز الحاجة إلى تجديد منطق إعداد موارده البشرية والمادية. في نفس الآن، بقدر ارتباط حاجة الاتحاد الاشتراكي إلى انبعاث جديد يخوله مجددا موقع الصدارة في تقوية الوطنية والتنمية والثقة في المؤسسات بأوضاعه الداخلية، بقدر ما يشكل تطور منطق ممارسة السلطة في الدولة دعامة أساسية لتحقيق هذا المبتغى.
- حكومة اليوسفي والنموذج التنموي الجديد؟
الحديث عن نموذج تنموي جديد ببلادنا ما هو في نهاية المطاف إلا تعبير مدروس، في إطار الاستمرارية، عن الحاجة إلى التفكير في اختيارات جديدة في مختلف المجالات التي تهم الدولة والمجتمع على السواء، اختيارات تستند عن تشخيص وتقييم حصيلة المراحل السابقة، وتستحضر التطورات الدولية، تطمح الدولة من خلالها استغلال كل الفرص المتاحة وطنيا ودوليا، للمرور إلى مرحلة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية أكثر تقدما عن سابقتها، وتستجيب لمشروعها الديمقراطي كفاعل أساسي فيه.
إن النموذج التنموي ما بعد الاستقلال، بخيارات الاعتماد على القطاع الأول (الفلاحة وسياسة السدود)، وما ارتبط به من مبادلات تجارية للمواد الفلاحية والمواد المعدنية الخام، جعل البلاد تمر من الحدث الهام المسمى ب”المغربة”، لتعيش، مع مرور السنوات، أزمات هيكلية كان أصعبها أزمة المديونية لسنة 1980. لم يكن المغرب في تلك الفترة الحرجة، نظرا لأوضاعه السياسية والحقوقية الداخلية، قادر بمجهوداته الذاتية، على تجاوز إعاقاته واختلالات تدبير مرافقه وقطاعاته الرسمية، لتجأ الدولة اضطراريا إلى المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبالتالي الدخول في مرحلة التقويم الهيكلي الذي دام لأكثر من عشر سنوات.
أمام هذه الأوضاع الصعبة، كان مفروضا على النظام المغربي إيجاد الآليات لتحقيق نوع من التكيف التدريجي لهياكله الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية. وازدادت الحاجة إلى التفكير الاستباقي في السبل لإخراج الوطن من وضعيته المتأزمة مباشرة بعد سقوط حائط برلين، بحيث أعلن المرحوم الحسن الثاني اختيار التوجه الاقتصادي النيوليبرالي. فبعد اتفاقية واشنطن الدولية، انخرط المغرب خلال سنوات التسعينات، منذ بدايتها، في دعم المبادرة الحرة والخوصصة. فبالرغم من الإرادة المعلنة لخلق التحولات الضرورية في نموذجه التنموي، مقارنة مع اختياراته زمن الحرب الباردة وما وازاها من قرارات لتشييد مقومات اقتصاد السوق، حافظت الدولة على أدوار ريادية في قيادة التنمية السوسيواقتصادية، ليبقى وزن تدخلاتها الاقتصادية ملموسا من خلال نفقاتها مقارنة مع الناتج الداخلي الخام.
لقد تميز تدبير التنمية خلال أكثر من ثلاث عقود برفع شعار مراقبة عمليات التمدين بمنطق لا يتماشى والتحولات الطارئة في الهياكل الإنتاجية والاجتماعية، الشيء الذي جعل مسلسل خلق الثروة خارج الزراعة في المناطق الريفية ضعيفا جدا. لقد انعكس هذا التوجه بشكل سلبي على الاستثمارات الاجتماعية في العالم القروي، خاصة في التعليم والصحة، مقارنة مع العالم الحضري. وباستفحال هذا التمايز، توسعت الهوة بين العالمين السالفي الذكر، إلى درجة تحولت مع مرور الوقت إلى عرقلة للتنمية الشاملة للبلاد. في نفس الوقت تبين بالواضح أن الجهاز التنفيذي لم يكن يتوفر على أي إستراتيجية أو مقاربة مندمجة وشاملة وديناميكية لخلق الثروات في مختلف المستويات الترابية في إطار سياسة محكمة لإعداد التراب الوطني.
لقد أدرك المغرب، وانتبه منذ البداية، لوقع تحولات التوجه النيوليبرالي عليه بصفة خاصة، وعلى دول الجنوب بصفة عامة، وتعامل بالإيجاب في تعاطيه مع ضرورة الانفتاح الاقتصادي في سياق العولمة. لقد قرر الملك المرحوم الحسن الثاني الانفتاح على أحزاب المعارضة معترفا بالاختلالات الخطيرة التي تعرفها البلاد، والتي تراكمت بفعل سوء التدبير الذي دام لعقود مضت. لقد طالب صندوق النقد الدولي بتشخيص وضع المملكة، وشكل تقريرها سنة 1995 مناسبة لإعلان العبارة الشهيرة في القاموس السياسي للبلاد “المغرب مهدد بالسكتة القلبية”. لقد نزل عاهل البلاد بكامل ثقله السياسي من أجل تحويل الفترة الانتدابية 1992-1997 إلى مرحلة لإضعاف جيوب المقاومة واللوبيات الضاغطة، ليصبح متاحا تسليم مفاتيح الحكومة إلى المقاوم اليوسفي رحمه الله.
إن ما حققه هذا الزعيم جعل المغرب يربح رهان تشييد مسار جديد لتمكين البلاد من تجاوز اختلال تدبير التنمية زمن الانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي (زمن اقتصاد السوق)، لينخرط المغرب في دينامية جديدة نجحت نسبيا، بالرغم من الصعوبات، في تجاوز العجز التاريخي في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية.
إن إنجازات حكومة التناوب التوافقي موضوع هذا الكتاب جعلت المغرب يستعد اليوم لمرحلة جديدة، بنموذج تنموي جديد. إنه الاستعداد الذي دفع جلالة الملك محمد السادس إلى إرسال إشارات مهمة إلى الشعب المغربي، كان أبرزها تكريم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بتسمية شارع مهم بمدينة طنجة وفوج من القوات الملكية المسلحة باسمه. إنها إشارات تجسد أن هذا الهرم كان له الفضل في خلق التحول في التاريخ المعاصر للمملكة المغربية.
خاتمة: مات اليوسفي وعاش تاريخ سياسة وفكر
ماذا عساني أن أقول والمغاربة يعيشون أيام أربعينية فقدان الزعيم الوطني الحزينة. لقد فقد الوطن رجلا عظيما، بصدقه، وحنكته وحبه للشعب المغربي. لقد غادرتنا ذاته، كتاريخ روح وجسد بصم بقوة المخيلة المغربية في كل البقاع الجغرافية الوطنية، تاركة وراءها ثروة سياسية وفكرية ستبقى راسخة في تاريخ المملكة المغربية. لقد غاردنا من رفع، بعزم خارق، شعار إنجاح خلافة القيادات التاريخية لحزب القوات الشعبية وعلى رأسها عبد الرحيم بوعبيد. لقد ناضل بالشجاعة المطلوبة، وبحكمة ناذرة، وبصدق شديد، وبمردودية قصوى، وبتكامل في المناهج والأبعاد الإيديولوجية والمقاربات التنفيذية في حياته المهنية كمحامي، وفي مشواره السياسي والإعلامي. لقد وصل الرجل مرتبة الاستحقاق الوطني في الزعامة السياسية حولته إلى نجم سياسي ورئيس حزب جماهيري وتاريخي، وإلى قائد فذ للدولة والسلطة في شقيها التشريعي والتنفيذي في إطار مشروع واضح المعالم.
إنه مسار رجل، قادته طوال أكثر من تسعة عقود روح زكية، وعقل ذكي دائم التفكير، وآذان صاغية للآراء والانتقادات الفكرية الموضوعية والغيورة على الوطن، إلى النجومية الفكرية والسياسية التي كان لا يعيرها أدنى اهتمام مقارنة مع ثقل الأمانة التي حملها لنفسه بنفسه لخدمة الشعب المغربي ووطن انتمائه واضعا نصب عينيه دائما أن المغرب جزيرة مطوقة بالأطماع الخارجية. لقد حولته الأحداث المتراكمة إلى تاريخ زعامة بحصيلة جد مشرفة على المستوى الإنساني وطنيا وإقليميا ودوليا. لقد نجح بامتياز في بناء مرجعية للعمل السياسي النبيل، مرجعية عبرت عن تشبث تفكيره الدائم بضمان الارتباط الوثيق في أنشطته اليومية ما بين المسؤولية السياسية والمدارك والإنتاجات المعرفية والفكرية، ارتباط عاش من أجل نصرته، في كل يوم وساعة، وشيد من خلاله نسق معرفي للرجولة السياسية الوطنية الصادقة، مانحا لأجيال اليوم والغد دروسا مبدئية قابلة للتفعيل وزاخرة بالمفاهيم المعرفية المحددة لمقومات الرجل السياسي الناجح في وجوده النضالي اليومي إلى جانب رفاق دربه، وفي قيادته بتمام المسؤولية التاريخية للشأنين الحزبي والحكومي.
إنه مسار تفكير دائم وموضوعي في الوطن ومستقبله، تفكير ثابت على المبادئ، ومفعم بقدرة عالية على الصبر، والتحلي بالصدق التام، والسعي المتواصل للتوضيح والشرح والإقناع لنيل ثقة ورضا الشعب المغربي.
لقد تمكن المقاوم عبد الرحمان، رحمه الله وأكرم مثواه، من إخراج مفهومي الإصلاح والنهضة المغربية بشقيها السياسي والثقافي من فضاء التيه والتفاهة، ليمكن الرأي العام المغربي من الملامسة والاستحضار الواقعي القوي والمفيد للتراكمات الفكرية الوطنية بمشاريعها التنويرية في الممارسة السياسية اليومية، مزكيا بعزم ثابت تقوية ترسيخ الخصوصية التاريخية المغربية. إنها الخصوصية التي ناضل إلى جانبه من أجل تحقيقها الهرميين في مجال الفكر والفلسفة والتاريخانية المرحوم محمد عابد الجابري رحمه الله عبد الله العروي أطال الله في عمره. لقد نجح الرجل في سعيه المنهجي لخلق نوع من التلاحم ما بين السياسة والفكر، تلاحم امتزج من خلاله الفكر بالسياسة في الفضاء العام ليمتد بالقوة اللازمة في أنشطة الفاعلين (مصادر السلطة) في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، بأصنافها الإدارية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.
إنه درس حياة وثروة رجل ثمينة حولت اليوم مسؤولية الإصلاح والنهضة ببلادنا إلى أمانة أثقل جدا من سابقاتها. لقد ورثت عنه أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات حب الشعب برؤية المستقبل، ليصبح رهان الاستجابة للتحديات المستقبلية مرتبطا بحدة التمسك بالوفاء للزعماء الصادقين وعلى رأسهم المرحوم عبد الرحمان اليوسفي.
لقد فاوض وتوافق على مشروع دولة ديمقراطية في خدمة الشعب متنكرا لذاته. لقد بذل كل ما بوسعه كطرف قوي في هذا المشروع. لم يفاوض هذا الزعيم من أجل أن يغتنم ثمن مساهمته. لقد كان صادقا إلى درجة لمس فيه القصر الملكي ذلك الرجل الوطني المفعم بحب بلاده ووطنه. حجم الرجل الدولي والوطني وتشبثه بالإنسانية والحقوق الكونية المرتبطة بها، جعلها بعيد كل البعد عن شبهات التفاوض حول مدة قيادته للحكومة والثمن المرتبط بها. لقد اختار له جلالة الملك محمد السادس قبرا محاذيا لقبر رفيقه في العمل الوطني الجاد والصادق المرحوم عبد الله إبراهيم.
الحسين بوخرطة : مهندس رئيس ممتاز في الوظيفة العمومية
مهندس إحصائي اقتصادي
حاصل على دبلوم الدراسات العليا في التهيئة والتعمير
باحث في مجالات الهوية والديمقراطية والحداثة
باحث في التهيئة: أشكال التمدين بالمغرب ومنطق الفاعلين.
29 يونيو 2020