يعد عبد الرحمن اليوسفي، رحمه الله، رائدا من رواد الإصلاح البارزين في المغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين. وتتميز هذه الريادة بكونها، من جهة، متعددة الأبعاد ورحبة الأفق؛ ومن جهة أخرى، بكونها ريادة قائمة على الفعل النضالي (الميداني والفكري) في مختلف الواجهات؛ بحيث كان مؤطرا وقائدا ومفكرا ومناضلا وفاعلا ميدانيا.
وقد اخترنا أن نخصص هذا المقال لموضوع الإصلاح السياسي لكونه يكتسي، في فكر وتفكير المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، طابع الأولية والشمولية؛ ذلك أنه يشكل مفتاح باقي الإصلاحات وشرط فعاليتها ونجاحها. فبدون إصلاح سياسي حقيقي يفضي إلى دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون، التي من شأنها أن تحقق العدالة الاجتماعية وتضمن كرامة المواطن، لن يكون مردود الإصلاحات الأخرى – حتى وإن بوشرت في بعض المجالات الحيوية والإستراتيجية- إلا محدودا جدا في انعكاسه على مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء.
ويمكن أن نجد في تاريخ المغرب المستقل عدة أمثلة تشهد على هذا الأمر. وما الخطب الأخيرة للملك محمد السادس، سواء حول تردي الممارسة السياسية أو حول مآل الثروة أو حول النموذج التنموي، إلا اعتراف رسمي بانحراف الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنجزت في بلادنا عن أهدافها. فالإصلاح المنشود،ما لم يكن يهدف إلى بناء المؤسسات على أسس صلبة تضمن الوصول إلى الانتقال الديمقراطي بشكل صحيح وسلس، فإنه سيبقى مجرد حلم أو تفاؤل خادع؛ إذ لا إصلاح ولا “بناء مغرب قوي اقتصاديا، وعادل اجتماعيا”، بدون “ربح رهان الديمقراطية السياسية واستكمال البناء المؤسساتي وتخليق تدبير الشأن العام”(عبد الرحمان اليوسفي، أحاديث في ما جرى، الجزء الثالث، ص282؛ في الفقرات الموالية، سوف نكتفي بالعنوان والجزء والصفحة).
وتؤكد السيرة الذاتية لعبد الرحمان اليوسفي أنه ظل وفيا للهدف الرئيسي والجوهري لنضال الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ تأسيسه. ويتمثل هذا الهدف في “الوصول إلى إصلاح سياسي يمكِّن الجماهير الشعبية من التعبير عن إرادتها في اختيارات تتفق وطموحاتها في تحقيق تنمية شاملة، تمكن كل مواطن من ممارسة حقوقه المدنية والسياسية وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”(أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص138)
وبمعنى آخر، فإن الهدف الأساسي هو، في النهاية، تحقيق الديمقراطية. لكن تحقيق الديمقراطية لن يتم إلا بالمشاركة الواسعة للمواطنات والمواطنين في تدبير شؤونهم بواسطة مؤسسات تمثيلية سليمة وحقيقية، تحظى بالثقة وتتسم بالمصداقية. ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا عم الوعي وأدرك المواطن والمواطنة قيمة وأهمية المشاركة، وحصل الوعي بدور الديمقراطية التمثيلية، سواء في تحسين الأوضاع العامة، إذا ما تم اختيار الكفاءات والبرامج الانتخابية الواقعية القابلة للتنفيذ، أو في تدهور هذه الأوضاع، إذا ما وقع سوء الاختيار وتم الانسياق وراء الشعارات والوعود الكاذبة (ولنا في الأوضاع الحالية أسطع مثال).
لقد أدرك اليوسفي، وبشكل مبكر، دور المشاركة الشعبية الواعية في تحقيق الإصلاح من أجل بناء الدولة الديمقراطية القائمة على العدالة الاجتماعية وعلى الحق والقانون؛ كما كان مدركا لصعوبة هذا الإصلاح بسبب تناقض المصالح والرهانات. لقد خاض صراعا مريرا متفاوت الحدة والقسوة حسب السياقات وحسب واجهة الصراع، دفاعا عن أفكاره وقناعاته ودفاعا عن المشروع السياسي الجماعي (المشروع المجتمعي لحزب الاتحاد الوطني/ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) الذي انخرط فيه بكل قوة وعزيمة.
وقد كانت فكرة إصلاح الدولة ومؤسساتها من الأهداف الأساسية لنشاطه السياسي الدؤوب. ومن أجل ذلك، فقد أدى (إلى جانب رفاقه وإخوانه في الحزب) ضريبة باهظة من حريته ومن صحته. والهدف من هذا النضال، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، هو الوصول إلى إصلاح سياسي حقيقييتمثل في تحقيق دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات التي تتمتع بالمشروعية الديمقراطية.
ومسيرة نضال اليوسفي من أجل الإصلاح السياسي بالمغرب، بدأت مع فجر الاستقلال وتوقفت مع استقالة الاعتزال سنة 2003. وهكذا، فقد عايش ثلاثة ملوك (محمد الخامس، الحسن الثاني، محمد السادس)، وعاصر، بالتالي، ثلاثة مراحل انتقالية رئيسية في تاريخ المغرب المعاصر. وقد كانت له مواقف سياسية ونضالية وأخلاقية، حسب ظروف كل مرحلة وشخصية كل ملك؛ وكان أطولها وأصعبها، أيضا، مرحلة الحسن الثاني، التي “تطلبت كفاحات كثيرة واختبارات عديدة، يقول اليوسفي، أدينا خلالها واجبنا وتحملنا ضريبة كفاحنا”(الغلاف الخلفي للمجلد الثالث من أحاديث في ما جرى). ويكفي أن نعرف أنه قضى خمسة عشر سنة في المنفى (من 1965 إلى 1980).
ولتشبع اليوسفي بالفكر الديمقراطي، فقد كان يرى أن البوابة الأولى لكل إصلاح سياسي، هي الانتخابات، لأن بها يتم بناء المؤسسات. ومن أجل أن يتم هذا البناء على أسس سليمة وصلبة، يجب أن تكون هذه الانتخابات غير مغشوشة، حتى تنتج عنها مؤسسات قادرة على الاضطلاع بالمهام المنوطة بها. ولذلك، فإنهكان يرى أن الإصلاح السياسي لا يكتمل “إلا بانتخاب المؤسسات ولا تكون تلك المؤسسات سليمة وفعالة إلا إذ انتخبت بدون تزوير”.ولهذا، فقد انخرط بقوة في مناهضة التزوير وإفساد الاستشارات الشعبية، الذي دأبت الدولة على ممارسته منذ السنوات الأولى من الاستقلال. فقد عمدت إلى خلق كيانات سياسية، تزور لصالحها الانتخابات، فتحارب بها الأحزاب الوطنية، من جهة، وتؤثث بها المؤسسات التمثيلية المغشوشة، من جهة أخرى.
ولذلك، كرس اليوسفي جهده، سواء في صف المعارضة، أو كوزير أول فيما بعد، للبحث عن الآليات الكفيلة بضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها، رغم وعيه وقناعته بصعوبة الإصلاح بسبب عوامل ذاتية (النزعة الفردانية والمصلحة الشخصية لدى مجموعة من الفاعلين الحزبيين) وموضوعية (تنوع جيوب المقاومة ومراكز مناهضة التغيير، التي تسعى إلى إبقاء ما كان على ما كان، بسبب استفادتها من الوضع القائم).
وقد كان للانتخابات الجماعية مكانة خاصة، في فكر وتفكير اليوسفي، نظرا لأهميتها الإستراتيجية في معركة التغيير وبناء المؤسسات التمثيلية على أسس صحيحة. ويتسم الصراع، في هذه الواجهة، بشراسة كبيرة مع قوى مناهضة التغيير، لكون الجماعات تشكل، من جهة، مصدرا للاستغلال والارتشاء والاغتناء؛ ومن جهة أخرى، فهي تعتبر خزانا للأصوات بالنسبة للانتخابات التشريعية، كما أنها تمثل القاعدة الأساسية لانتخاب أعضاء مجلس المستشارين.
وبما أن اليوسفي كان مقتنعا بأن “المفتاح الذهبي لإنجاح الإصلاحات الدستورية والسياسية للوصول إلى أي نوع من التناوب الديمقراطي، هو تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة بواسطة جهاز يتوفر على الآليات والوسائل القمينة بضمان الشفافية والنزاهة”، فقد نادى،في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بإحداث هيئة وطنية مستقلة للسهر على تنظيم الانتخابات، “تُخوَّل لها كل الصلاحيات والسلطات اللازمة للسهر على التهييء للانتخابات والإشراف على تنظيمها والعمل على مراقبة سيرها وضمان حريتها وسلامتها” (أحاديث في ما جرى، الجزء الثاني، ص 38 – 39). ودور هذه الهيئة كان يعتبر مدخلا للأمل في التحول الديمقراطي (انظر في نفس المرجع كلمة اليوسفي أمام اللجنة المركزية للشبيبة الاتحادية بعنوان “دور الهيئة الوطنية المستقلة للسهر على تنظيم الانتخابات هو مدخل الأمل في التحول الديمقراطي”، بتاريخ 24 ماي 1992، ص 36-41).
ويبدو أن هذا المطلب لا يزال ذا راهنية؛ إذ من جملة الآليات المطروحة في ملف الإصلاحات الدستورية والسياسية التي ينادي بها الاتحاد الاشتراكي، التوفر على هيئة وطنية مستقلة للسهر على تنظيم الانتخابات.
وقد لعب اليوسفي، ككاتب أول للاتحاد الاشتراكي وكأحد قادة الكتلة الديمقراطية البارزين، دورا أساسيا في تعديل بعض صيغ المدونة الانتخابية، مركزا على تجويد القوانين الانتخابية والترتيبات الإجرائية، من قبيل طريقة الاقتراع، التقطيع الانتخابي، بطاقة التصويت المنفردة التي تتضمن أسماء ورموز كل المرشحين، بدل بطائق التصويت الملونة التي تفتح المجال لشراء الأصوات، اعتماد بطاقة الهوية الوطنية في التصويت عوض بطاقة الناخب، رشم أصبع المصوت بمداد غير قابل للزوال بسرعة، وغيرها من الإجراءات التي كانت مجرد مطالب، خلال التسعينيات من القرن الماضي، قبل أن تصبح، بعد ذلك، إجراءات عادية، معمول بها في كل الاستحقاقات.
بعد تولي المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، طيب الله ثراه، قيادة حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، سعى إلى تحقيق مطمح أساسي يتمثل في “وضع الحقل السياسي في مأمن مما لحقه في الماضي من انحرافات وخروقات سافرة أساءت بشكل خطير إلى التجارب الانتخابية السابقة”. ولإحداث قطيعة مع هذا الماضي، اقترح “تغيير نمط الاقتراع الأحادي”، نظرا لسهولة تسخيره في الغش و”تزوير الإرادة الشعبية ونسف الديمقراطية”، وتعويضه بنمط الاقتراع باللائحة من أجل إعادة الاعتبار “للعمل السياسي المنظم والمسؤول والارتقاء بالعملية الانتخابية إلى التنافس بين البرامج والأفكار والاختيارات (…) وقيام تحالفات على أسس واضحة شفافة تستمد مرجعيتها من تجانس الخيارات وتلاؤم البرامج والتقاء التوجهات…”(أحاديث في ما جرى، الجزء الثالث، ص 282).
لكن، من الناحية العملية، فقد تم إفراغ النمط اللائحي من مضمونه الإيجابي، بحيث تم الالتفاف عليه، فلم يتحقق الهدف منه الذي هو تضييق الخناق على سماسرة الانتخابات ومحاربة أساليب الغش والتلاعب بالاستشارات الشعبية. لذلك، فإنه من غير المستبعد أن تتم العودة إلى النمط الفردي في المستقبل (خاصة بعد أن تسبب النمط اللائحي للأحزاب في صراعات داخلية حول المواقع الأمامية في اللائحة)؛ ما لم يتم تطوير النمط اللائحي بشكل يسمح بتحقيق الهدف منه، كأن تكون اللوائح وطنية أو على الأقل جهوية.
تجدر الإشارة إلى أنه بعد دستور 1996 الذي صوت عليه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبيةبـ”نعم” لأول مرة في تاريخه، انطلقت مرحلة جديدة من الصراع مع مراكز مناهضة الإصلاح وعرقلة التناوب الديمقراطي. وكانت المعركة الأولى على جبهة الانتخابات المحلية التي أولى لها اليوسفي أهمية خاصة، نظرا لكونها “تشكل أول معركة سياسية من مسلسل المعارك السبعة التي نتطلع إلى خوضها، يقول اليوسفي، في أفق الحصول على التناوب الديمقراطي” (أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص163)، ونظرا كذلك للدور الخطير الذي أصبح للمستشار الجماعي في هذا المسلسل؛ ذلك أن الناخب “عندما سيصوت على المرشح الجماعي الذي اختاره، سيصوت في الوقع، في نفس الوقت على التغيير أو عدم التغيير، لأن المستشارين الجماعيين الذين سينتخبون سيضطلعون بأدوار سياسية هامة، حيث سيشاركون في الانتخابات غير المباشرة للمجالس الإقليمية والمجالس الجهوية[بعد دستور 2011، أصبحت المجالس الجهوية، مثلها مثل المجالس الجماعية، تنتخب بطريقة مباشرة، وفي نفس اليوم]، كما سيشاركون في انتخاب مجلس المستشارين، أي الغرفة البرلمانية الثانية التي لها اختصاصات تكاد تكون متساوية مع اختصاصات مجلس النواب”(ص 163-164، الجزء الأول من أحاديث في ما جرى).
وبما أن عبد الرحمن اليوسفي قد تولى قيادة حكومة “التناوب التوافقي”،في الظرفية التي كان فيها المغرب مهددا بالسكتة القلبية (باعتراف الملك الراحل الحسن الثاني نفسه أمام البرلمان)، فقد حرص على أن يجعل من هذه الظرفية محطة تاريخية في مسار تجديد الحياة السياسية الوطنية ببلادنا، وعاملا من العوامل الإيجابية الأساسية التي اعتمدت عليها الحكومة لإنجاز ” الميثاق من أجل التغيير”، الذي يعتبر صلب البرنامج الحكومي (يمكن الاطلاع على هذا البرنامج الحكومي في الجزء الثاني من أحاديث في ما جرى، ص 280-300) الذي قدم خطوطه العريضة أمام مجلس النواب يوم 18 أبريل 1998.
ومن يطلع على ذلك البرنامج (التصريح الحكومي) يلمس النفس الإصلاحي الواضح الذي يقوده ويدرك البعد الإستراتيجي الذي يحكمه. وقد حرص اليوسفي على تبويب فقرات البرنامج وتجزيئه إلى خمسة عشر قسما (أو فقرة)، يحمل كل واحد منها عنوانا يعبر عن الانشغال الأساسي للجهاز الحكومي الجديد؛ وهي عناوين مركزية شكلت في البرنامج نقط ثقل إستراتيجي، تفادى، من خلالها، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي العمومية وتعويم الفكرة.
وقد تصدر التصريح الحكومي عنوان دال موسوم بـ “إرادة التغيير”. وهذا الحرص من قبل اليوسفي على تنظيم أفكاره وتدقيقها يؤكد ما قاله عنه عبد الواحد الراضي من أنه ” رجل منهجي، مُنظَّم ودقيق جدا”(المغرب الذي عشته، ص 652).
ولدقة الخطاب وسلاسة الأسلوب ووضوح الرؤية، يمكن تلخيص هذا البرنامج في محاور كبرى. وهذا ما فعله الأستاذ عبد الواحد الراضي الذي أجمل هذه المحاور في سبعة (المغرب الذي عشتهص 662-663)، استهدفت، في ظل شروط اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة، تغيير الأوضاع العامة في البلاد. وهذه المحاور هي كالتالي:
(1)الإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي وحقوق الإنسان. (2)تخليق الحياة العامة. (3) إصلاح الإدارة وجعلها في خدمة المغرب والمغاربة. (4)التنمية الاجتماعية والتضامن. (5) التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. (6) الدفاع عن الوحدة الترابية. (7) مكانة المغرب بين الأمم (المجال الدبلوماسي).
ويتضح من هذه المحاور النفس الإصلاحي والبعد الاستراتيجي اللذان أشرنا إليهما أعلاه. وهذا ليس غريبا على “رجل استراتيجي” (عبد الواحد الراضي) كعبد الرحمن اليوسفي الذي يرى في الإصلاح السياسي مفتاح كل الإصلاحات.
لكن الإصلاحات المهيكِلة أو ذات البعد الإستراتيجي، والتي كانت تحظى بالأولية عند حكومة اليوسفي، كانت تلقى دوما مقاومة من “مراكز مناهضة التغيير”، وعلى رأسها وزير الداخلية الأسبق، إدريس البصري الذي عمر طويلا على رأس “أم الوزارات”.
لقد حرص اليوسفي، بعد تسلمه قيادة الحكومة، على معالجة بعض الملفات المستعجلة وذات أهمية كبرى من حيث المردودية الإيجابية المباشرة على صورة المغرب. وهكذا عمل على إنهاء ملف حقوق الإنسان وضمنه ملف المنفيين، “لما فيه مصلحة صورة بلدنا ومصداقيتها، يقول اليوسفي، في مختلف جهات العالم، وبالعلاقة [مع] المؤسسات الدولية المؤثرة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي الدولي”(أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص 194).
لكن إدريس البصري كان يعرقل كل الخطوات في هذا الاتجاه. فقد حاول، بكل الوسائل، التشويش على عودة أبراهام السرفاتي إلى وطنه المغرب. وقبل ذلك، قام بعرقلة انعقاد مؤتمر منظمة العفو الدولية ببلادنا، رغم ما لمثل هذا الحدث من رمزية، “باعتبار أنه عندما تعقد هذه المنظمة مؤتمرها في دولة ما، فهو بمثابة شهادة دولية أن هذا البلد وضع قطار حقوق الإنسان على السكة الصحيحة”(أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص 193).
ومن الملفات التي واجه فيها اليوسفي دسائس البصري وعراقيله، ملف الإعلام. فقد “كانت المعركة حول الإعلام من أشرس المعارك التي تمت فيها المواجهة مع البصري”، يقول اليوسفي، مبرزا ما عاناه المرحوم محمد المساري من جراء ذلك لدرجة أنه قدم استقالته لليوسفي مرتين، لكن هذا الأخير أقنعه بالعدول عنها و”حثه على الاستمرار في مواجهة جيوب المقاومة، لأننا، يقول اليوسفي، لم نأت من أجل المناصب، بل جئنا من أجل الإصلاح، وهو أمر جد صعب ومساره وعر ويتطلب جهدا وصبرا لا ينضبان”(أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص 191).
وفي الأخير، انتصرت إرادة اليوسفي واستطاعت حكومة التناوب التوافقي أن تضع حدا لاحتكار الدولة لمجال السمعي البصري. وقد “تحقق تحريره، يقول اليوسفي، بعدما صدر ظهير تشكيل الهيأة العليا ومختلف المشاريع والقوانين التي تولت تدبير الإذاعة والتلفزة من خلال عدة أوراش، ليتم تحرير الإعلام من هيمنة ما كان يطلق عليه “أم الوزارات” (أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص 191).
ولقناعة اليوسفي بأن مشاركة النساء في الحياة السياسية والحياة العامة، هي شرط من شروط الديمقراطية ووسيلة من وسائل تمكينهن من المساهمة في التنمية والتأثير في قضايا السياسات العامة وإدارة شؤون الدولة، فقد خص المرأة بحيز هام من برنامجه الإصلاحي الوارد في التصريح الحكومي، معتبرا أن”نجاح كل مشروع للتنمية يمر عبر الاعتراف بدور المرأة ومواطنتها الكاملة”( أحاديث في ما جرى، الجزء الثاني، ص291)؛ مما يتطلب “تقوية مكانة المرأة”(عنوان الفقرة الخاصة بالمرأة في التصريح الحكومي،أحاديث في ما جرى، الجزء الثاني، ص 291) المغربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومؤسساتيا وثقافيا وحقوقيا…
وتماشيا مع هذا التوجه وتفعيلا لما جاء بشأنه في البرنامج الحكومي، أعدت وزارة التنمية الاجتماعية والتضامن بقيادة السيد سعيد السعدي، مشروع “الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”. ونتذكر ما كان لهذه الخطة من تداعيات سياسية ومجتمعية تمثلت في التقاطب الذي حصل بين أنصار الحداثة وأنصار المحافظة، انتقل إلى الشارع، وتحول إلى مسيرتين حاشدتين: الأولى بالرباط مُدعِّمة للخطة؛ والثانية بالدار البيضاء مناهضة لها.
وتجدر الإشارة إلى أن لليوسفي فضلا كبيرا في دخول المرأة إلى البرلمان بالعدد الذي نراه اليوم والمرشح للتطور، مستقبلا، في أفق المناصفة. لقد عمل على “إقرار لائحة وطنية موجهة إلى المرأة بالأساس”(أحاديث في ما جرى، الجزء الثالث، ص 282)، فدخلت ثلاثون امرأة البرلمان بفضل هذه اللائحة بعد انتخابات 2002. وسوف يتضاعف هذا العدد بعد أول انتخابات في ظل دستور 2011.
وفي الجانب التدبيري،فقد حرص اليوسفي،انسجاما مع قناعاته النضالية (النضال في كل المواقع)، ورغم الصلاحيات المحدودة التي كانت للوزير الأول في دستور1996، على بناء أعراف جديدة للعمل الحكومي، الهدف منها توطيد الثقة بين الشعب والحكومة. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، يرى اليوسفي أنه “يتعين على الحكومة أن تؤسس عملها على أخلاقيات مستمدة من قيم النزاهة والاستقامة، والكفاءة والاستحقاق، والوضوح والشفافية، واحترام القانون وروح المسؤولية، والحوار والتشاور، والعدالة والتضامن”(أحاديث في ما جرى، الجزء الأول، ص 186).
ومن أجل ذلك، فقد عمل اليوسفي على إدخال منهجية جديدة في تدبير القطاعات الحكومية، قائمة على مواجهة كل أشكال التبذير في مجال التسيير(نشير، هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى القرار الخاص بتقليص حظيرة سيارات الدولة)، مع التركيز على التضامن الحكومي والمسؤولية الجماعية للحكومة.
إلى جانب ذلك، فقد أراد اليوسفي أن يكون لحكومة التناوب التوافقي الفضل في سن عرف جديد في المغرب؛ وهو تقديم كل حكومة لحصيلة أعمالها على رأس نهاية ولايتها؛ إذ لا معنى، أخلاقيا وسياسيا، أن يتم تقديم البرنامج الحكومي في بداية الولاية، ولا يتم تقديم الحصيلة عند نهايتها لمعرفة ما تحقق وما لم يتحقق من هذا البرنامج.وهو ما قام به اليوسفي يوم 3 غشت 2002، حيث قدم حصيلة حكومة التناوب التوافقي أمام البرلمان، أعقبتها مناقشة الفرق البرلمانية من الأغلبية والمعارضة، ثم ردود الوزير الأول. وبما أن بلادنا تبحث حاليا عن نموذج تنموي جديد (وأختم بهذا، وأنا متيقن بأنني لم أوفِّ الموضوع حقه)؛ ونظرا للظرف الحالي المستجد (أزمة كورونا) الذي يذكرنا بالظرفية (السكتة القلبية) التي تحمل فيها اليوسفي، رحمه الله، مسؤولية تدبير الشأن العام ببلادنا، فإننا نقترح- بكل تواضع وبكل اليقين أيضا بأن اقتراحنا معقول وله ما يبرره – أن يتم الالتفات إلى المشروع الإصلاحي لعبد الرحمان اليوسفي والانطلاق من التصريح الحكومي الذي قدمه بعد تنصيبه سنة 1998 كوزير أول. إننا نعتقد أن هذا التصريح صالح لأن يكون أرضية لبناء النموذج التنموي المأمول. فتوجهاته واختياراته الإستراتيجية ونظرته الشاملة واقتراحاته الدقيقة والهادفة، لا تزال صالحة وذات راهنية، ولا يحتاج إلا لبعض التدقيقات الإجرائية وبعض التحيينات الضرورية، من أجل تطويره ليصبح ملائما لظروفنا الحالية وللمستقبل المنظور.
مكناس في 28 يونيو 2020