وأنا على مشارف الانتهاء من الكتاب الإلكتروني الذي خصصته للمرحوم عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله، وأنا أفكر في مقال إضافي معبرا عن حجم هذا الرجل الوطني، كرائد للتحول السياسي والحقوقي بالمغرب، تبادر إلى ذهني عنوان هذا المقال. فعلا، إن المسؤولية السياسية المفعمة بالإنسانية وحب الوطن والشعب المغربي بكفاءة وصدق وأمانة، جعلت المقاوم الشرس للاستعمار في السابق، والمقاوم ببسالة لجيوب المقاومة المتوحشة والمتسلطة على المغاربة وثروات بلادهم الاقتصادية، والتي تجبرت طوال عقود الاستقلال بفعل ما سمي “سنوات الجمر والرصاص”، يحتكم إلى خيار التأهيل المؤسساتي، بالعمل المتواصل المضني، وتسخيره بالوسائل المتوفرة لإنجاح الانتقال من منطق التحكم السلطوي إلى منطق الديمقراطية الحامية للمواطنة الحقة، ومن تم تحويل هذا الانتقال المأمول إلى آلية أساسية وضرورية للتقدم في تحقيق دولة الحق والقانون.
لقد حرص حزب عبد الرحمان منذ السبعينات على تقديم الرسائل بشكل متتالي ومنتظم للرفع من مستوى الثقة إلى أعلى المستويات ما بين الملكية والأحزاب الوطنية طامعا، رفقة المناضلين الصادقين في هذه البلاد، في نيل دعم هذه الأخيرة، واستثمار وطنيتها وثقافتها العصرية المعروفتين، في بناء مشروع دولة وطنية ديمقراطية وحداثية. لقد احتد التفاوض، وتوفرت في نفس الوقت شروط التقارب ودسائس المتربصين به، وكان إقرار النضال الديمقراطي من الداخل حدثا تاريخيا عبر عن حسن نية مناضلي حزب القوات الشعبية، وتشبثهم بتقوية جسور التواصل والتفاعل المؤسساتي من خلال الرفع من مستوى تنشيط ومردودية الفعل السياسي الترابي والتشريعي البرلماني. لقد تبين للملكية وللشعب المغربي من خلال التمرين السياسي الذي دام أكثر من ثلاث عقود أن الوطن لا يحتمل ولا يمكن أن يستمر في هدر طاقاته البشرية المناضلة، ليشتد هذا الإحساس مع هدم جدار برلين وإعلان النظام العالمي الجديد.
لقد كان حدث خلافة اليوسفي للقائد الفذ عبد الرحيم بوعبيد، الرجلان الخبيران في منطق ممارسة السلطة بالمغرب وتفاعلاته الدولية بروح وطنية صرفة، مناسبة تاريخية جعلته لا يفوت أية فرصة للتعبير عن حق المغاربة في دولة ديمقراطية، تعزز قوة ثوابته التاريخية وثقافته الحضارية ومكانته الدولية. لقد أمزج عبد الرحمان في تفاعلاته مع مجريات الأحداث الوطنية ما بين غضبه وعدم رضاه على الممارسات السياسية غير المبررة، والتعبير بروح مفعمة بالوطنية عن الاستعداد للتحاور والتفاوض عبر تبادل الإشارات مع القصر الملكي.
حتى وهو منهمك في إعداد أغلبية برلمانية لحكومته المدعمة ملكيا في إطار ما سمي بالتناوب التوافقي، عبر من خلال قراراته، الموضوعية والجذابة والقابلة للتفعيل، عن تشبثه الدائم بالرفع المستمر من الثقة ما بينه وبين المرحوم الحسن الثاني. لقد تم التنصيب بسلاسة، وتبين من خلال تصريحه، بعد نفاذ مائة يوم من عهد حكومته، أن الرجل، بشجاعته وعزائمه وبرنامجه وحصيلته الجزئية، سيقود المغرب في مسار صحيح، سيسخر فيه التأهيل المؤسساتي لخدمة الانتقال الديمقراطي في أفق تسريع إتمام بناء مراحله ليتوج بنسق ديمقراطي في أجل معقول ومدروس.
لقد اعتز المغاربة بحصيلة حكومته، وتم الاعتراف لأول مرة بملائمة الخطاب السياسي بالتفعيل والمردودية والنتيجة. لقد قضى عبد الرحمان اليوسفي يوما عسيرا وهو يتابع مجريات ونتائج الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2002، بعدما عاش صراعات مريرة داخل حزبه. لقد تأسف رواد الديمقراطية في العالم لتتابع الأحداث ذات النفحات الهدامة بعد حصول حزب القوات الشعبية على الرتبة الأولى انتخابيا: طفح إلى السطح عبارة “مولا نوبة”، وابتعد النسق الحزبي المحسوب عن الصف الديمقراطي عن مطالبه التاريخية المرتبطة بالمصالح المشروعة للشعب المغربي، وتم الخروج عن المنهجية الديمقراطية، لتشتد مطامح الاستمرار ورفع شعار “متابعة تحقيق الأوراش الإصلاحية”، وتم اصطناع الخيبة في الممارسة السياسية من خلال مفاوضات تشكيل مكاتب المجالس المحلية والإقليمية والجهوية سنة 2003، وغادر عبد الرحمان اليوسفي السياسة المباشرة، تاركا وراءه مغربا يتمتع بمناعة مؤسساتية كبيرة، ومؤهل لجعل الفترة الانتدابية ما بعد 2002 قاطرة لجر المغرب إلى بر الأمان الديمقراطي والتنموي.
لقد تمت شرعنة الفعل المؤسساتي قانونيا ودستوريا، وتشكل بوضوح تام النسق ألدولتي بهياكله التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية والحقوقية، ونجح المغرب من تجاوز ويلات ثورات الربيع العربي بحكمة وسلام، لكن السياسة ابتعدت عن الفكرة والمعرفة الحزبية البناءة، ليشتد تأثير التقليدانية القاتلة معلنا انتصاره نسبيا عن القبيلة والغنيمة، واغتياله للتفكير المعرفي العقلاني وتعسير امتداده تربويا إلى الأجيال المتعاقبة، وتراجع التأثير الحزبي الترابي، وتجندت آلة الاستقطاب المصلحي لتكرس مسلسل استسلام النخب وتركيزهم على الذات على حساب الوطن، وضعفت مبررات الإقناع والاقتناع، ودبرت الدولة ترابيا بنجاح آفة الكورونا ووبائها الكوفيد 19 الفتاك إداريا بدون وساطة حزبية أو جمعوية جادة، لتجد البلاد نفسها مجددا في مفترق الطرق باتجاهين لا ثالث لهما: الاتجاه الأول قد يحمل أمل تسريع إتمام بناء النسق الديمقراطي الذي دشن مرتكزاته اليوسفي (بعد إلغاء عدد من العوامل المعرقلة). أما الاتجاه الثاني، فقد يجسد خيار تقوية المؤسسات وتحويل سلطة الدولة إلى منطق خاص لقيادة التغيير في البلاد.