(1)
القوة الثقافية للدستور
لم تدرج كلمة »ثقافة« في النص الدستوري المغربي،إلا بعد نصف قرن من الاستقلال، كما أن الدسترة المفكَّر فيها والناتجة عن حقيقة اجتماعية وخيار استراتيجي للدولة، للمسألة الثقافية، مع تقوية الهيكلة الدستورية للمسألة الثقافية، لم تتأتَّ سوى بعد نصف قرن من الحياة الحرة للمغرب.
فكل الدساتير السابقة، لم ترد فيها كلمة «ثقافة» في النص، فبالأحرى ورودها كتوجه قادر على تقوية النص الدستوري وتوسيع رهاناته..
بالنسبة للقضية اليوم، فإن الدستور الذي صوتنا عليه جميعا، يجعل من الثقافة اسمنتا حضاريا يُمنِّع قدرات االبلاد، سواء عبر النصوص المهيكلة لذات الدولة
أو في ما يتعلق بالعلاقة مع القيم الكونية ..
(***)
توفق البرلمان المغربي في الإفلات من الاستحالة اللغوية، التي كانت تهدد النقاش العام حول مواضيعَ ذات صلة بالهوية، والتعدد اللغوي ومؤسسات الحكامة الثقافية، عندما صوت بالإجماع الإثنين 10 يونيو الجاري على مشروعي قانونين تنظيميين: يتعلق الأول بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في الإدارة والحياة المهنية، والثاني بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية..
ومن المتوقع أن يدخل النواب المغاربة، ومن ورائهم كافة الطيف الثقافي والرمزي، في نقاش قوي حول مجلس المناصفة المنصوص عليه كذلك في الدستور، فضلا عن مشروع القانون -الإطار المنظم للتربية والتكوين، لا سيما منه إشكالية لغات التدريس بالمدارس والمعاهد المغربية.(انظر العربي الجديد :نقاش الهوية والمعادلة السياسية في المغرب-الحراك اللغوي في المغرب).
وبغض النظر عن التفاصيل، فإننا أمام بناء مفهوم دستوري متعدد الدلالات:
(1) نحن أمام تجربة دالة على القوة الثقافية للدستورالمغربي، وفيها، كما يؤمن الانكلوساكسونيون، يكون الدستور أكبر من نص قانوني، أو حقوقي، تحكمه هواجس توزيع السلط، والتفصيل فيها -على غرار الدستور الفرنسي- بل يعتبر مرتبطا أيما ارتباط بالنقاشات التي تدور في المجتمع، حتى إنه «يمكن اعتبار الدستور نصا أو متْنا ثقافيا أيضا، بنيته كما مضامينه في صلب الهوية«، تم تعريفها في نقاشات 2011، سنة التصويت على الوثيقة الدستورية الجديدة..
وهي الوثيقة التي تحدد بشكل كبير تعريف الهوية، أكثر مما يعرفها التاريخ واللغة والدين لوحدهم..
ولعل التحول الجوهري الحاصل، والذي يفسر جزئيا شراسة النقاش حول القوانين الدستورية سواء أثناء وضعها أو حين مناقشتها في لجن البرلمان، يكمن في كون المكونات السياسية والثقافية، صارت تحتكم في هويتها الثقافية وتعريفها وتحديدها إلى النص الدستوري أكثر من التعريفات العامة… من خارج الدستور والمتعالية عليه لأسباب تاريخية وأخرى دينية.
إنه دستور ثقافي يحدد المواطنة الجديدة.
(2) لا ينحصر السؤال هنا، عند جزء من النخب، التي ترعرعت مع ذلك في مشتل التفكير والنزعة الدستورانية الفرنسيين، في من يحكم – سيادة الشعب، سيادة نظام الأحزاب، المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة فقط – أو في كيفية الحكم – البرلمان بغرفتين، التوزيع الدستوري للسلط الخ الخ – بل يتسع إلى ما هو أبعد بالتنصيص على كيفية إعادة بناء هوية متجددة..
وهنا يمكن الاستعانة بمبدأ الوطنية الدستورية، patriotisme constitutionnel كما يراها يورغن هابرماز… أي في كون الهوية المشتركة، كما تحركها الوطنية الواعية، تشجع على بروز المواطنة الديمقراطية. علاوة على أن الإحساس بالانتماء المشترك، يسهل إقامة الديمقراطية، والتي تقوي بدورها من التضامن بين المواطنين عوض الزج بهم في الطائفية والتناحر الهوياتي، والاستحالات الثقافية…
ولذلك، فإنه على عكس الدساتير القانونية البحتَة كالفرنسية، ليس الدستور الحالي في المغرب متروكا للخبراء الذين يحللون المحتويات المسطرية ويفككون قلب السلطة فقط. إنه الدستور كمرجعية لانتماء كوني، يمكن الرجوع إليه في أي نقاش مجتمعي وليس فقط في الجدال القانوني والقضائي والتنفيذي وما إلى ذلك..
في خضم التحول الجاري، يمكن تحرير الأسئلة القوية والعميقة من الارتهانات السياسية والحزبية اللصيقة بالصراع السياسي الظرفي، وفيه تصبح الديمقراطية، ودولة الحق والقانون وحقوق الإنسان مطروحة كقيم وليس كمبادئ فقط…
وقد عاش المغاربة بعضا من الصراع القوي في الآونة الأخيرة حول هذا الدستور الثقافي، الذي يوسع من مفهوم الديمقراطية، والمواطنة ومفاهيم هيكلية أخرى في بناء الوعي السياسي للحاضر والمستقبل، ولكنه نقاش يتحرر من معادلة صعبة الحسم: دولة مدنية أو دولة دينية، ويجيب عن السؤال بتركيبة دينامية ومنفتحة على التفاعل مع التاريخ، تجعل من الوطنية الدستورية، وتفعيل بنود الدستور الثقافي، باعتباره نصا تاريخيا، إعلان ميلاد جديد للدولة وآلياتها وإشكالاتها…إن الوطنية الدستورية لا تعني فقط الانتماء المبني على هوية ثقافية مشتركة لا غبارعليها، بل تعني أيضا الانتماء المبني كذلك على مبادئ دستورية ذات منزع وطابع كونيين..
لم تكن الإشكالات الثقافية حاضرة في النقاش الدستوري المغربي كما هي اليوم، ومع ذلك، لا يمكن أن نتسرع في اعتبار الثقافة مشتقا من مشتقات الدستور..
وإن كان من المحقق أن التأثير الذي سيحصل بدسترة النقاش حول الثقافة أو تأصيل الطابع الثقافي للدستور، سيكون تأثيرا جوهريا يشجع على عدم السقوط في معادلة بحدين لا يلتقيان: دولة دينية أو مدنية مطلقة!
(2)
تميز الدستور الجديد بترسيم الهوية، ثم بترصيد تراثها الثقافي واللغوي، من حيث الإقرار الحاصل بالإجماع في ديباجة الدستور، على مكونات الهوية، وحضورها في النص الاسمي للدولة المغربية.
والواضح فعليا أن الديباجات الدستورية يكون لها مقام الأرضية التي يتأسس عليها الباقي، سواء في فرز السلط أو في فصلها وتوازنها أو في ما عداها من مقومات الدولة في شموليتها.
وجعل للدولة دور الحكم من خلال الدستور، وهو بعد لم يكن حاضرا في ما سبق من دساتير، وفي ما يتعلق بالأرضيات الثقافية التي تنبع منها المواقف حوله وبخصوصه..
بالإضافة إلى الديباجة،تمت دسترة مجالس لها علاقة مباشرة بالأمر الثقافي، أو بالحكامة الثقافية، أو بفضاءات الإنتاج الثقافي، من قبيل المجلس الوطني للغات، أو التنصيص على القيم الثقافية باعتبارها قيما مهيكلة للدستور، كما في الفصل25 الذي نص على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. وحرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة . والفصـل 26. ألزم السلطات العمومية بدعم «بالوسائل الملائمة، تنمية الإبداع الثقافي والفني، والبحث العلمي والتقني والنهوض بالرياضة،كما تسعى لتطويرتلك المجالات وتنظيمها، بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية ومهنية مضبوطة .
لقد تأسست الدولة المغربية الحديثة على تعاقد وطني، بين مكونات المجتمع الوطنية والملكية المناضلة والتاريخية، جددت للأمة تعريفها كدولة حرة، في حين ظل الشطر الثاني من التعاقد مرهونا بتحقيق الاستقلال، وكان عبر التنصيص على الدستور. وهو ما تم، وعليه فلم يكن الدستور المغربي، كما هو حال الدستور الأمريكي مثلا مرافقا للدولة، بما هو نص تاريخي يحدد هويتها، بل الدولة المغربية سابقة على الدستور، لا سيما في تجلياته الجديدة.
ومن هنا فقد كانت قوته في تعريف ثقافة الدولة، كيانا وجهازا، مقومات هذه الدولة الثقافية والرمزية والهوياتية.
وقد كشف النقاش الدستوري حول القوانين ذات الصلة بالثقافة، أنه لا بد من الاحتماء بالدستور للخروج من أي استعصاء يكون بسبب الايديولوجيا أو بسبب التأويل، كما سلف أن أي نقاش مستقبلي لا بد أن يستحضر أن الدستور الثقافي هو ابتداءً من الآن فصاعدا في جوهر الهوية، معنى ومبنى.. ولهذا ربما كان التوافق يسود في كل استعصاء، عندما تتكلم الأسس والقيم المؤسسة للدستورإلى حد أبعد، عند الحديث عن مساهمة الدستور الأمريكي في صياغة الأمة الأمريكية، ومن خلال ذلك تأثيره على الإنتاج الثقافي والأدبي، بحيث ابتداع الشعرية الدستورية «poétique constitutionnelle، وهو المبدأ الذي طبقه على من يسميهم آباء النهضة الأمريكية أي ايمرسون، وايتمان وميلفيل.. كما لو أن الدستور يشتغل غير آبه بالتضاد بين المقدس والمدنس، بين الدهري والسرمدي..
والمهم بالنسبة لبلدانا أنها دسترت الثقافة كما أصلت الطابع الثقافي للدستور وهو أن تكون مرجعية قادرة على أن تدرج الهوية ضمن مفكرها** الدستوري، ضمن ماسبق قوله.
ونضيف أن السلم العام يحصل ، ودوما من هذا المنطلق عندما يتم إنجاز قفزة أخرى، ي عند فصل المواطنة عن الهوية… بالاستعانة بمبدأ الوطنية الدستورية، patriotisme constitutionnelكما يراها يورغن هابرماز… اي في كون الهوية المشتركة، كما تحركها الوطنية الواعية،تشجع على بروز المواطنة الديمقراطية. علاوة على أن الإحساس بالانتماء المشترك يسهل إقامة الديمقراطية، والتي تقوي بدورها من التضامن بين المواطنين عوض الزج بهم في الطائفية والتناحر الهوياتي، والاستحالات الثقافية…وتكون المرحلة المتقدمة هي في فصل الهوية الوطنية عن المواطنة، هو نقاش ما زلنا بعيدين عنه في شرطنا التجريبي والتاريخي معا…
والله من وراء القصد!
الأحد : 23 يونيو 2019./ الموافق ل :19 شوال 1440 هج