الذين يقدرون العفو الملكي الأخير، بمناسبة العيد، هم أولائك الذين عبروا بمشهدية فائقة عن الفرحة، المقتسمة بين الأمهات والآباء والأبناء، ذكورا وإناثا، والجيران..
أولائك الذين انتظروا أن ينتهي فصل من جحيم التوترات، بين غليان الشارع، وقودُه الغضب والحاجة واليأس، وبرودة السجون والزنازن، التي تعتبر في حالات الصراع بين الفقر وعماءالسياسة.. التعبير الهندسي عن قساوة
الحكم القضائي..
في النظر إلى العفو الملكي، نستعين بتقدير اللحظة التي أفرزتها الضرورات الاجتماعية، في منطقة صعبة الجغرافيا، قاسية التضاريس، مثقلة التاريخ ، منطقة تعد باستمرار امتحان ثقيل للسياسات العمومية، ولقدرة المغرب على الخروج من ثنائياته القاسية، مغرب نافع وآخرغير نافع، ليسا بالضرورة متضادين وحكموا عليهما بالعيش في المواجهة.
في جرادة، قسوة خاصة، ما بعد الإنتاج
ما بعد الفحم الحجري،
غير أن العفو، هو طي صفحة الفحم الحجري الذي يعتبر أن التعبير عن الغضب، هو بالضرورة طعن في شرعية ما أو تهديد لشرعيات أخرى،
إنه فهم ضيق، مثل غار في منجم أسود
وضيق التنفس مثل رئة ينخرها السيليكوز
وضيق الأفق مثل «السندريات»..
– في العفو نشترك مع العائلات في الخوف على المعتقلين، لكن نشترك كلنا في الخوف على عودة ضيق التنفس الاجتماعي، والشبابي والاقتصادي، الذي يفسح الطريق دوما نحو الفهم الحجري، الذي يخلف ندوبا غائرة في النفوس وفي الأجساد..
– في العفو لا ينتهي المشكل الاجتماعي، ولا المشكل السياسي، عندما تكون النخب المفروضة بقوة ما ليس سياسة، مال أو سلطة أو دين، عاجزة عن البحث عن حلول، تكون عقدة العودة أسهل بكثير من العيش في حرية قرصنتها «الديمقراطية» التمثيلية لفائدة من لا يرون في المنطقة سوى حليب ثري وطري ، ولو كان بالدموع مخلوطا وبالفحم معجونة عجينته..
في العفو، لا بد من أن نسأل الجهات التي دبرت الملف المعلق بالاستعصاء وبالصعوبة الاجتماعية: والآن ماذا أعدت لكي يجد المعتقلون أمامهم جرادة جديدة، ومناجم جديدة للأمل وطريقا بعيدا عن الموت الفردي أو الثنائي أو الجماعي؟
ماذا فعلت السياسة طيلة المدة التي كان المعتقلون في الزنازن، لكيلا يعودوا إليها أو يعود غيرهم إليها؟
– في العفو، نطرح السؤال على الحكومات والجماعات والهيئات : أي مساحة أفسحتم للأمل، وللحلول، حتى لا تدور جرادة حول نفسها وحول آلامها؟
إن العفو بهذا المعنى، هو طي سوء الفهم الحجري الذي ساد في فترة الاعتقال وهو أيضا -وبالأساس- دعوة مفتوحة لإيجاد حل بعيداَ عن الزنازن والسجون وعن المواجهات، وفسح المجال لنبل السياسة وثراء العواطف الإنسانية للملك الإنسان، الملك المواطن، والملك رئيس الدولة ، كي نتجاوز ?بسرعة- مخلفات ليالي ونهارات طويلة من التعبيرات الساخطة،
وإدانة العجز في إيجاد الحل..
– هي المرة الأولى التي لا تطول فيها انتظاراتنا، ولا يتراكم السجن على الألم، ولا يتضخم الملف إلى أن يصير ملفا كامل الجهات: معتقلون سياسيون في أجندات كثيرة، بعضها ليس دوما يبحث عن حل!
-يحق لنا، نحن الذين نرى في التعبيرعن الغضب الاجتماعي حاجة اجتماعية سليمة، بل تحفظها السمية** من أي انجرارمسيء للانفراج العام الذي نعيشه مع العهد الجديد، ونرى فيه مبررا حقا لسلامة إيماننا بقدرة البلاد على تجاوز مخلفات السياسات، وندعو إلى تقدير آخر للموقف، يعتبر أن الحلول المحلية أصبحت ضرورات قصوى لإعفاء الدولة من معادلات مستعصية، نرى أن امتحان الجهوية واللاتمركز، لا يمكن أن يبقى معلقا ، وأن الحلول قريبة من الذين يعيشون المشاكل، وتلفهم في دورانها الكدوح..
– في العفو، نرى أيضا الاستجابة السليمة والحسنة والرفيعة لموجة المطالب التي عبرت المجتمع برمته، ولا سيما في المربع السياسي والحقوقي..
والتجاوز السليم لمخلفات معضلة اجتماعية بدون المرور بامتحانات قوة لا ضرورة لها، من قبل فرض العفو أو المطالبة به، والذي أريد لنا أن نفكر به من جهات عدة أو تم اقتراحه كمدخل من بوابة البرلمان مثلا.
هناك سلاسة وقوة وإجرائية تكشف بالملموس أن تحرير
الملف الاجتماعي، ومعادلاته من التسويغ الإديولوجي أحيانا والتوتر المذهبي أحيانا أخرى، هو الطريق الذي يجعل الدولة قدرة على ترشيد المطلوب ترشيده من العلاقات..
نحن الذين نفرح عندما تكون البلاد قادرة على أن تخلق الانفراج بين ظهرانيها، نعود ونفرح من جديد لأن المشكلة لم تزدد استعصاء أو توترا، بل تفسح التفكير على أشكال الحلول
الدائمة..
– العفو، هو نهاية موضوع الاعتقال وليس نهاية أسبابه الكامنة في السياسات المحلية وفي الظروف المعيشية وفي الآفاق التنموية، وهو ملف مُحالٌ على النخب، الوطنية والجهوية والمحلية..
وقد سبق هذا العفو تشريح شجاع وقوي قام به جلالة الملك لحياة الناس ومشاكل شعبه، وهو بحد ذاته مساءلة لمن كانوا سبب الغليان.
(*)في العفو عن معتقلي الحراك :(2) خطوتان جبارتان في طريق الريف الصحيح
لثاني مرة، يأتي العفو الملكي، في ملف الحراك الريفي تقديرا رفيعا من جلالته واستجابة لمطلب عام في البلاد حول الإفراج عن المعتقلين، وهي الخطوة الثانية في نفس السير السليم للتعامل الملكي النبيل مع قضية حارقة ساءلت المجتمع برمته، كما أنها ألهبت مشاعركثير من المغاربة.
فقد سبق لجلالة الملك أن أصدر عفوا أوليا، في غشت 2018 عن 11 معتقلا، كان ذلك إيذانا بالتخفيف من حدة التوتر الذي أعقب الأحكام القاسية على المعتقلين.
وجاءت الخطوة الحالية، والتي شملت نصف المتبقين تقريبا من المعتقلين في الحراك، كي تؤكد التوجه الإيجابي في التعامل مع الملف.
لقد ربحنا مسافة واسعة باتجاه الحل النهائي، كما أننا قطعنا مسافة لا يستهان بها للابتعاد عن الانتظار القاتل، والترقب ، المشفوع بالرهبة السياسية والشرط العائلي، والانقباض الاجتماعي..
كنا أمام مسيرات واسعة، وتعاطف شاسع، وتفهم مقرون بالذكاء من طرف الدولة، لمطالبَ أضحت تفرض نفسها كأجندة وطنية ملحاحة.
وبالرغم من غياب أي توصيف إيديولوجي أوسياسي للمعتقلين، فقد كانوا في قلب الحياة السياسية الوطنية، كما أن الملف لم يغادر البند القانوني والحقوقي، لدى المجتمع المدني كما لدى الهيئات الحقوقية العاملة في الشوط المجتمعي..
لقد كان الملف مطروحا كمطلب سياسي، انضاف إلى تعقد الملف الاجتماعي الذي كان وراءه، ملف يتعلق بالصحة والتعليم والحماية الاجتماعية والتشغيل. وإذا كان القضاء قد «حسم» مؤقتا الملف، بإصدار الأحكام، فإنه في الوقت نفسه فتحه على بوابة السياسة الواسعة، وصار مطروحا من جديد أن نقول ما قلناه في قضية جرادة»: هل قامت السياسة بواجبها حتى تطوي الملف الاجتماعي وكل البؤر المتوترة فيه، حتى لا يعود شباب آخرون إلى الزنازن التي غادروها أو غادرها أبناء منطقتهم؟
هو ذا السؤال، الذي تتراكب فيه النجاعة في التدبير مع الذكاء السياسي والتأمين الحقوقي لحل المعضلات في منطقة لها تاريخها الذي لا يمكن أن يختزل في مرافعة أو آثِنتين، كما أن الملف، في عمقه، لا يمكن أن ننزعه من الإطار العام، والمتعلق بالمصالحات الوطنية الكبرى، وإحداها تمس الريف، مجالا وإنسانا وتاريخا.
لقد حل العفو الملكي النبيل والصائب والمطلوب، عن سؤال طرحناه منذ 13 يونيو 2017: «كيف يكون الاعتقال مشروعا، إذا كانت المطالب التي كانت وراءه مشروعة؟ وبعبارة أخرى: كيف تكون للمعتقلين الشرعية في المطالبة بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، ويصبحون غير ذوي مشروعية عند اعتقالهم،أي إذا كان الاعتقال مشروعا، فالمطالب غير مشروعة والعكس بالعكس؟..
وهو ما يفرض الانتقال إلى مرحلة ثالثة الآن، كيف نطوي الصفحة كليا، ونسير باتجاه ما يريده ملك البلاد للبلاد من تنمية وتطور ينزعان قنابل المجتمع التي تفتح الباب للخطورة؟
لقد قال القضاء كلمته
وقال العفو كلمته
ويبقى للسياسة أن تقول الكلمة الدائمة في المعضلات التي كانت وراء الملف، وهي معضلات تستعصي على أي استدراك سياسي أو استغلال مهما كانت براعة أصحابه في تحوير طبيعة الملفات الحارقة التي تشغل بال أهالينا الشرفاء في الريف وباقي الوطن..
وهي فرصة أيضا لنقول إن المجهود الحقوقي، الشعبي والرسمي معا، وجد في العفو الملكي تتويجا مؤسساتيا
وأمنيا وأخلاقيا كريما، يجعل الطريق الناضجة تمر عبر المقاربة الناضجة، ويكرس المجتمع الحقوقي كمخاطب فعلي في الملفات الحارقة…وهي نقطة أيضا من رزنامة المصالحة الكبرى التي دسترها المغاربة بدسترة توصيات الإنصاف والمصالحة…
الاثنين : 10 يونيو 2019.الموافق ل 06 شوال 1440 هج