يرى أغلب الدارسين أن الاجتهاد الفقهي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي محدود جدا، حيث برز على مدار أربعة عشر قرنا من هذا التاريخ أربعة فقهاء فقط، هم الأئمة الشافعي وأحمد بن حَنْبَل وأبو حنيفة وأنس بن مالك. أما البقية، فكانوا مجرد تابعين لهذا الفقيه أو ذاك، لأنهم لم يقوموا بتقديم أي جديد، واكتفوا في المقابل بترديد ما قاله سلفهم. ويبدو اليوم أنه صارت للمسلمين إمكانات عملية وفكرية ومنهجية تمكنهم من أن ينتجوا اجتهادات أكثر سعة وعمقا من أسلافهم الذين ينبغي احترامهم، حيث كانت اجتهاداتهم على اختلافاتها وتناقضاتها مهمة في عصورهم. ويقتضي الفقه، من حيث طبيعته، التعامل مع التاريخ عبر التأمل في تطوراته وتحولاته ومشكلاته بهدف تجاوزها. فالفقه يقوم على قاعدة الزمنية، بمعنى أنه يدرس ما يبرز من مشكلات مختلفة عبر الأزمنة المختلفة. وهذا ما يستوجب إيجاد فقه جديد يعالج مشكلات المجتمع عبر البحث فيها بهدف فهمها ومساءلتها وتطوير حلول لها.
لقد توقف العرب المسلمون عن الاجتهاد عندما فصلوا العقل عن النقل، وانغلقوا على ذواتهم، مما جعلهم خارج التاريخ، حيث افتقدوا طاقتهم الإبداعية والإنتاجية، وأصبحوا عاجزين عن فهم ذواتهم ومجتمعاتهم، وفقدوا أي قدرة على الخلق، ما يحول اليوم دون قدرتهم على المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية… كما صار الفقه الإسلامي يتمحور حول السلطة، لذلك بات فقهاء الإسلام التكفيري يعتقدون ألا شيء في المجتمع إلا السلطة وما حولها ومنها. وتعني السلطة عند هؤلاء الهيمنة والتسلط والاستبداد والمال والنساء. وهكذا تم تهميش العمل الثقافي، بل تحريمه وتكفير المفكرين والفنانين والمبدعين، فصار كل شيء تابعا للفقه التكفيري. ومن يتأمل التاريخ العربي الإسلامي لن يفاجأ بما يحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط من عنف ووحشية وخراب للأوطان، حيث كانت هذه الممارسات موجودة في تاريخ هذه المنطقة منذ القرن الهجري الأول. لذلك، فما يجري اليوم في العالم العربي الإسلامي من تطاحن واقتتال طائفيين وقبليين هو مجرد تنويع على هذا التاريخ الطويل المليء بهذا النوع من التناحرات. وما صدم المتنورين عبر العالم هو دعوة فقهاء التكفير الإرهابي، باسم الدين، إلى قتل البشر جماعيا بدعوى أنهم ليسوا من طوائفهم، كما دعوا إلى هدم التماثيل والآثار التاريخية، لاعتقادهم أنها مجرد أوثان وأنها عدوة الله، بالتالي يجب تدميرها. وهذا ما يفسر أيضا عداء الإسلام التكفيري للفنون والجمال. ويبدو لي أن هذا العمل الشنيع هو اعتداء وعبث بالإنجازات التاريخية الإنسانية، ما ينم عن رغبة جامحة في تدمير البشرية جمعاء.
لقد فجر هؤلاء الإرهابيون التكفيريون “ثورات” تستعبد الإنسان والمرأة، حيث تحولت هذه الأخيرة في اعتقادهم إلى مجرد حفرة يَصْب فيها الرجل صديده. لكن من آين لهؤلاء أن “يثوروا” وهم تابعون لقوى أجنبية؟ وكيف يمكنهم أن يقوموا بـ “ثورة” وهم ينتهكون حقوق الإنسان ويقتلون الناس زاعمين أنهم “يثورون” بِاسم تلك الحقوق؟…
نتيجة ذلك، تعيش اليوم المجتمعات العربية الإسلامية وضعا بالغ السوء، حيث تسودها ثقافة متحجرة منغلقة جعلتها عاجزة عن إدراك مزايا العصر وطبيعة المجتمعات الحديثة. وقد أدى هذا الانغلاق إلى رفض المجتمعات العربية الإسلامية لفكرة “الاختلاف”، غير واعية بأنه يؤدي إلى الانفتاح والتحاور، ما قد يحدث التطور، وينمي المعرفة والثقافات والإبداع…. وعلى عكس ذلك، نجد أن هذه المجتمعات العربية الإسلامية أبدعت في القتل الجماعي وقطع الرؤوس….
لقد ضاق اليوم تطلع المجتمعات العربية الإسلامية إلى طرح الأسئلة مع أن إمكانية طرحها قد اتسعت، حيث كلما امتدت المشكلات انكفأت هذه المجتمعات عن طرح الأسئلة، وهذا ما جعلها غير قادرة على تجاوز ذاتها وأوضاعها، حيث ضعفت قدرتها على طرح الأسئلة. فليست هذه المجتمعات اليوم في لحظة انتفاء الحاجة إلى طرح الأسئلة على ذواتها، وعلى الحياة. وهذا ما سيفضي إلى عدم قدرتها على تجاوز أوضاعها والانتصار عليها، ما قد يؤدي إلى انقراضها بناء وإبداعا وخلقا، لأنها لا تمتلك رؤية واضحة حول العالم الذي تعيش فيه، كما لا تمتلك القدرة ولا الإرادة على فعل ما تشاء. وهذا ما جعل هذه المجتمعات تابعة على كافة المستويات، وعاجزة عن بلورة رؤية واضحة حول مزايا العصر ومجتمعاته، ما جعلها تابعة على كل المستويات، وتعيش في مستنقع التخلف ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
الأحد 03 يونيو 2019./ الموافق ل 27 رمضان 1440 هج