إذا كانت العلمانية في أبسط صورها هي فصل الدين عن السياسة وتركها لشؤون الناس واختياراتهم كما تذكر الآية الكريمة: (وأمرهم شورى بينهم), سورة الشورى: آية 38. فهي أيضاً في سياقها العام, فصل الدين عن مسارات التطبيق العملي للكثير من القضايا العلمية والحياتية في حياة الدولة والمجتمع انطلاقاً من قول الرسول الكريم في حديث تأبير النخل: (أمور دنياكم أنتم أدرى بها).
إن الدين جاء قبل كل شيء دعوة أخلاقية : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). هذا إضافة لكونه دعوة عقيديّة, أي دعوة إلى التوحيد (قل هو الله أحد…), ورفض الشرك بالله. والدين عقيدة تقوم الدعوة لها على الإقناع بالحسنى وليس بالقوة, (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.) (النحل125)), وعدم إكراه الناس فيها. (أفأنت تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين.) (يونس99).
أما الآيات التي تحدد الأحوال الشخصية في الزواج والطلاق والإرث وآيات الجزاء المتعلقة بالسرقة والغش والتعدي على الآخرين فهي بمجموعها لا تتجاوز في متن القرآن الكريم الـ (124) آية. وبعد حذف المكرر منها,تصل إلى (84 آية). ومع ذلك يطغى الجانب الأخلاقي على القانوني أيضاً في التعامل مع الجزاءات, حيث يمكن العفو عن المخطئ بحق الناس من قبل الناس أنفسهم من باب التسامح والعفو كما تذكر الآية الكريمة: – وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134
إذن إن القرآن لم يكن كتاباً علمياً أو كتاب سياسة, أو كتاباً يدعو إلى تقديسٍ للإنسان والأشخاص, أو رافضاً للعقل والتمسك بالنقل, أو تحكيم العاطفة والركون إلى التصورات المثالية والحدسية في تحليل آليات عمل الطبيعة والمجتمع, أو قمعاً للإرادة الإنسانية ودفع الإنسان للخضوع والاستسلام لقدره من باب الجبر واللوح المحفوظ, أو غير ذلك من آراء وأفكار ظلاميّة بشر بها العديد من فقها وعلماء الدين الجموديين الاستسلاميين الرافضين لفتح باب الاجتهاد, وبالتالي اعتبار ما قاله أو قرره هؤلاء وفقاً لمناهجهم التي تجاوزها الزمن هي أمور مقدسة أيضاً جبت النص المقدس ذاته (القرآن) وأقصته, وفّرض علينا التمسك بما قالوه شرحاً وتفسيراً وتأويلاً ورواية وقصصاً, على أنها أقوال وأفعال مقدسة قالها ومارسها أهل السلف الذين لم يضلوا الطريق الصحيح, وهم كالنجوم الهادية, بغض النظر عن كل صراعاتهم, وما تحقق من سفك لدماء المسلمين في عصرهم بسبب هذه الصراعات التي تهدف بالغالب إلى تحقيق مصالح أنانية ضيقة وخاصة في البعد السياسي, وبالتالي هي لا تخدم الدين ومقاصده الإنسانية التي جاء من أجلها,.!!.
إن الإنسان في ديننا الإسلامي هو خليفة الله على الأرض, كلفه الله بهذه الخلافة كي يعمر هذه الأرض ويعمل الخير لدنياه وآخرته وفقاً لمقاصد الدين الإنسانية, ووفقاً لظروف العصر التي انوجد فيها هذا الإنسان, وهذه الخلافة لا تعطى لجاهل وأمي ومسلوب العقل والإرادة والتفكير والمسير كالأعمى من قبل غيره.
إن ما يهما هنا هو التأكيد على أنه: في الإسلام لا يوجد عند قوم سلطة دينية (كنسية) بوجه من الوجوه، والسلطة الدينية في الدين هي سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وما للخليفة أو القاضي أو المفتي أو الشيخ مهما يكن في الإسلام من سلطة على الناس إلا بالموعظة الحسنة. فالإسلام لم يجعل لأحد من هؤلاء من سلطة على العقائد وتقدير الأحكام من عنده فيها إلا بما يتفق ومقاصد الشرع ومصالح الناس, أو تجعل منه رجلاً مقدساً نزحف على ركبنا للوصول إليه أو نستنجد بكراماته عند الضيق. (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) (الزخرف -2). فالذين يخلفون هم بشر من لحم ودم يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة مقدسين.
أما بالنسبة للموقف الفكري ألعقيدي العقلاني التنويري والجدلي من الحياة الاجتماعية والطبيعية, فقد حددها الشيخ الإمام “محمد عبده” بقوله الرائع: (نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكراً, وكل فكر يكون له أثر في داعية, وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر, ولا ينقطع الفعل والانفعال بين العمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد, وكل قبيل هو للآخر عماد.). (1). أو بتعبير آخر: من المشاهدة الحيّة للظواهر, إلى التفكير المجرد بها, إلى ممارستها وفق حاجات الإنسان. فيهذا الفهم الجدلي بين الفكرة والواقع يفهم الإنسان الحياة في سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, ويفهم الدين (العقيدة) كسلطة معرفية لا تمارس قسرها وجبرها على الناس, وإنما تترك للناس حرية فتح النص على كل دلالاته الإنسانية خمة للإنسان نفسه ومصالحه الخاصة والعامة التي لا تتضارب مع مصالح الاخرين.
أما المفكر الإسلامي الكواكبي, فقد كان من أول الذين نادوا بتطبيق العلمانية وفق هذا الفهم التنويري ,عندما نادى بفصل الدين عن الدولة في مجتمعه المتعدد الديانات والطوائف والمذاهب, و ضرورة تحقيق روح الإخاء والمحبة بين مكونات المجتمع حيث يقول : ( هذه أمم استراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني, والوفاق الجنسي دون المذهبي… دعونا يا هؤلاء نحن نتدبر شأننا ونتفاهم بالفصحاء ونتراحم بالإخاء… دعونا ندبر حياتنا الدنيا, ونجعل الأديان تحكم بالأخرى فقط…دعونا نجتمع على كلمة سواء, ألا وهي: فليحيا الوطن, فلنحيا للقاء أعزاء). (2).
(*)د.عدنان عويد كاتب وباحث – ديرالزور –سوريا
1- محمد عبده – الأعمال الكاملة – تحقيق محمد عمارة- ج2 – ص35- المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 1979
- راجع . د. عدنان عويّد . (إشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط). دمشق . دار المدى. ط1. 1977. ص 94.
الخميس: 30 ماي 2019./الموافق ل 30 رمضان 1440.هج