ظهرت فكرة الحداثة كمفهوم واسع الدلالات وكمشروع ضخم ارتبط بانطلاق الثورة الصناعية في أوربا, وظهور الطبقة البرجوازية كطبقة تقدمية تعي ذاتها من خلال التعبير عن مصالحها ومصالح الطبقة العمالية المرتبطة بها, هذه الطبقة التي ظهر معها الكثير من المفكرين الذين راحوا يعبرون عن مصالحها وطموحاتها بفكر عقلاني تنويري مشبع بتفاؤلها ونزعتها المركزية العقلانية. ولكن شيئاً فشيئاً راح يغلب على هذه العقلانية روح (العقلانية الأداتية), أي ذلك النمط من التفكير الذي إذا ما تعرف على مشكلة ما, سعى لحلها مباشرة دون التساؤل عن أهداف هذه الحلول وغاياتها إن كانت إنسانية أو معادية للإنسان. هذا وقد فرضت هذه العقلانية الأداتية آنذاك أسلوب آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي حتى في القيم, بعد وصول الطبقة البرجوازية إلى السلطة. فتبَادل السلع في عالم هذه الطبقة بعد أن تحولت إلى طبقة إمبريالية احتكارية, يعني تساوي الأشياء المُتبادَلة كسلع ، فما يهِم في السلعة إن كانت جهد العامل المنتج, أم المادة المنتجة للتسويق ليس قيمتها الإبداعية وما تتضمنه من قيم إنسانية معدة لتامين حاجات الناس الاستعمالية المتعينة, وإنما ثمنها المجرد وما تحققه من ربح لمالكها. وإذا كانت أفكار التنوير قد جاءت مع ظهور الطبقة البرجوازي كطبقة تقدمية في بداية ظهورها تعمل على محاربة الظلم والاستعباد, وقيم النبالة والعقلية الكنيسة الغيبية وما تمارسه من تخدير وتغييب لوعي الشعب عن مآسيه, الأمر الذي جعل  أفكار التنوير تشكل أنموذجاً حياً لطموحات هذه الطبقة, وتعبيراً هادئاً عن مشروع الحداثة بكل ما يحمله هذا المشروع من مفردات تعبر عن الحرية والعدالة والمساواة, وعن المواطنة والحقوق الطبيعة والقانونية ودولة المؤسسات وحرية الرأي واحترام الآخر فكراً وعقيدة, إلا أن أفكار التنوير بعد وصول الطبقة البرجوازية إلى السلطة وتحولها إلى طبقة برجوازية إمبريالية إستعمارية, راحت تقمع شعوبها وشعوب العالم, ومع هذا القمع أخذت أفكار التنوير ذاتها تتحول من أفكار تحريضية للثورة ضد الظلم والاستغلال, إلى أفكار يغلب عليها الطابع (التبشيري) بسبب إفراغ الطبقة البرجوازية لهذه الأفكار من محتواها وتحويلها برمتها إلى شعارات براقة يتغنى بها الإعلام الغربي ومؤسساته الدستورية ودساتيره, بينما الواقع يقول غير ذلك. فالمواطن الذي غنت له شعارات الحداثة مع فكر فلاسفة عصر التنوير, وبيانات حقوق الإنسان ومضامين دساتير هذه الدول عن الحرية والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة وغير ذلك, راح هذا المواطن الذي بدأ يُستلب ويُشيئ ويُغرب بفعل آلية عمل السوق القائمة على الربح, يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف الحرية الفردية والاجتماعية وصناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك والإعلام المنمذج والتركيز على غرائز الإنسان أكثر من عقله. الأمر الذي جعل اغتراب الإنسان واستلابه وتشيئه في النظام الرأسمالي, يحول الكثير مما هو إنساني, ويعبر عن القيم النبيلة للإنسان, إلى قيم وسلوكيات حيوانية في العالم الرأسمالي.

إن انتصار العقل الأداتي وسلطته السياسية والاقتصادية للطبقة البرجوازية على أفكار التنوير العقلانية النقدية، أسفر عن جملة من المغالطات والتعسفات كانت أساسا لولوج الحداثة مرحلة الأزمة. وبالتالي بدء ظهور فكر وعالم ما بعد الحداثة الذي يعبر خير تعبير عن عالم الطبقة الرأسمالية الاحتكارية وعالم القطب الواحد.

    مع تحول الطبقة البرجوازية إلى طبقة إمبريالية احتكارية تمارس الظلم على شعوبها وشعوب العالم, تبدأ مسيرة الحداثة بالتراجع, وتبدأ معها قيمها النبيلة بالتراجع أيضاً لتحل بدلاً عنها قيم التذرير والتفكيك والنهايات. أي موت القيم في الفن والأدب والفلسفة والأيديولوجيا وكل ما يمت لحياة الإنسان من قيم نبيلة.

    إذن مثلما للحداثة ما قبلها، لها ما بعدها أيضاً، ثم أن عبارة  (ما بعد الحداثة) تفيد التجاوز والبعدية وتشير إلى تتابع زمني يأتي فيه واقع جديد ووضع جديد خلفا لآخر أصبح مستنفدا ومتجاوزا ومدمراً كما يقر فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة.

    إن النقد الحاد الذي مورس على قيم الحداثة من قبل مفكري وفلاسفة ما بعد الحداثة, المعبرين عن طموحات الطبقة الرأسمالية الاحتكارية, يقدم نقطة انطلاق هامة للحظة ما بعد الحداثة للمضي أشواطا بعيدة في تجذير هذا النقد وتعميقه، إذ لا يجري نقد الحداثة فقط بل نفيها وتدميرها. وهذا ما يدفع البعض للقول:  إن لحظة ما بعد الحداثة تمثل نوعا من الانفجار الذي سوف يؤدي بالحداثة وبعقلانيتها وموضوعاتها إلى التشتت والتفكيك والتذرير, ولهذا يظهر مفهوم ما بعد الحداثة كنبش في الأسس وكسر للقوالب وخروج على النماذج, وتفجيرا للأشكال وخروجا عن خط الصيرورة التاريخية للحداثة, وتدميرا لأنساقها القيمية النبيلة على نحو خارق ومدهش.

    من هنا ينضبط عالم ما بعد الحداثة داخل خريطة مفاهيمية تقوم أساسا على النفي والتدمير والتجاوز والافتتان “بأخلاقيات الموت” والتحرر ودرامية النهاية. فعلى نفس الوتر تماما يشتغل فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة, حيث يقومون بحصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في عدد محدد من المبادئ والأسس وهي: موت الفن، وموت النزعة الإنسانية والعدمية، ونهاية التاريخ. وعلى هذا الأساس جاء طرح “ميشل فوكو” و”جاك دريدا”, وهما من البنيويين الجدد, عدة مصطلحات تتجلى فيها أوجه التوصيف لعالم ما بعد الحداثي بوضوح مثل: التفكيك, والاختلاف, والتشتيت, واللااستمرارية, والنهايات, وبالتالي الموت.

    واخير نقول : لقد ساير مصطلح ما بعد الحداثة” عند ظهوره وانتشاره ـ العديد من المفاهيم والمعايير الرؤيوية الغربية ومنها مفاهيم (الما بعدية),  مثل ما بعد الصناعة ، ما بعد العلم، ما بعد الفلسفة.. الخ.

 

د.عدنان عويد كاتب وباحث من ديرالزور- سورية

الخميس : 23 ماي 2019.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …