عندما بدأ التقسيم الكبير الثاني للعمل بين الرعي والزراعة والحرفة, وبدأ معه اقتصاد السوق العيني والصغير وما يقوم على هذه السوق من علاقات اجتماعية راح يحدد طبيعتها المالك لوسائل الإنتاج والمنتج, وبالتالي ظهور الملكية الخاصة واستغلال الإنسان للإنسان, هذه الملكية التي راحت تتراكم عند المالك على حساب المنتج, الأمر الذي دفع المنتج أن يبحث عن سند له يدافع عن حقوقه وأمنه وعدالته في محيطه الاجتماعي, فلم يجد من يقف معه او يدافع عنه. وهنا بدأت الإرهاصات الأيديولوجية للدين تستخدم من قبل الفقراء المنتجين ومن يمثلهم من شخصيات خرجت من رحم معاناتهم, ضد الأغنياء المالكين, فكان الفقراء أول من ارتبط بالديانات وراحوا يعبرون بإسمها عن معاناتهم في مرحلة متقدمة من التاريخ الإنساني, وشكلوا عمودها الفقري, حيث وجدوا فيها ضالتهم, أو وسيلتهم المشروعة للخلاص من عذاباتهم. بيد أن المالك استطاع أن يسرق منهم هذا الموقف الأيديولوجي للدين, وراح يوظفه لمصلحته من خلال الكثير من رجال الدين أنفسهم, الذين أغرتهم السلطة والجاه والمال, وشيئاً فشيئاً راحوا يقنعون المنتجين بأن سبب فقرهم هو شيء آخر غير المالك المتحكم بلقمة عيشهم, وإنما هناك أسباب أخرى تعود إلى قوى غيبية شاءت أن أتقسم الرحمة (الرزق) بين الناس وتجعل بعضهم سخرية لبعض, أمام هذه التغييب المعرفي لأصل معاناة الفقراء والحرومين, وما يرتبط بهذه المعاناة من غربة واستلاب وتشيئ وظلم وقهر وضياع لجوهر الإنسان, بدأت الثقافة العالمة تفرض نفسها جزءاً أساسياً من وعي الناس, وهي ثقافة غربة الإنسان وضياعه في منتجاته, أو علاقات إنتاجه. أي هي الثقافة التي فقد فيها الإنسان ذاكرته التاريخية الحقيقية في معرفة أسباب قهره التاريخي واستطالاته وتعدد أشكاله, فراح يبحث عنها في (فردوسه المفقود)… أي في عصر طفولته الإنسانية التي غلفتها أنسجة لا حدود لها من الوهم والأساطير, بما تحمله من رؤى وأفكار غير حقيقية عن سعادته آنذاك, وعن سبب فقدانه لهذه السعادة, وما حل به من شقاء وضياع لأمنه واستقراره. وبناءً على أساس هذا الضياع راح الإنسان يمني نفسه داخل معطيات هذه الثقافة بتحقيق سعادته وأمنه وعدالته وبالتالي خلاصه. لقد بقي هذا الإنسان الضائع والمستلب والمشيء, يحلم ويطمح في كل دورة حياتية جديدة له – وغالباً ما تكون سنوية (أعياد الميلاد وغيرها من أعياد) – بالخلاص من ضياعه وخطاياه وذنوبه وغربته وتشيئه واستلابه في عالمه هذا, لعله يخرج إنساناً بولادة جديدة. بيد أنه ظل يعيد للأسف إنتاج قهره وظلمه بسبب استمرار إيمانه بتلك الرؤى الأسطورية وطقوسها ورموزها التي يعول عليها خلاصه الأبدي, دون البحث في بنية علاقاته الاجتماعية القائمة حيث تكمن كل أسباب قهره فيها.
نعم…إنها ثقافة الأسطورة والمقدس والوهم والتخيل واللامعقول بكل أشكالها التاريخية ومن ضمنها الثقافة البدائية التي لم يستطع الإنسان حتى هذا التاريخ أن ينسلخ عن الكثير من معطياتها. إنها ثقافة تقديس الشجر, والحجر, والضحية ودمها, وسن الذئب وجلده, ونضوة الحصان, وريشة الطائر, ورأس الوعل, والثعبان, والخرزة الزرقاء, وإشعال الشموع …
إنها ثقافة الخوف من الحاضر والآتي, بل وحتى الماضي, وما يرافق هذا الخوف من بحث عن سر الخلاص عند الشيخ وحجبته أو تميمته, أو عند الساحر ومائه ورماد نيرانه وأسماء جنياته وجنه.. إنها الثقافة العالمة لسر الوجود وحركة الكون وكوارثه أو نعمه.. إنها ثقافة الأسطورة التي لم تزل تهيمن على حياتنا ونفسر بها قوانين حركة الطبيعة والمجتمع, وعالم الإنسان الداخلي في خوفه ومرضه وألمه وحلمه ورغباته.
إنها ثقافة استرداد الماضي التي لم نزل نعتقد أننا بإحياء ذكرى بعض محطاته سنوياً سنستعيد فردسونا المفقود الذي يمنحنا تجديد حياتنا وخلاصنا الذي لم نعرف في أي مرحلة كان هذا الفردوس من تاريخ حياتنا وكيف كان, وما أكثر تلك المواقف (الأعياد) وتعدد دلالات إحيائها, أو الوقوف عند ذكراها.
هذا مع تأكيدنا بأن هذه الثقافة العالمة أصبحت الأكثر خطورة, بعد أن أخذت بعداً معاصراً رغم كل التطور العلمي والمعرفي, حيث تجسدت هذه الثقافة العالمة في بعض صيغها الأكثر حضارية وعصرية في إعادة تأكيد الانتساب إلى الطائفة والمذهب والحزب والطريقة الصوفية, التي يتلقنها الأفراد عبر طقوس تنسيبية, تمنح لهم على درجات ومراتب يشعر المرء في كل مرحلة يرتقي فيها داخل هذه التجمعات أنه خُلق خلقاً جديدا, وأنه حقق تمايزاً معرفياً ووجودياً عن غيره في معرفة نفسه وما يحيط به.. إنها ثقافة الشيخ والبطل السلبي بكل أشكال تجلياته السياسية والدينية والقبلية الذي نزحف على ركبنا للوصول إليه وتقبيل يده أو أخذ البركة من حضوره ولمسات يده كما هو الحال عند شيخ الطريقة الصوفية, أو الرضوخ له ولرأيه كما هو عند شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب … إنها ثقافة كل الرموز التي تُحول الفرد منا إلى ريبورت يشعر أن كل ما تعلمه من هؤلاء هو بداية المعرفة ونهايتها, وأن معرفة الكون والمجتمع والفرد تكمن فقط فيما نتعلمه من هؤلاء.
إن الثقافة العالمة هذه, هي ثقافة الرموز والطلاسم التي لا تنتمي للعقل ولا لنشاط الإنسان, بل هي تريد للعقل والإنسان وحاضره أن ينتمي إليها, كونها هي وحدها من تمتلك الحقيقة المطلقة والعارفة بما كان وما هو كائن وما سيكون. وهي وحدها الصالحة لكل زمان ومكان… نعم… إنها الثقافة الْعَالِمَة.
*د.عدنان عويد كاتب وباحث من سورية
الجمعة : 17 ماي 2019.