(1)
أعترف بأنني اندهشت، بسعادة بالغة، وأنا أتابع الدرس الرمضاني الأول في حضرة أمير المؤمنين، عندما سمعت اسم ماكس فيبر، في محفل ديني له خصوصية بليغة في المغرب والعالم الإسلامي.
لم يكن الاسم القادم من السوسيولوجيا الحديثة والسجال الفكري الذي طبع القرن العشرين، واردا بفعل سُنن الدروس، باعتباره عَلما من أعلام قارة فكرية أخرى بعيدة كل البعد عن القارة الروحية للدين في رمضان، وهو إلى ذلك له ذاكرة مع كل منتم إلى منظومة التفكير الحديث، وله تاريخ مع صراع الأفكار التي عرفتها ساحات الجامعات والمدرجات العلمية، وفي غيرهما.
كان اسم فيبر همسا ثم جدالا ثم حجرا في بركة الاطمئنان الذي سكن تيارات واسعة من الفكر اليساري، ثم الحداثي بالمغرب، قبل أن يتم التسليم به عالميا كمرجعية لا محيد عنها لفهم إشكالات عتيقة في الممارسة والتنظير.
ونحن في المغرب معنيون به، على الأقل في معادلتين اثنتين: معادلة الدين ومعادلة الدولة، ومعادلة علاقتهما واشتغالهما في جدلية فيبيرية، ذات أرضية سوسيولوجية، بنَفَس فلسفي عميق لم يخْبُ مع توالي التعقيدات في العالم المعاصر…
وبهذا، فقد نجح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي في ملامسة حلم تنظيري لباحثين ومفكرين مغاربة عديدين، وهو يستدعي المفكر والسوسيولوجي الألماني، ماكس فيبر، في تأويل نص قرآني، من خلال آية النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، ففي مساء يوم الجمعة الماضي، ألقى الوزير درسه الافتتاحي الرمضاني في موضوع «استثمار قيم الدين في نموذج التنمية»، انطلاقا من قول الله تعالى في سورة آل عمران «كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله». وفي المغامرة الفكرية، الشيقة حقاً، عدة مفاهيم مؤطّرة، يبدو للوهلة الأولى أنها تنتمي إلى حقول متباينة المعايير والمستند المنطقي، من قبيل التنمية والنموذج التنموي، والأخلاق في الاقتصاد، وفلسفة الخير ومنطق المنكر… إلخ. وفي المحور المتعلق بـ»البحث عن علاقة القيم بالاقتصاد خارج سياق الإسلام»، أبرز المحاضر أن البحث الفلسفي في هذا الموضوع، والذي امتد عبر أربعة قرون، انتهى موضوعياً، وبقطع النظر عن المرجعية، إلى مضمون الآية القرآنية في توقف إصلاح الجماعة على ضرورة وجود أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر، تتبنّاه الجماعة لغاية طلب الحق والعدل، غير أن الاقتصاد، سيما في القرنين الأخيرين في الغرب، قد ذهب في اتجاه ليبرالي، بفلسفةٍ جوهرها أن الحرية في اكتساب المال وترويجه ستعود بالنفع على الجميع.
ولا يمكن ألا تحيل هذه المعالجة على قول ماكس فيبر في كتابه الموسوم أعلاه، عندما يقول إن «الرأسمالي الحقيقي لا يراكم رأسماله من أجل الاستجابة لدواعي المسرّات واللذائذ التي يمكن لرأس المال أن يوفرها له، بل بهدف الوصول إلى تنظيم وعقلنة للعمل والإنتاج، يؤديان إلى إثراء الحياة البشرية، وبالتالي إلى تفسير الظرف التجاري الخاص، بوصفه اختياراً إلهياً، ودليلاً على أن الإنسان، منذ البداية، مهيأ لذلك، منذور من أجله في ما يحمل مصلحة أبنائه وذريته وجماعته».
وقد بين الوزير أيضاً أن ماكس فيبر أعاد في أطروحته المنشورة عام 1905، عن «الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية»، النقاش بشأن تأثير قيم الدين في الاقتصاد، فذهب إلى القول إن التفسيرات الدينية لطائفة البروتستانت قد تحكّمت في سلوكاتهم الاقتصادية بخصوص الادخار والاستثمار، غير أن الباحث الألماني، إرنست طرولتش، مؤسس السوسيولوجيا الدينية، أغنى أطروحة فيبر وعدلها، وأشار إلى أن تأثير الدين في الاقتصاد لا ينحصر عند ثنائية البروتستانت والكاثوليك، بل ظهر في دياناتٍ أخرى في أوقات وأزمنة مختلفة، وهو ما يعلل لجوء صاحب الدرس إلى قراءة المتن القرآني من زاوية تأثير الدين في الاقتصاد، وقد حقق بذلك، بالانطلاق من الحداثة الفكرية في شقها الغربي الأمريكي، والتوجه نحو التراث، لفهم النص التراثي بآليات التفكير الحديثة.
(2)
وفي تفسير القرآن، من هذه الزاوية، كما يرى مالك شبل في كتابه «بيان من أجل إسلام الأنوار(2004)» ، سيكون المطلوب «ملاءمة الإسلام مع الحداثة، وهو ما يعارض أطروحة الأصوليين التي تهدف، لا أقل ولا أكثر، إلى تكييف الحداثة مع الإسلام، بما في ذلك إسلام القرن السادس أو القرن الثامن»، وقد يكون هذا المجهود قد تم في محاولات كثيرة جدّية وجريئة، من حيث التعامل مع النصوص التراثية ونصها السياقي، بما هو النص القرآني الذي تتحدّد فيه تاريخية الأمة، سواء في البحث المغربي، أو العربي الإسلامي عموما، ففكرة مصالحة الإسلام مع عصره، أغرت مفكرين عديدين ينتسبون إلى حقل العقلانية الواسع، منهم محمد الطالبي في تونس ومحمد أركون في فرنسا وبشارة خضير في بلجيكا ومحمد سعيد العشماوي ونصر أبو زيد في مصر ومحمد عابد الجابري في المغرب وغيرهم. غير أنها مرة نادرة تلك التي استنطق فيها الوزير المؤرخ والروائي صاحب «جارات أبي موسى» الشهيرة، نصا قرآنيا له امتداداته في السلوك العام للأمة وللمؤمنين عموما، ويخلق تبايناتٍ صدامية أحيانا بين طرائق التفكير، أمام العاهل المغربي في مناسبةٍ ليست عادية، وهي الدروس الحسنية الرمضانية التي كان قد سنها الملك الراحل الحسن الثاني، للإنصات لاجتهادات وتنظيرات دينية واجتماعية، تتوزّع بين التأصيل الفقهي لنوازل العصر ومراجعات التصورات بالاستناد إلى التاريخ.
لا نتجه هنا من التراث نحو الحداثة والبحث عن امتدادات النص التراثي في العصر، بقدر ما نسعى في اتجاه معاكس، يكون الفهم فيه قد تربّى في حضن التفكير الحداثي، ويتجه نحو سبر أغوار النص التراثي، والبحث في موضوعٍ ما زال يحتفظ بطراوةٍ كثيرة، إن لم نقل في الدهشة لدينا جميعا، وهو معادلة الدين، باعتباره العامل المهيكل الأول للثقافة، وتأثيره الهائل في آليات النمو الاقتصادي، كان ماكس فيبر موضوع جدال كبير بين الماركسيين العرب والماركسيين المجدّدين، كما أن مجهوداته في تنويع العرض السوسيولوجي، بعد كل الثورات العلمية والمعرفية التي عاصرها، ظلت حكرا على زاويةٍ شبه ضيقة في التعامل معها، من الباحثين عن تأصيل التفكير السوسيولوجي أكثر من الباحثين في الترابط بين القوتين، الدينية والاقتصادية، وكتابه المثير عن البروتستانتية والرأسمالية جدير بالعودة إليه.
وما زلت أذكر أن اسمه وحده في المحافل الطلابية في السبعينيات والثمانينيات كان يثير سخط السواد الأعظم من طلبة الانتماء الماركسي والماركسي اللينيني، ناهيك عن رفض منظّرين ومناضلين وعاملين في الحقول المعرفية والتاريخية كثيرين المطلق لمجهوداته، وقد كان جوهر تفكيره كيفية تأثير الدخول في الحداثة على المجتمعات، بما قد يتداعى عن ذلك من قضايا مرتبطة بالرأسمال والبيروقراطية وعقلنة التاريخ، والمفهوم المتجدّد للدولة وأدوارها، وما إلى ذلك.
لقد وضع ماكس فيبر أسس تفكير جديد في الرأسمالية، داخلية، تجعل منه «فن وجود أخلاقي»، قبل أن يكون نظاما اقتصاديا، ومن هنا دعوته إلى الشروع في دراسة أخلاق رأس المال قبل البحث فيه ناظما وموجها للعوامل الدينية في دينامية عقلنة السلوكات العملية، باعتبارها ميزة أساسية للحداثة وفيها، ما جعله مرجعا في مجاله، تعود إليه اليوم البشرية بتحفيزات جديدة، ويقرّ فيبر، بلا مواربة، بأن البروتستانتية، باعتبارها حركة إصلاحية داخل المتن الكاثوليكي الجامد، هي المؤهلة لكي تحمل دينامية الرأسمالية، وقد تكون الإحالة عليه الآن دعوة، بوعي غير مباشر، إلى حركة إصلاحية دينية، تتمثل الإصلاحية البروتستانتية في العمل وفهم الأخلاق المرتبطة بها، داخل المتن الإسلامي وتاريخه.
عرفت الدروس الرمضانية مقارباتٍ كثيرة تقرّب بين الأهداف المعلنة والصريحة للقيم الدينية والمبادئ السامية للدين الحنيف، كما شهدت مساهماتٍ عديدة لباحثين جدد، وباحثاتٍ شكلن علاماتٍ فارقةً في الدرس الديني، في محفل له ميزاته الباصمة في الحقل الديني الإسلامي في عموم الدائرة المؤمنة، ولكنها المرة الأولى التي تكون مقاربةً بمثل هذا الوضوح والتفاعلية مع الفلسفة المعاصرة في المبحث السوسيولوجي، ناظمة للتفكير الديني في قضية معيشية، يلتقي فيها الرأسمال والبحث عن التنمية ونموذجها الفاعل، مع التراث القيمي والأخلاقي الإسلامي، وفي التمرين الذي قام به الوزير المؤرخ الروائي ملمح من ملامح الفيبرية التي ترى أن الدولة قد تكون من أدوات عقلنة التاريخ، ومنه التاريخ الديني والتفكير العقائدي، كما «يمكن للتفسير الجديد للنصوص أن يصبح نظرية كاملة ومستقلة بذاتها، بإنتاجها الفكري وتاريخها في اليومي وجيواستراتيجيتها الخاصة بها»، على حد «بيان من أجل إسلام الأنوار» سالف الذكر.
الخميس: 16 ماي 2019.