الفقر مشكلة إنسانية كبرى شغلت بال عدد من المفكرين والفلاسفة والاقتصاديين منذ القديم . بحثوا عن ماهيته ، واسبابه ، ومظاهره ، وخطورته ، وكيفية القضاء عليه . وكان الفيلسوف الفرنسي ” برودون ” من الذين اشتغلوا على الفقر تحليلا ودراسة ووصفا وتحملا ومقاومة ، والف في موضوعه العام كتابا سماه ” فلسفة الفقر ” ، تحدث فيه عن الملكية ، والعمل ، وأنواع القيم ، والاحتكار ، والسياسة التحكمية …
ولما أنهى هذا الكتاب العظيم عرضه على صديقه ماركس ، كما جرت العادة في الاستنصاح الأدبي والعلمي والثقافي . وكان قصد برودون ان يعطي ماركس رأيه في هذا الكتاب .
قرأ ماركس الكتاب في يومين !
أعلن بعدها أن الكتاب سطحي ، مليىء بالأخطاء ، مهلهل ، فيه ما يكفي من البلاغة لتضليل الجماهير الفقيرة …واتهم برودون بأنه لم يفهم فلسفة هيجل ، ولم يفهم الصراع الجدلي بين الطبقات ، مثالي في تحليله إلى أبعد حد …
وذهب ماركس إلى أبعد من ذلك ، فألف كتابا سماه ” فقر الفلسفة ” ، خصصه لإعدام كتاب برودون ” فلسفة الفقر ” .
لقد تضمن كتاب ماركس أشد هجوم وجهه مفكر إلى مفكر آخر منذ تراشق المتجادلين في عصر النهضة . وحرص ماركس على ان يثبت ان برودون ليس فيلسوفا ، ولا قبل له بالتفكير المجرد على الإطلاق ، وأنه يحاول إخفاء هذه الحقيقة عن طريق استخدام المصطلحات الهيجلية المزيفة .
لقد قرأت الكتابين معا عدة مرات منذ أزيد من ثلاثين عاما ، وأعدت قراءتهما في هذا الشهر ، لان موضوعهما لا زال مهيمنا ، ولا زالت المجتمعات تعاني من شر الملكيات اللبيرالية الضخمة ، ولا زال الاحتكار وسيلة لقهر الطبقات الفقيرة ، ولا زال الفقر يفتك بالمجتمعات ، ولا زالت الأقليات المستغلة تستولي على جل مصادر الثروة في كل بقاع العالم ، خصوصا في إفريقيا وفي آسيا …
لقد تحامل ماركس تحاملا كبيرا على برودون ، وسفه آراءه في الاقتصاد السياسي ، وقلل من شأن كتابه ، واستهدف شهرته الشعبية ، ومركزه عند الطبقات الفقيرة ، مع العلم أن الجماهير التي يكتب لها برودون تحس بأنه مخلص فيما يكتب ، صادق فيما يقول ، صريح وواضح وشجاع وأصيل ، وأن ما يكتبه منبثق من حاجات ومطامح الجماهير الفقيرة التي ينتمي إليها بنفسه .
كتب برودون ” فلسفة الفقر ” وكتب ماركس ” فقر الفلسفة “،
ويبدو أن الفقر أخطبوط مصنوع يتحدى برودون وماركس وغيرهما . الفقر ليس قدرا مقدورا ، بل لا يكاد في الواقع يوجد فقر دون فعل بشري ، فالفقر في مجمله إفقار وقبول ورضى بهذا الإفقار . لا زلنا نسمع خطابات تشجع الفقراء على تحمل الفقر كقدر نازل ، وعلى التعايش معه والتعامل معه بصبر وتحمل إسبرطي ، وأن السعادة في الرضى بالفقر ، والشقاء في مقاومته ومقاومة المفقرين …
صرخ برودون حتى بحت حنجرته في ضرورة مقاومة الفقر المصنوع ، وصرخ غيره من المفكرين والفلاسفة المصطفين مع الجماهير الفقيرة …وهل من سامع ؟؟؟
وفي الأخير أشير إلى أن الاستنصاح في المجال العلمي والأدبي والفني ، كثيرا ما ينتج إحباطا ويأسا ، وما فعله ماركس لبرودون ، وقع له هو أيضا لما كتب مؤلفه الضخم ” رأسمال ” وعرضه على داروين استنصاحا ، فرد عليه داروين ردا باردا ، رافضا قراءته ، محتقرا موضوعه …
نادرا ما يصدق المستنصح في نصحه ، الغالب أن يحبطك ويجعلك تشعر بالعبث فتغادر حتى لا تزاحم.