بصراحة تامة هناك قلق مبرر يتزايد عند الكثيرين من أن بعض الإعلام العربي، قد أصبح مصدراً رئيسياً من مصادر خلق وإشاعة ثقافة اللا تسامح في مجتمعات بلاد العرب . ولعل التسابق والتّزاحم على اجتذاب انتباه وولاء أكبر عدد ممكن من القراء والمستمعين والمشاهدين، من اجل التباهي من جهة ومن أجل ممارسة غطرسة القوة المعنوية المجتمعية من جهة ثانية، قد قادا بعض المؤسسات الإعلامية إلى غضَ الطرف عن ظاهرة ممارسة الفهلوة الكلامية والنكتة الجارحة السمجة والمبالغات المثيرة لغرائز الحقد والكراهية والعمى الإدراكي والتطرف والتعصب في الفكر واللغة .
إن المحصلة النهائية للتعامل بتلك الصورة مع الإعلام السياسي العربي على الأخص، ستقود إلى إضافة ثقافة اللاتسامح إلى ثقافة التخلف لينتهي الأمر بنا إلى خطابات سياسية لا ديمقراطية ومضادة لحريات الآخرين .
وإذا كان لابد من ذكر أمثلة لتلك الممارسات الخاطئة فان الإنسان يشاهدها يومياً على شاشات الفضائيات العربية .
أفجع الأمثلة هي تلك الحوارات السياسية حول قضايا الساعة والتي تتصف أجواؤها بغياب الموضوعية والتوازن المنهجي والإنصاف في مناقشات الأخذ والعطاء، هي في كثير منها تمارس أساليب الاستعداء والاستخفاف والإقصاء والتعميم غير المنضبط .
الأمر نفسه ينطبق على مبارزات الفضائيات الدينية المذهبية الكلامية والتشهيرية ضد بعضها البعض، حيث تسود المماحكات وتشويه صورة الآخر لتصل أحياناً للتكفيروالإخراج من الملة ورحمة الرحمن
ويصل الإسفاف إلى قمته عند المرجفين اللاعنين الذين يملؤون بعض شاشات الفضائيات العربية الرسمية عندما يمارسون وظيفة النيل من شرف ونيات وتاريخ كل معارض مطالب بالإصلاح .
نحن لا نعترض على شدة الاختلافات في الرأي ولا على الفضح المدويّ للمارسات الخاطئة بحق المواطنين والوطن والأمة . إنما نعترض على أن يتم ذلك بمستوى مهني أو مناقبي غير مقبول وبروح التشفي واللاتسامح .
إن القضية تكمن في حقيقة من حقائق العصر الذي نعيش، وهي صعود المؤسسة الإعلامية إلى مكانة لا تقل عن مكانة البيت أو المدرسة، وذلك بالنسبة لغرس القيم والسلوكيات الإنسانية الفاضلة في نفوس وعقول الأجيال الشابة على الأخص . لذلك فان ممارساتها الخاطئة ستنعكس سلباً على مستقبل الثقافة العربية .
في قلب القيم والسلوكيات الفاضلة موضوع التسامح . إنه مدخل لقلب المساجلات والمبارزات الإيديولوجية المتشنجة إلى مناظرات وحوارات فكرية متفاهمة ويحترم بعضها البعض .
دعنا هنا نذكّر أنفسنا بأن ثقافة التسامح تشير إلى التعامل والتعايش مع آراء وعقائد ومواقف الآخرين بالصبر والمجادلة الحسنة، بتجنب الانقسام والتعصب الاعتباطي، بالبحث عن المشترك، بالرفض التام للعنف الكلامي، بالاحتكام للمعايير الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان الأساسية وخصوصاً مايتعلق بالحرية والكرامة الإنسانية .
دعنا نذكّر أنفسنا بأن روح ونهج التسامح، ممثلاً في نحو مئة آية قرآنية عن حرية الاعتقاد الديني، قد نادى بها الإسلام، ثم تمثلت في أقوال شهيرة من مثل قول الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب) أو قول الإمام أبوحنيفة (كلامنا هذا رأي، فمن كان عنده خير منه فليأت به) .
أما حقل الفلسفة فقد قام وانتعش من خلال فضيلة الحوار المتسامح . وكان الفيلسوف الفرنسي فولتير يردّد: كلنا ضعاف ميالون للخطأ فليسامح بعضنا البعض بشكل متبادل وللقائد الروحي الهندي غاندي دعابة مؤداها: “لا أحب التسامح ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عما أسعى إليه” .
ثمّ إن ممارسة فضيلة التسامح الفكري واللفظي تحتاج إلى شخصية متوازنة ومؤمنة بالمسؤولية الاجتماعية . وهذا لا يتوافر في الكثير من الشخصيات الهامشية في الحياة السياسية والثقافية التي تدعى إلى حلقات النقاش التلفزيونية . بعض تلك الشخصيات تمارس مع الأسف أسوأ أنواع أدب الحوار والمناظرات .
أخيراً هل يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يوجد إن لم تقم العلاقة في ما بين أطرافه الفاعلة على أسس الأخذ والعطاء في المصالح والتسامح في الخطاب؟ فاذا كانت مجتمعات ثورات الربيع العربي تريد الانتقال إلى النظم الديمقراطية، فهل تبدأ ذلك الانتقال بتجاهل أحد أهم وسائل ممارسة الديمقراطية: التسامح في الخطاب؟
أملنا كبير في أن لا يسكر بعض القائمين على الإعلام العربي بنشوة انتصار هذه الفئة أو تلك، فالسياسة، كما هي الأرض، تداول بين الناس .