علينا بداية أن نقر, بأن الأصولية ليست سمة خاصة بالفكر الديني الأصولي السلفي التكفيري وحده. الذي يرفض النسبية والحركة والتبدل والتطور, ودور العقل والإرادة الإنسانية في منح الإنسان القدرة على تحقيق مصيره ومصير الأجيال القادمة في هذا العالم الذي راحت تسوده شريعة الغاب, بل هو ينطبق أيضاً على الفكر الوضعي الذي يرفض الآخر, ويحارب المختلف, ويدعي بأنه وحده من يمتلك الحقيقة, وبالتالي هو لا يختلف من حيث الفكر والممارسة عن الأصولية المتدينة.

    نقول: هناك فرق كبير لا محال بين المجرد والمشخص في وضعية الزمان والمكان بالنسبة للتاريخ البشري. فإذا كان المكان في تجريده عند الفكر الأصولي الديني هو تقديس وإجلال لمكان ما, تم فيه حدث ذو طابع ديني, حوله مع مرور الأيام إلى رمز امتد أو استطال تاريخيا في دلالاته, حتى أصبح له عند المؤمنين به مكانة مقدسة عالية الحضور, تدل على جلال الحدث وعظمته الذي تم في هذا المكان من جهة أولى, مثلما تحول هذا المكان إلى حافز يحمل في مضمونه قوة معنوية يَسْتَمِدُ منه الإنسان المؤمن به جبروته وعزيمته وأمله في مواجهة التحديات التي تفرضها الحياة عليه من جهة ثانية. وبالتالي يتحول هذا المكان الرمز أيضاً إلى وسيلة معنوية يعتقد أو يتوهم من يؤمن به, أنه  في رمزيته وجلاله وعظمته المعنوية قادر على تخليصه أو نجاته من معوقات مادية أو معنوية قد أحاقت به, أو حتى تحقيق أمنيات غير قادر على تحقيقها في الواقع من جهة ثالثة. وهذا ما يدفع المؤمن بهذا المكان أن يشد الرحال إليه مهما بعدت المسافات وطالت من أجل إرضاء ذاته وتقديم الطقس المقدس بحضرة هذا المكان الذي يشعره بانتمائه له.

من هنا جاء المكان معبراً عن دلالاته (الدينية), في الكعبة مثلاً أو في بيت المقدس, أو النجف أو كربلاء, او حائط المبكى, أو في المعابد, و قبور الأولياء الصالحين. وغير ذلك من أماكن مقدسة بالنسبة لحياة الشعوب وتاريخها,.

من هذا المنطلق الرمزي والمعنوي والتجريدي, جاءت أيضاً قدسية المكان في العقائد الوضعية ولو بصورة أقل حدية وعمقاً لدى المنتمين لهذه العقيدة الوضعية وأمكنتها,  كتعبير عن حدث أصبح له أهميته وقيمته المعنوية في حياة الشعوب والجماعات تاريخياً, مثل معركة ما, أو شخصية ما, تجسدت قيمتها ودلالاتها, في نصب الشهداء أو القادة العظماء, أو ساحات التحرير أو أماكن معارك فاصلة في حياة أمة أو شعب أو دولة, مثل موقعي حطين, وميسلون  وغيرهما الكثير من الأماكن أو النصب التذكارية التي تدل على مكانتها المعنوية عند شعوب العالم.

بيد أن الفرق بين الموقفين الأصوليين (الديني والوضعي) من المكان, هو أن الفكر الديني الأصولي يوصل الفرد أو الجماعة في  في حالة الانتماء لهذا المكان إلى درجة التقديس المطلق, الذي لا يقبل المساومة والمراجعة والنقد, وبالتالي كثيراً ما حل المكان في نفسيات وعقول المريدين أو المؤمنين به إلى درجة ميثولوجيه (أسطورية), وهنا تكمن المشكلة بالنسبة للمؤمن أو المريد, حيث يمنحه المكان حالة حيوية من (التواكل) وإيقاف لدور العقل والإرادة الإنسانية في سيرورة وصيرورة حياة الفرد والمجتمع.

على العموم نستطيع أن نضيف في هذا الاتجاه بأن موقف الدين أو العقيدة في صيغتها الأصولية الجمودية الوثوقية من المكان موقفاً أسطوريا, اختصر تاريخ المكان بالمقدس منه كونه مكان ارتبط بالعقيدة, وكل ما عداه هو مكان طبيعي لا يشكل شيئاً عند الحملة الاجتماعيين للفكر الأصولي الديني, لذلك لا نستغرب أن يكون هناك مكانان (دار كفر ودار إيمان). فالنجاة والقوة والعزيمة والأمل تنبع من المكان المقدس وما ينتمي لهذا المكان فقط.

أما بالنسبة للزمان وموقعه في حياة الشعوب عند الفكر الديني والوضعي, وأقصد بالوضعي هنا ما يعبر عن نشاط الإنسان الحر المنفلت من عقال الديني الأصولي الوثوقي فيما يتعلق بالزمان, فله أهميته وطرافته من جهة, مثلما له تحدياته من جهة ثانية.

إن زمن (تاريخ) الشعوب في قسم كبير منه بالنسبة للفكر الأصولي الديني, هو زمن ديني. بمعنى أن للدين أو العقيدة دوراً كبيراً في تمويل أحداثه الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسة والثقافية, فمعظم هذه الأنساق جرت وتحققت وقُيمت وفقاً لمنطلقات عقيدية (دينية), منذ أن بدأ الإنسان يمارس نشاطه الحياتي من أجل الحصول على حاجاته المادية والمعنوية بكل تفاصيلها. وإن أي خروج عن فهم هذه المنطلقات العقيدية بصيغتها المشار إليها أعلاه, والمتحكمة في إنتاج وضبط وتقويم هذه الأنساق في المضمار الزمني, وخاصة بالنسبة للديانات السماوية بشكل عام, وللديانة الإسلامية بشكل خاص, هو شكل من أشكل الخروج أو الانحراف غير المرغوب فيه عن هذه المنطلقات العقيدية, ولا بد من إعادة تصيح هذه الانحرافات الفكرية وتقويمها بهذا الشكل أو ذاك, والعودة بها إلى مسارها العقيدي الديني الصحيح, وإلا ستظل هذه المسارات تمثل سلوكيات مشينة في حياة الفرد والمجتمع, التي حددت مسارها العقائد الدينية بشكل مطلق وثابت غير قابل للتعديل أو حتى المرجعة.

إذن إن أي تحدي لهذا الفهم العقيدي الديني لسيرورة الزمن في الفكر الديني الأصولي, الذي يأتي – أي التحدي – في الغالب من قبل القوى الاجتماعية التنويرية العقلانية, يشكل نتوءات غريبة أو شاذة على سطح التاريخ الإنساني, وتعتبرها القوى الاجتماعية الأصولية الوثوقية حالات تمرد من قبل العقل الإنساني ضد إرادة العقيدة الدينية صاحبة القرار الأول والأخير في تحديد مسيرة التاريخ, وبالتالي لا بد أن تواجه بقسوة, من قبل حماة العقيدة وقيمها ومُثِلِهَا, وقد تصل درجة العقاب على هذا التمرد إلى حالة من (التسونامي) القادر على تحطيم الأخضر واليابس في حياة المتمردين, إذا لم يعاد الاستقرار والتطابق بين مفهوم الزمن في  المسيرة التاريخية للشعوب, و بين العقيدة الدينية في صيغتها الوثوقية التي تعتبر الزمن هو الله.

من هنا نرى بأن الزمن عند من يُعبر عنه دينياً في صيغة وثوقية أصولية جامدة, سيظل زمناً مجردا ثابتاً ومطلقاً, ويفتقد بالضرورة إلى الفهم الموضعي العقلاني لسيرورته وصيرورته, وبالتالي تحولاته عبر التاريخ المشبع بنشاط الإنسان الحر والوعي. أي سيرورته وصيرورته العقلانيتان اللتان يقوم الإنسان التاريخي ذاته بتشكيلهما وبناء عمارتهما بكل مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فالتاريخ في الزمن الديني, هو تاريخ القدرة الإلهية التي حددت مسار هذا التاريخ البشري وتكوين عمارته بأمر إلهي مطلق: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكن).. وبالتالي ما خَلْقِ الإنسان كإنسان من جهة, أو كأفعال إنسانية من جهة ثانية, إلا تجليات لهذه القدرة الإلهية التي رسمت وحددت كل شيء بشكل مسبق. وعلى الرغم من أن هناك مساحة واسعة لمسألة قدرية الإنسان في الأديان أو العقائد ومنها العقيدة الإسلامية, إلا أن الموقف السلفي الجمودي الوثوقي, يحول دون السماح لها بالظهور وأخذ مكانها في التاريخ البشري, وإن وجد من يفسح في المجال لها بشيء من الظهور والتعبير عن قدرية الإنسان, فهو من باب الكسب كما تقول نظرية الكسب عند أبي حسن الأشعري. فالعقل والإرادة وجدا, أو أعطاهما الله للإنسان لتثبيت النص وليس للحكم عليه.

إن الزمن بتعبير آخر في هذا الاتجاه الأصولي الوثوقي التكفيري, هو زمن مجرد, وليس أكثر من (آنات) متقطعة تفتقد إلى السيرورة والصيرورة التاريخيين المشبعتين بنشاط الإنسان الإبداعي كما أشرنا أعلاه. فالإنسان هنا ليس أكثر من وسيلة أو آلة لا تتحرك أو تعمل إلا بسلطان, وكل من يقوم بطرح حلول وضعية لتغيير مسار هذه الحياة, إن كان عن طريق العلمانية أو الديمقراطية أو دولة المؤسسات أو القانون أو المواطنة, إنما هو يعمل على تحدي مسيرة وصيرورة التاريخ الإلهي. وبالتالي هو مبتدع, وقد تصل درجة إبداعه إلى الزندقة والكفر.

إن هذا الموقف الأصولي الوثوقي, قد نجده للأسف أيضاً عند قوى سياسية تدعي العلمانية فكراً, إلا أنها قوى أصولية بصيغة معاصرة في ممارستها بعد أن غلبتها شهوة السلطة, وراحت تتعامل مع الزمان برؤية أيديولوجية, أهم ما فيها هو اعتقادها بأن الزمن يقف عند رؤيتها ومنهجها هي فقط, وكل ما عداها هو انحراف وتشوية لسيرورة الزمان, وهذا ما وجدناه فكراً وممارسة عند الكثير من الأنظمة التي تبنت الفكر اليساري على مستوى الحزب والدولة. .

ملاك القول: يظل العلم والمعرفة بقوانين حركة الواقع وتطوره وتبدله, وبالعلاقة الجدلية بين الواقع والفكر, القائمة على إدراك ومعرفة بأن الإنسان خليفة على هذه الأرض, وأنه وحده من يمتلك حرية التصرف في شؤونه وتحقيق مصيره, هي المقومات الموضوعية القادرة على تحطيم كل الرؤى والمواقف والأيديولوجيات الفكرية الجمودية, وما يرتبط بها من ممارسات لا تاريخية ولا عقلانية في تعاملها مع فكرتي الزمان والمكان.

إن الموقف العقلاني من الزمان والمكان في الفكر الوضعي يقر بأنهما لم ولن يكونا في محط عالم التجريد والخيال والوهم والأسطورة, بل كانا ولم يزالا في محط المشخص الذي لحمته وسداه الإنسان بكل قوته وجبروته وعظمته ومغامراته وعشقه للحياة.. فالمقدس الحقيقي في هذا التشخيص الموضوعي العقلاني, هو فعل الإنسان ونشاطه وعقله وحرية إرادته, وأخيراً مسؤوليته اتجاه نفسه واتجاه الآخرين.

 

*د.عدنان عويد كاتب وباحت من –ديرالزور- سورية

السبت : 27 أبريل 2019.

 

 

 

 

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …